راهنية تشى غيفارا وأوضاع الشعوب العربية-4
على الرغم من ديمومة فكره وقدوته وشهرته العالمية، فإنه لا يسعنا إلا أن نلحظ أن فكر تشى غيفارا وإرثه الثوري يعانيان من عدة تحديات هامة. وجدير بالذكر هنا أن بعض هذه التحديات يكمن في سمات فكره التي أتينا على ذكرها لأن بعض التحديات كان امتدادًا أو نتيجة لفكر غيفارا ونضاله. فيما يلي بعض هذه التحديات:
1) جهل الأجيال الجديدة بفكر غيفارا
بالطبع ليس هذا الأمر حصرًا على تشى غيفارا بل هو مصير الكثيرين من روّاد التحولات الكبيرة في التاريخ والمجتمع. لعل المشكلة الأساسية التي يعاني منها فكر غيفارا وإرثه في الوطن العربي وأجزاء أخرى من العالم، هو الفهم السطحي لطروحاته وربط فشله في حرب العصابات في كلٍ من الكونغو وبوليفيا بسقوط فكره وهزيمته. وعلى وفرة الدراسات التي ترصد وتحلل فكر غيفارا والتي لم تتوقف منذ استشهاده في التاسع من اكتوبر 1967 (والمتوفرة في العديد من اللغات خاصة الاسبانية والانكليزية والفرنسية)، إلا أن المكتبة العربية لا زالت تشحّ بمثل هذه الدراسات. وكان من نتيجة ذلك أن إلمام الأجيال الصاعدة من الشباب العربي بفكر غيفارا ومفاهيمة ظلّ سطحيًا، مع أنه ما زال حيًّا في عقولهم وقلوبهم، كيف لا وقد جعلوا منه قدوة وأيقونة للثورة والنضال!
إنه من الملهم حقًا أن ترى الأجيال القادمة تشى غيفارا كثائر أممي، ولكن هذا ليس شرطًا للإقرار براهنية غيفارا وديمومه فعله وتأثيره، فلا بد لهذه الأجيال أن تدرس أفكاره الثورية وتقتنع بها،. ففي قدوة الرجل ما يلهم هذه الأجيال ويحفزها على متابعة مسيرة الثورة لما تمثله من صدق في المبدأ والحياة والنضال. فهو الذي لم يرتد يومًا عن قناعاته ولم يخنها في أي ظرف، بل دفع الثمن غاليًا دون أن يشكو، دفع حياته. غير أن مهمة الأجيال الناشئة تكون في التعرف على والتعمق في فكره وطروحاته الثورية.
2) نقد غيفارا بين التشويه والتدمير
كما في حياة الشعوب، كذلك هو الأمر في حياة الأفراد: التاريخ يكتبه المنتصرون.
هذا ما توحي به الكثير من الكتابات حول غيفارا، وهكذا كتب قاتلوه تاريخه على هواهم ووفق منظورهم ومصالحهم، فسجلوا محطات حياته ونضاله كما شاؤوا وشاء لهم أسيادهم وفق منهج يضمن لهم، على ما يظنون، تسويق رؤيتهم وأجندتهم. ومن هنا جاء هذا الكم الهائل من الأكاذيب والتلفيقات والفبركات التي عملت الآليات الإعلامية والأيديولوجية الإمبريالية على إنتاجها وتكرارها على مدى العقود السابقة.
