هل ترامب «مجنون» وترومان «عاقل»؟!
في إطار الصراع الحالي على السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، لا تتورّع فصائل النخبة الأمريكية المنافقة عن الدخول ضد بعضها بعضاً في مفارقات بعضها مثير للسخرية حقاً. فقد أعلنت رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي الجمعة، أنها بحثت مع القيادة العسكرية للولايات المتحدة منْعَ رئيس البلاد الحالي، دونالد ترامب، إطلاق أي عمليات عسكرية أو ضربات نووية.
ورغم أنّ هناك اتجاهاً في الولايات المتحدة الأمريكية يسعى إلى «الانكفاء إلى الداخل» والانسحاب من الحروب ومحاولة تجنب التورط بحروب جديدة وخسارات جديدة للولايات المتحدة المتراجعة والمتزايدة ضعفاً وتأزماً عبر العالم، لكن لسنا سذّجاً لنصدّق بأنّ أيّ مسؤول أمريكي، مثل بيلوسي أو غيرها إذا أعلن أنه دعا إلى «إجراءات احترازية لمنع ترامب من القيام بأي أعمال عدائية أو إصدار أمر بشن ضربة نووية»، وفق ما قالت في رسالتها إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة – لن نصدّق بأنّ هذا إنما دافعه «محبةً للسلام» أو «خشيةً على أرواح المدنيّين» أو على «الديمقراطية» المزعومة.
بل من الواضح أنّ ذلك استثمارٌ سياسيّ في توقيتٍ «مناسب» من وجهة نظر مستثمريه، في سياق معركة الصراع على السلطة، والتي لا بأس فيها في هذا الوقت، بنظر خصوم ترامب طبعاً، من بعض التهويل والنفاق، كما في قول بيلوسي: «إنّ وضع هذا الرئيس المختل بلغ أقصى درجات الخطورة، وعلينا أن نفعل كل ما في وسعنا لحماية الشعب الأمريكي من هجومه غير المتوازن على بلادنا وديمقراطيتنا».
والخطوة التي أعلنها مكتب بيلوسي بأنها اتصلت برئيس هيئة الأركان المشتركة، بوصفها رئيسةً لمجلس النواب، لكي يجيب على أسئلتها «بشأن سلطة القيادة النووية»، لتبلغ الديمقراطيين في المجلس بأنها تلقت كجواب على «قلقها» هذا «تطمينات من جانبه بأن هناك إجراءات أمان في حال قرر ترامب إطلاق سلاح نووي» – هذه الخطوة يجب ألّا تنسينا بأنّ احتمالات «الجنون» العسكري والإجرام بحق الشعوب، بما فيه الإجرام النووي، هو ميلٌ متأصّلٌ لدى قيادة الولايات المتحدة الأمريكية. إنها أمريكا التي لا تجفُّ دماء ضحايا الأبرياء في عدة بقاعٍ من بلدان العالَم التي غزتها واحتلّتها ودمّرتها، إمّا بشكلٍ مباشر أو غير مباشر عبر مرتزقتها وفرق موتها ودواعشها وإرهّابيّها وصهاينتها، في فلسطين وسورية والعراق وأفغانستان، وغيرها... أو عبر الفاسدين الذين إمّا تنصّبهم بانقلابات تدعمها لقمع الشعوب ونهبها «ديمقراطياً»، أو الذين يبيعون أنفسهم لها وينهجون وصفاتِها ويخرّبون أوطانهم ويذلّون شعوبهم. ذلك أنّ الحرب هي الرئة الحديدية التي تتنفس منها الرأسمالية، فما بالك بأعلى مراحلها (الإمبريالية) عفناً وانحطاطاً. وبالتالي هو ليس حكراً على أحد جناحي الحزب الحاكم الأمريكي ذي الرأسين (الجمهوري والديمقراطي)، وليس حكراً على ترامب دون بايدن أو العكس. فلدينا شاهد من التاريخ أنّ الرئيس الأمريكي الذي أمر بإبادة هيروشيما وناغازاكي في آب عام 1945 لم يكن في الحقيقة سوى هاري ترومان (الذي كان من الحزب الديمقراطي بالمناسبة)، والذي لم يُعتَبَر حتى الآن لدى النخبة الأمريكية المنافقة «مجرماً» ولا «مجنوناً»، ولم تتم أبداً لا محاسبته ولا «عزله من منصبه» بسبب شكوكٍ حول «رجاحة عقله» مثلاً، بل أكمل رئاسته بشكل طبيعي والتي استمرت من 1945 حتى العام 1953 رغم أنّه افتتح هذه الفترة بالذات بأكبر جريمة نووية في التاريخ!
أما الأمر الذي يعتَبَر عادةً من الأسباب الرئيسية في تعرض ترومان لانتقادات خلال عهده، وخاصة في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1948 فهو بشكل رئيسٍ ما قيل عن سقوط «شبكاتٍ للشيوعية» كانت داخل إدارته، وحتى لو كانت هذه ذريعةً أيضاً لصراع على السلطة وللدعاية المضادة للشيوعية، ولكن المهم أنّ ترومان لم يتمّ عزله إطلاقاً لأنه مجرمٌ نووي.