البرهان يذكّر...«أمريكا ليست جمعية خيرية»!
لا تزال أصداء الاتفاق الأولي لتطبيع العلاقات بين السودان والكيان الصهيوني مسموعة، فآثار هذا الاتفاق تتفاعل في الداخل السوداني، وتترك ظلاً ثقيلاً على القوى السياسية والتحالفات القائمة في مجلس السيادة السوداني، مما يزيد من فرص تحولات غير محسوبة في المرحلة الانتقالية الحالية.
شكّلت تصريحات عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني حول مبررات التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتي أدلى بها لجريدة الشروق المصرية مادة دسمة، لا لما تحمله من إجابات حول تساؤلات الشارع والقوى السياسية السودانية، بل لما تحمله من سطحية وسذاجة في التعاطي مع ملف التطبيع مع العدو الصهيوني، والمستقبل الأسود الذي يمضي السودان في اتجاهه، والذي يعتبر قضية وطنية سودانية بامتياز. ومع الأخذ والرد الذي تبع هذه التصريحات تنشر جريدة نيويورك بوست مقالات تقرّ فيه بأن اتفاق التطبيع الذي جرى، ربما يسقط قريباً بسبب هشاشته، وبغض النظر عن التحليل القاصر الذي تبني عليه الجريدة الأمريكية توقعاتها لكنه يعدّ مؤشراً على مستقبل اتفاقات التطبيع التي جرت مؤخراً.
«أمريكا ليست جمعية خيرية»
لا يمكننا الجزم إن كان البرهان يدرك معنى تصريحاته لجريدة الشروق فعلاً، لكن المصيبة قائمة بكلتا الحالتين! فجواب البرهان على السؤال الجوهري «ما الذي استفاده السودان من صفقة التطبيع؟» كان بكل بساطة «ما الذي استفاده السودان ويستفيده من الخصومة مع دولة عضو في الأمم المتحدة؟»، متناسياً بذلك التاريخ المشرف للسودان في الصراع مع الكيان الصهيوني، ومتناسياً الغارات التي نفذتها طائرات العدو على الأراضي السودانية، وغافلاً عن الدور المفضوح للكيان في تقسيم السودان، المشكلة الأكبر التي يعاني منها السودان! ليختزل البرهان ما جرى بكونه «صلح مع دولة كان قائماً معها عداء في السابق وهو أمر طبيعي». ليؤكد أن للسودان مصلحة في إقامة علاقات مع دولٍ أخرى لكن دون أن يذكر مبرراً واحداً للتطبيع!
فبعد أن صمّوا آذاننا وهم يرددون أن السودان سيتمتع بالعديد من الميزات بعد التطبيع مثل رفع اسم السودان عن قوائم الإرهاب الأمريكية وحصول البلد «الفقير» على مساعدات غذائية ومالية ضخمة، يقرّ البرهان في تصريحاته للجريدة المصرية بأن «رفع اسم السودان من القائمة ليس غاية في حد ذاته، فهو لن يقود إلى منفعة مباشرة، ولكنه ظل يُمثل عقبة في الطريق وجبت إزالتها»، مضيفاً أنه على السودان البحث عن ما تريده أمريكا لتقديمه، ليذكرنا بأن الولايات المتحدة «ليست جمعية خيرية»، لذلك فيجب على المجلس السيادي السوداني، من وجهة نظر البرهان، أن يحسن التعريف بالسودان وموارده و«ما يُمكن أن تجنيه أمريكا وما يُمكن أن نستفيده نحن» ليؤكد بهذه الكلمات البسيطة أن السودان قدّم خدمة بالمجان للولايات المتحدة في ذروة أزمتها الداخلية وليقدّم نفسه كسمسار عقاري يدلّل على أرضٍ خصبة يجب استثمارها.