لا نبالغ إذا قلنا أن نقد غيفارا خلال حياته وبعد استشهاده يأتي من كل حدبٍ وصوب، من أعدائه كما من مناصريه.[1] وإذا كان المرء يتوقع أن يأتي نقد غيفارا وتشويه فكره والعمل على تدميره هو الأمر الطبيعي من قبل أعدائه – الإمبريالية والرأسمالية الغربية والأميركية خاصة ومنظريها ومروجي خطابها وإعلامها – إلاّ أن التشويه والتحريف اللذين لحقا بغيفارا لم يتوقفا عند هؤلاء. فقد ساهم في ما يُسمى “نقد غيفارا” وما تضمنه من تحريف وتشويه، يساريون وماركسيون من شتى الألوان. ولعل “نقد” هؤلاء هو الأخطر والأكثر تدميرًا لأنه آتٍ من جهات يسارية واشتراكية وشيوعية، أو هي تدّعي ذلك على الأقل، ولأنه يساهم في تشويه فكره ومصداقية نضاله وحتى استشهاده لدى الأجيال الناشئة وهي التي كانت محور اهتمام غيفارا وأمله في الغد الجديد و”الإنسان الجديد”. فقد اختزل مثل هذا النقد في كثير من الحالات، مساهمات غيفارا الفكرية والسياسية والماركسية والثورية والفلسفية والأخلاقية إلى “مغامرات فاشلة في حرب الغوّار”، ولكنهم تجاهلوا وتناسوا نجاح الكفاح المسلح الثوري في كوبا والانتصار على أعتى جيش دكتاتوري في أميركا اللاتينية، والمدعوم من قبل الإمبريالية الأميركية والدكتاتوريات المحلية؟
بالإضافة، هل كان هذا الشكل من الكفاح المسلح وما كتبه غيفارا فيه هو كل ما فعله الرجل في حياته وكل ما تَبقى من إرثه؟
لقد أغفل العديد من الحجج في نقد غيفارا وتجريحه، عن عمد، السياق التي جاءت فيه أطروحات غيفارا. ولعل أطروحته في حرب العصابات أنصع مثالٍ على ذلك.
كثيرون هم الذين يلومون ممارسات غيفارا بعد انتصار الثورة الكوبية، وخصوصًا سياساته الاقتصادية وفشل حملتي إشعال الكفاح المسلح في الكونغو وبوليفيا، ويرون أنها أساءت إليه ونسفت فكره كمقاتل وثائر. ولسنا هنا في معرض الدفاع عن هذه السياسات وحصتها من الصحة والخطأ، ولكن هؤلاء ينسون ما قدمه غيفارا لكوبا وشعبها، ويتناسون إنجازاته التي جعلت منه، بعد سبع سنوات من مغادرته بلده الأرجنتين شابًا، ثائرًا أمميًا ورفعته إلى مصاف قادة الدول الكبرى مثل الاتحاد السوفيتي والصين ومصر ويوغسلافيا وغيرها.
3) الأيقنة
بين ثوّار وشخصيات القرن العشرين، يبرز غيفارا كواحد من أبرز أعلامها، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، مع أن الرجل لم يكن معنيًا بالشهرة وفق ما نجده في مواقفه وكتاباته وما يشهد به المقربون من أفراد عائلته ورفاق دربه.
غير أن الفارق بين الأيقونة والفكر يظلّ كبيراّ. فكثيرًا ما تظلل الأيقونة الفكر وتبهته وتحرم العقل من السؤال والبحث عما هو خلف الصورة. وليس من محض الصدفة أن تفترق الأيقونة عن الفكر، فقد شهدنا عبر التاريخ أمثلة كثيرة من الثوّار والمفكرين والفلاسفة الذين تمت أيقنتهم بغية تسطيح فكرهم والحد من دورهم وتأثيرهم. وهو ما نلحظه في أيقنة غيفارا التي تجعل من فكره ونضاله وقدوته سلعة رأسمالية مربحة ووسيلة فعّالة في فكره الثوري وإذابة إرثه وتأثيراته على الأجيال الصاعدة، لذا عملنا في هذه الدراسة على العودة إلى الركائز الأساسية للفكر الذي يقف خلف أيقونة هذا المناضل. ولكنه يجدر بنا التذكير بأن أيقونة غيفارا، على خلاف غيرها، مرتبطة بقدوته النضالية وبهذا المعنى فقد كانت مكلفة للإمبريالية التي تنحو دومًا نحو التقليل من كلفة وتأثيرات غيفارا وأفكاره وإرثه، وهو ما عبّر عنه إعلامي أميركي بقوله: “قد تكون القمصان رخيصة، أما تشى فقد كان أيقونة مكلفة جدًا”.
في كل الأحوال، فإنه لا ينبغي لنا أن نمنح الأيقنة تلك الأهمية المفرطة في تقييم غيفارا، لأن قدوته ونهجه الثوري ونشر الأفكار الثورية كانت أكثر فعالية من الصور والأيقونات في تعبئة الملايين من الفقراء وجماهير الطبقات الشعبية والمهّمشة في هذا العالم الظالم.
