واشنطن وفقدان الأساسات الاستعمارية في القارة السمراء
شرعت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، وفي ضوء المواجهة المستمرة مع الصين، في البحث عن فرص ما لتأمين وحماية نفوذها الاستعماري التقليدي في القارة الإفريقية بشكل أكثر نشاطاً، ما يوحي بأن لدى واشنطن قناعة بأن هذا النفوذ هو واحد من الأساسات الاستعمارية التي باتت مهدّدة بفعل صعود القوى الدولية الصاعدة المناهضة لها.
في الوقت الحالي، يتجاوز عدد سكان القارة الإفريقية المليار نسمة، وأكثر من 50٪ من هؤلاء هم من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً. وبالإضافة إلى ذلك، تمتلك القارة الإفريقية أحد أسرع الاقتصادات نمواً في العالم (جنوب إفريقيا). وعلى هذه الأرضية ينشأ اتجاهان للتعامل مع الوضع الإفريقي، الأول: أمريكي- غربي، لا يرى في القارة سوى مساحة للنهب والاستغلال الجائر وإشعال النزاعات البينية المدرّة للأرباح بالنسبة للشركات العابرة للحدود، والثاني: صيني يزيد بخطواتٍ تدريجية متسارعة استثماراته في قطاعات التصنيع في القارة بما يعود بالمنفعة المشتركة على الجانبين.
رعاية الحكومات الفاسدة
بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة في إفريقيا، من المهم أن نلاحظ: أن واشنطن لم تقم في أي وقت باستثمارات كبيرة في هذه القارة يمكن أن تشير إلى التزامها طويل الأمد بالتعاون مع دولها، حيث يُعد قطاع الموارد الطبيعية في إفريقيا أحد المجالات القليلة التي شاركت فيها الولايات المتحدة عبر الشركات العابرة للقارات، وكانت الاستثمارات فيه ضئيلة للغاية. وبشكلٍ لا يحتاج إلى شرحٍ مطوّل، واستفادت العديد من الحكومات التي عشّش الفساد في دولها من هذه الترتيبات الأمريكية، في حين ظلت احتياجات الشعوب الإفريقية غير ملباة إطلاقاً.
في مثل هذا المناخ، وبسبب التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، والتي تجلت أيضاً في الحرب التجارية، فضلت الدول الإفريقية مؤخراً تطوير العلاقات مع الصين (التي تلقت منها استثمارات كبيرة في مجال التصنيع والبنى التحتية) وليس الولايات المتحدة، ولم يكن للنقد الموجه من قبل السياسيين الأمريكيين- ضد سياسات الصين «المفترسة» في إفريقيا- التأثير المطلوب. حيث إن التزامات بكين طويلة الأجل في المنطقة، ووعودها بزيادة الاستثمارات مع الحد الأدنى من المطالب ذات الدوافع السياسية (المرتبطة تحديداً بتكبيل النفوذ الأمريكي في القارة) هو ما تحتاجه إفريقيا بالضبط.
نموذج جديد للتعاون
في ضوء ما سبق، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن علاقات إفريقيا مع دول مثل روسيا والصين والهند وتركيا تتطور بشكل أكثر فاعلية بكثير من العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا. وقد أوضح القادة الأفارقة هذا الوضع من خلال التعبير عن تحفظات وخوف من سياسات الغرب شديدة التخريب (أي: حل المشكلات عبر التدخلات المسلحة).
على مدى السنوات العشرين الماضية تقريباً، اعتمدت الولايات المتحدة وأوروبا على نفوذهما العسكري لضبط العلاقات مع الدول الإفريقية من خلال «التعاون» في المجال الأمني، ومحاولة زيادة وجود القوات الغربية في المنطقة. والحقيقة أن تزايد الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا كان يتزامن ويترافق مع تدهور الوضع في بعض أجزاء إفريقيا بشكل شديد دورياً، وفي ظل انعدام التغييرات الإيجابية داخل الدول الإفريقية، ازدادت حركات الاحتجاج المحلية، وصولاً حتى إلى انتعاش القوى الفاشية التي ساهمت الولايات المتحدة في انتشارها داخل القارة بشكلٍ مباشر وفج في كثيرٍ من الأحيان. كل هذا، ساهم في دفع بعض حكومات الدول الإفريقية للبحث عن شركاء إستراتيجيين جدد يمكنهم مساعدتها في إيجاد حلول للقضايا الاقتصادية والإنسانية المعقدة.
محاولة أمريكية أخيرة لتعزيز النفوذ شمالاً
على الرغم من دفع واشنطن لزيادة التجارة والاستثمار بين الولايات المتحدة وإفريقيا، بما في ذلك من خلال إنشاء منتدى التعاون التجاري والاقتصادي بين الولايات المتحدة وإفريقيا جنوب الصحراء (منتدى أغوا) بدعم من الكونجرس الأمريكي، فمن المهم أن نتذكر أن هذه الجهود ليست واسعة الانتشار مثل تلك التي تهدف إلى توسيع الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا. فمن أجل تعزيز موقع الولايات المتحدة في القارة، لا تتوانى الولايات المتحدة عن استخدام نفوذها العسكري لضمان مصلحتها الضيقة. ولا بد في هذا الصدد من التأكيد على أن الولايات المتحدة تحاول مؤخراً زيادة وجودها العسكري في شمال إفريقيا، وتحديداً من أجل فرض السيطرة على عمليات استخراج وبيع الوقود الأحفوري الليبي، فمنذ 28 شباط 2019، حصلت شركة Engility الأمريكية على أول عقد لها في تونس، وكان على الشركة- التي تقدم خدمات هندسية ولوجستية للعديد من الوكالات العسكرية والمدنية الأمريكية- التركيز على حماية مرافق البنى التحتية الرئيسية في تونس والتي تحتاجها الولايات المتحدة، علاوة على إنشاء مناطق خاصة في البلاد يمكن للولايات المتحدة استخدامها لاحقاً موطئ قدم لتوسيع نفوذها في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، في 30 أيار 2020، ذكرت صحيفة The National أن جيش الولايات المتحدة كان «يتطلع إلى إرسال إحدى كتائب المساعدة الأمنية التابعة له إلى تونس للتدريب، كجزء من برنامج المساعدة للدولة الواقعة في شمال إفريقيا».
وفي هذا السياق، تنخرط القيادة الأمريكية بشكل أكثر فاعلية مع اللاعبين العسكريين والسياسيين في الصراع الليبي، وهي متهمة من جانب العديد من القوى بالوقوف خلف تشدد طرفي الصراع في ليبيا من وراء الستار. وفي الوقت ذاته، يحاول وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر مد خطوط لتعاون بلاده مع الجزائر، حيث زار البلاد في الثاني من الشهر الجاري محاولاً «تعميق التعاون مع الجزائر في قضايا الأمن الإقليمي الرئيسية».