«نيويورك بوست» تزيد الطين بلّة
يتحدث مقال «نيويورك بوست» سابق الذكر، عن هشاشة «الاتفاق التاريخي» فبحسب ما جاء في الجريدة إن إدارة ترامب كانت تسعى لكسب النقاط بسرعة مما جعلها تغفل عن مشكلات جوهرية في صفقات التطبيع التي جرى التوقيع عليها وإعدادها في الفترة الماضية، فيمكننا أن نفهم أن ما أرادته إدارة ترامب هو إنجاز «نجاحات» حتى وإن كانت قصيرة العمر. لكن وبما يخص السودان تحديداً تتوقع الجريدة أن ينسحب المجلس السيادي من هذه الاتفاقية لأن إتمامها مرهون برفع السودان عن اسم قوائم الإرهاب الأمريكية وإيجاد حلٍ مرضٍ لهذه المسألة، فيبدو أن الـ 335 مليون دولار التي سيدفعها السودان لرفع اسمه عن هذه القوائم ليست كافية! وهناك عقبات جدّية بوجه تصديق هذا القرار من قبل الكونغرس الأمريكي، لكن ما يغيب عن الجريدة الأمريكية هو أن القوى التي تدفع باتجاه التطبيع تنشغل بالتأكيد بأن «لا علاقة بين شطب اسم السودان من قائمة الإرهاب وقرار التطبيع مع إسرائيل» حسب تصريحات محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة السوداني التي أدلى بها في شهر تشرين أول الماضي. كما لو أن المجلس السيادي يحاول حفظ ماء وجهه إذا لم يتم رفع السودان من قوائم الإرهاب عبر محاولة إيهام الشارع وتضليله بأن قرار التطبيع نابعٌ من «مصلحة السودان العميقة».
بعضٌ من «ثمار التطبيع»
لا بد لنا من التذكير بأن اتفاق تطبيع علاقات السودان مع الكيان الصهيوني ليس دستورياً، فيجب التصديق على هذا الاتفاق من قبل المجلس التشريعي السوداني الذي لم يجري إنشاؤه بعد! لذلك لا يعتبر الاتفاق سارياً بالمعنى الدستوري. لكن وعلى الرغم من ذلك يجري فرضه بوصفه أمراً واقعاً. فقام وفدٌ «إسرائيلي» بزيارة عسكرية لمنظومة الصناعات الدفاعية في الخرطوم في أواخر شهر تشرين الثاني المنصرم، وهذا ما يعد تفريطاً بالأمن القومي السوداني، وخطوة تصل حد العمالة المفضوحة، وفي حديثٍ للمتحدث الرسمي باسم مجلس السيادة السوداني قام بطمأنة الجمهور الغاضب عبر تأكيده بأن الزيارة «ذات طبيعة عسكرية بحتة وليست سياسية». ليكون المجلس السيادي السوداني قد سمح بتسريب أسرارٍ عسكرية من جهة، وأعلن عن بدء تنسيقٍ عسكري بينه وبين العدو الصهيوني، الذي تجوّل مستشاروه العسكريون في قاعدة عسكرية سودانية دون الإعلان عن فائدة سيجنيها السودان من خطوة كهذه! وليكون الكيان هو من يقطف ثمار هذا التطبيع بعد أن دفع ثمناً بخساً لقاء هذه الاتفاقية لم يتجاوز 5 ملايين دولار، والتي جاءت على شكل بضعة أطنان من القمح كهدية للسودان اشتراها الكيان من السوق العالمية.
العمالة والابتعاد عن مصالح الشعب السوداني لن تُخرج السودان من محنته، ولن تستطيع زمرة تحكم البلاد بهذا الشكل من تقديم أكثر من الفقر والعوز ولن تحل أياً من الأزمات القائمة بل ستعمقها أكثر، أما بالنسبة للولايات المتحدة فلم تنجح هذه الخطوة بإنجاز هدفها حتى اللحظة وستتحول قريباً إلى معركة جديدة داخل البلد المأزوم، أما الكيان الصهيوني الذي يترقب انتخابات برلمانية رابعة سيضطر للإعلان عن القيمة الضئيلة لكل ما تم «إنجازه» في الفترة الماضية، فمع كل ما يجري لم يحصد المأزومون ما يكفي لإخراجهم من البئر العميقة التي علقوا بها ليقبعوا في الظلام ينتظرون نهايتهم.