4) أوضاع محلية وعاليمة مهزومة
موضوعيًا شكّلت الأوضاع التي سادت في العالم منذ استشهاد تشى غيفارا، تحدّيًا كبيرًا لفكره ولعملية الثورة العالمية برمتها. وقد تميزت هذه الأوضاع بهيمنة الرأسمالية التي خيّمت على بلادنا والعالم بأسره خلال العقدين الأخيرين وتمت خلالها عولمة هذه الهيمنة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما فيها الاستسلام لهذه الهيمنة واستدخال مشروعها. بيد أن بوادر كثيرة تشير إلى أن التغيير قادم، وأن معالمه تلوح في أفق اللوحة السياسية الراهنة، وأن هذه الحقبة آخذة إلى زوال: تفاقم مأزق الإمبريالية الأميركية على مختلف المستويات، أزمات الاتحاد الأوروبي (أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة ومستعصية الحلول، ومخاطر تشرذمه) واليابان (الكارثة النووية وعواقبها على حاضرها ومستقبلها)، وظهور قوى وقطبيات ومحاور إقليمية ودولية أخذت تناطح وحدانية القطبية الإمبريالية الأميركية التي تحكّمت بكوكبنا منذ انهيار القطب السوفيتي متوهمة بأن “الزمن” الأميركي قد أتى ولن تغرب عنه الشمس.
5) اتخاذ الأخطاء كذريعة لمحاكمة النظرية
كما في السرديات الكبرى التي تطرح رؤية شاملة لمستقبل الإنسان، هكذا كان الأمر مع تشى غيفارا، حيت تمّ توظيف الأخطاء وظروف الفشل أو الهزيمة “كدليل” قاطع وتاريخي على فشل النظرية والرؤية والمفاهيم.
فعلى سبيل المثال، استخدم “فشل غيفارا” في حملتيه للتأسيس للكفاح المسلح في الكونغو وبوليفيا كذريعة ودليل على فشل غيفارا ومجمل طروحاته في الكفاح المسلح ونظريته في حرب العصابات “نظرية البؤرة” El foquismo. والحقيقة أن مثل هذه الأحكام، في سعيها المحموم للتبشير بفشل النظرية، تتجاهل عن خبث وعمد الركائز التي استند اليها غيفارا في رسم أفكاره وتطوير مشروعه وأهمها:
أ) إن أفكار غيفارا ومشروعه جاء في الأساس لتلبية الاحتياجات المادية والروحية، الاجتماعية والإنسانية لجماهير الفقراء الذين التزم بقضاياهم وبالدفاع عن مصالحهم. وعليه، فإن راهنية هذه الأفكار تظل مرهونة ومرتبطة دومًا بهذه الاحتياجات والإيفاء بها. وعليه، فإن المهمة الثورية الملحة هي نشر فكرة الثورة والتأكيد على أن الثورة ضرورة وأنها ممكنة، وليس الأمر في النجاح أو الفشل لأن الثورة ضرورة تاريخية وليست حدثًا يوميًا عابرًا: المعركة هي مسألة نضال يومي ومقاومة مستمرة بكافة أشكالها، بينما الثورة هي تغيير تاريخي يأخذ مدى ولا ينجزه شخص ولا حتى مجتمع بمفرده.
ب) إن فكر غيفارا، ومشروعه ونضاله، جاء في سياق زماني ومكاني معين، واتسم بخصوصيات مرحلة تاريخية وظروف اجتماعية واقتصادية معينة. لذلك فإن محاكمة هذا الفكر يجب أن تستنير بتلك المرحلة وذلك السياق.
ج) ضرورة المرونة في تطبيق ما يتناسب من أفكاره مع واقعنا اليوم ومراعاة الخصوصيات التي تتميز بها ساحات النضال ومراحله، ما يعني عدم التمسك الصنمي بأن النظرية والمفاهيم تسقط بسبب تغيّر المرحلة ولا تعود صالحة للتطبيق بسبب الأخطاء في الممارسة. وواضح أن الهدف من هذا هو نسف أفكار غيفارا وتدمير مشروعه برمته.
وقد يكون من المفيد أن نشير، في هذا السياق، إلى حالتين مماثلتين:
الأولى: الانهيار السوفييتي كنمط اقتصادي وسبيل في بناء الاشتراكية[2]، واستخدام هذا الانهيار وإسقاطه آليًا على حتمية سقوط الاشتراكية وهزيمتها كفكر اجتماعي واقتصادي وسياسي يلبي الاحتياجات الاجتماعية والإنسانية، ويشكل بديلًا للرأسمالية ونظامها الاستغلالي الظالم.
والثانية: هو فشل الكفاح المسلح الذي خاضه تشى غيفارا في الكونغو وبوليفيا، للوصول إلى النتيجة “المرجوة” وهي فشل الكفاح المسلح كوسيلة لنضال الشعوب بغض النظر عن ظروفها وسياقها وخصوصياتها. وفي كل هذا يتعامي منظرو الإمبريالية والرأسمالية عن موقف غيفارا الواضح الذي يقرّ بأن حرب العصابات كان أسلوبًا ناجحًا في سياق المرحلة التي عاشها وناضل فيها، كما يتجاهلون أن هذا الأسلوب قد أثبت إمكانيته في لبنان في الحرب مع الكيان الصهيوني بعد رحيل غيفارا بعقود، وكما نرى الآن في الهند في مقارعة الدولة والإمبريالية، مما يثبت أن المشكلة ليست في مبدأ الكفاح المسلح. ربما تكون المشكلة في المناخ والقوى المتصارعة وطبيعة ميزان القوى الدولي وغيرها. (أنظر لاحقًا).
6) “فشل” الكفاح المسلح وحرب الغوّار
على الرغم من أهمية ومركزية حرب العصابات والبؤر المسلحة في نظرية غيفارا وفكره السياسي، إلاّ أنها لم تشكّل لديه أسلوب الكفاح الوحيد. فالمقاومة في فكر غيفارا تستدعي نضالًا طويل الأمد وتأخذ أشكالًا متعددة وأساليب مختلفة ترتقى إلى ثورة شعبية شاملة وتغييرٍ جذري في المجتمع والإنسان وصولًا إلى مجتمع وإنسان جديدين. لم يكن غيفارا متشددًا، ولم يطالب بالكفاح المسلح كأسلوب وحيد لنضال الشعوب بل اعتبره وسيلة رئيسية وترك الأمر للشعوب في تقرير وسائل كفاحها وأولوياتها.
من الواضح أن “ناقدي” غيفارا يتمترسون وراء مقولتين لتبرير ادّعاءاتهم التي تهدف في محصلتها إلى تشويه الفكر الثوري وتدمير وعي الأجيال الناشئة:
الأولى، هي مقولة فشل حملتي غيفارا في الكونغو وبوليفيا (وهو، حسب ادّعائهم، فشل ناتج عن خطأ النظرية والإستراتيجية لدى غيفارا واستهتاره و”عقليته المغامرة” وغيرها من الأسباب والاتهامات).
والثانية، هي المتغيرات الدولية التي ولّدت عالمًا آخرَ ومختلفًا عن زمن تشى غيفارا (نظام عالمي جديد جاء إثر الانهيار السوفييتي، روّجوا له كإندحار للاشتراكية ونهاية مشروعها، ونهاية التاريخ واستسلامه لوحدانية القطبية الأميركية وهيمنة الإمبريالية الغربية وعولمة رأس المال بزعامة الولايات المتحدة).
ويبدو أن الكثيرين لم ينتبهوا إلى أن قراءة غيفارا على هذا النحو تنطوي على التعامي عن رؤيته لاستمرارية النضال طويل المدى وديمومة الثورة. يقول غيفارا “كل فعلنا ـ الثوري ـ ليس إلاّ صرخة في وجه الامبريالية”. إن كنه أطروحات غيفارا يتمثل في المقاومة ومحاربة الإمبريالية والرأسمالية دون هوادة وأينما تواجدت، وأن حرب الغوّار ليس سوى احدى الوسائل، قد تناسب بلدًا ما ولا تناسب الأخر، وقد تثبت صحتها وفعاليتها في حالة بينما تلقى الهزيمة في حالة أخرى، وقد تنجح اليوم وتفشل غدًا. ولعل مسيرة غيفارا منذ انتصار الثورة الكوبية (1959) وحتى مغادرته كوبا إلى الكونغو (1965) كانت خير دليل على قناعته باستمرارية النضال طويل الأمد وأممية الثورة ضد الإمبريالية والرأسمالية وهو ما لا يتنافى إطلاقًا مع ضرورة وحتمية الكفاح المسلح وحق الشعوب في ممارسته ضد أعدائها مهما كانوا.
من جهة أخرى، فإن كثيرًا ممن ينقدون غيفارا يفتقرون إلى الخيال الثوري الذي قاد انطلاق غيفارا أمميًا. وهي مسألة تشترط وجود الوعي والإرادة الثورية. ويدفعنا هذا التحليل للتمييز بين تعاطف الإنسان العادي مع المضطهَدين، وبين تطوعه للنضال من أجلهم ومعهم أينما كانوا. ومن هنا، فإن التحليل الأكاديمي لغيفارا يظلمه لأنه تحليل بارد وجبان. لعل ما يثبت هذا هو أنه لا يزال أيقونة لكل من يؤمن بالتغيير حتى ولو على أساس أيقوني.
صحيح أن غيفارا نظّر للكفاح المسلح ومارسة ببسالة وريادة فائقة وكان ملهمًا للعديد من حركات الكفاح المسلح وحرب العصابات. وصحيح أيضًا أن غيفارا اعتبر الكفاح المسلح في العديد من الحالات وضمن سياق وظروف معينة الوسيلة الرئيسية لكفاح الشعوب من أجل التحرر الوطني والاستقلال والتخلص من الهيمنة الإمبريالية. وهو الأمر الذي ما زال صحيحًا في مقاومة الشعوب للاحتلال والاستعمار (انظر حالتي فلسطين والعراق على سبيل المثال). ولكنه صحيح أيضًا أن غيفارا كان يدرس ظروف الساحة النضالية لتكون مواتية لهذا الشكل من كفاح الشعوب. فهو، على سبيل المثال، لم يدافع عن حرب العصابات في المدن، وذلك لعدة أسباب أهمها:
- أنه لن يُكتب لها النجاح بسبب استحالة تشكيل الطليعة المقاتلة؛
- وأن مثل هذه الحرب تتسبب في خسائر إنسانية فادحة جلّها من الأطفال والنساء والمدنيين.
وفي المقابل، رأى غيفارا، بعد دراسة الحالة البوليفية قبل وصوله إليها، أن الظروف الموضوعية (الاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية والجغرافية) في ذلك البلد مواتية لإطلاق الكفاح المسلح.[3]
وصحيح أيضا أن الكفاح المسلح وحرب العصابات لم يكن يومًا الدرب الوحيد لتحقيق التغيير الثوري والاجتماعي، فالثورة الكوبية لم تقتصر في كفاحها على حرب العصابات في أدغال وأرياف كوبا، بل رافق ذلك أشكال عديدة من النضال العمّالي والطلابي في المدن والإضربات العامة والعصيان المدني وغيرها.[4] وقد شهدنا في السنوات الأخيرة، وفي ساحة غيفارا النضالية الرئيسية أي أميركا اللاتينية، تحولات اجتماعية وسياسية تحققت بأساليب نضالية أخرى مثل العملية الانتخابية التي تنامت في العقدين الأخيرين وأضحت منبعًا للتعبير عن الطموحات الشعبية وتعزيز سلطة الشعب على نحو غير مسبوق وللمرة الأولى في تاريخ أميركا اللاتينية، حيث تمّ وصول قوى وقادة تقدميين واشتراكيين إلى السلطة عن طريق الانتخابات وفوز المرشحين الذين يعبرون عن مصالح الجماهير العريضة.[5] وهي حالة تؤكد على ما سبق وذكرناه أن الثورة هي حالة ممتدة بينما المعركة حالة نضالية يومية. ولذا فإن انتصارات أميركا اللاتينية التي نشهدها اليوم هي تطورات طبيعية لتراكم الفعل الثوري بدءًا من بوليفار إلى غيفارا وصولًا إلى شافيز وغيرهم. إلا أن الذين لا يؤمنون بالتاريخ لا يفهمون هذه الرؤية.
المصدر: نشرة كنعان