إلى المؤتمرين في جنيف: ليتني كنت أعلم
بغضّ النظر عمّا تمثلون، عن المرجعيات التي تعتمدون عليها، وعن الهامش الضيق المتاح لكم في التصرف، يبقى أنكم جميعكم سوريون، سوف تُسألون يوماً: وماذا فعلتم للوطن... وبالوطن؟
وأياً كان مدى اقتناعكم بالمواقف التي قبلتم الدفاع عنها لفرضها في التسوية المتوقعة، فإن قلبكم ينبض بشعور إنساني هو نفسه شعور كل إنسان يحيا على تراب هذا الوطن. ولا ريب أنكم سوف تسألون أنفسكم يوماً: وماذا فعلنا بالإنسان الذي فينا؟
قد تزدهون بالدور الذي تؤدونه الآن، وأنظار العالم أجمع ترقبكم. لكن، حين ستقفون، ذات يوم قد لا يكون بعيداً، أمام مرآتكم وحيدين، بعد أن تختفي أضواء عدسات التصوير، سينبعث من إحدى ثنايا وعيكم سؤال: هل هذا هو وجهي الحقيقي وهل هذا المصير الذي حلمت به لنفسي؟
إن النيات لا يعرفها إلا صاحبها. وبكل الأحوال، ما يبقى ليست النيات، بل أخلاقية الهدف المقصود ونزاهة الجهد المبذول في سبيل تحقيقه. وأنتم في وضع لا تحسدون عليه سياسياً، ما بين مطرقة الانقياد القسري لما يطلبه منكم من يدعمكم وبين سندان وعيكم الذاتي. ستأتي ساعة المواجهة: مواجهة أنفسكم ومواجهة أولئك الذين قد تساهم قراراتُكم في تحديد مصيرهم. ولا ريب أن معيار الحكم سيكون أولاً وأخيراً النتيجة الناجمة عن قراراتكم. ولن يُجدِ وقتها التباكي: ليتني كنت أعلم!
صحيح أن السياسية تقتضي الدهاء وخاصة "الأداء" المناسب، كما يقال اليوم. ولكن من يستطيع أن يبتسر مصير إنسان واحد، بل مصير شعب، إلى قضية محض تقنيّة، لا تخضع لحكم القيم الأخلاقية بقدر ما تخضع لسلامة منطقها الخاص؟ يعرف الجميع اليوم أن السياسة، حين تؤخذ من باب الشطارة كما يؤخذ الفن من باب المقدرة الفنية والشعر من باب البلاغة اللفظية، تتردّى إلى درك الوحشية. نظرة سريعة على عباقرة سياسيّي القرن العشرين، ولا سيّما في منطقتنا العربية، كافية لإدراك مدى المآسي التي تولدت عن تلك المتعة الفنية.
يبدو أن كل واحد منا، حين يخلو إلى نفسه بعيداً عن هلع يشلّه وعن نصر يتوهّمه، يستقرّ على ثلاثة ثوابت أساسية. أوّلها: إن الحسم العسكري مستحيل على كلا الطرفين، كما استحال بين الفرقاء اللبنانيين وبين الفريقين الفلسطينيين؛ وأقصى ما يحلم به كل طرف ألا يخرج من خريطة الصراع قبل التوصل إلى تسوية، إلا إذا كان مصرّا على توهّم بأن حليفه الخارجي سيجلب له ظفراً من لدنه.
والأمر الثابت الثاني: إن هذا النظام، بما جرّه حلّه الأمني المجنون من مسؤولية أساسية عمّا آلت إليه الأمور من خراب، لا يمكنه ولا يجوز له أن يستمرّ، بعد أربعة عقود ونيف من الاستبداد والتدمير. وباستثناء نظام كوريا الشمالية، لم يعمّر أي حكم استبدادي حتى هذا المدى. لقد ترهّل ولم يعد قادراً حتى على القيام بالدور المعهود إليه إقليمياً وعالمياً.
أما الأمر الثابت الثالث فهو أن المعارضة التي انبثقت من عطش المواطنين إلى الكرامة والحياة اللائقة تتخبّط ولا تعرف كيف يكون لها صوت يعبّر عن مشروع وطني واضح النهج والأفق والمعالم. إذ، بعد أن عجزت عن جمع الكلمة لبناء مشروع توافقي، أصبحت رهينة قوى إقليميّة تتناقض قيمها ومصالحها مع رغبة السوريين، وأُجبرت على التحالف مع منظمات متطرفة وعلى مجابهة منظمات متطرفة أخرى. لا بدّ أن كل فرد منا، مهما كابر، أصبح على قناعة أننا وصلنا إلى مأزق سيؤول بالضرورة إلى أحد أمرين: إما زوال سوريا التي نحبّها - ولعل معالم إنسانيتها كادت أن تمّحي - عن الخريطة لتفسح المجال لميدان يعيث فيه التتار شراً؛ وإما يتوافق أهلها على اجتراح نهضة حقيقية.
فماذا أنتم فاعلون، والحالة هذه؟
لا فائدة من استئناف منطق الانقضاض على الغريم كما تنطلق الرصاصة الصمّاء في المسار المقدّر لها مسبقاً، لتنفجر في أجساد إخوتكم قبل أن تتلاشى هي نفسها؟ رغبة فطرية آلية في الفناء!
ومن الخطير السير في المنطق السياسي الشائع اليوم، الذي لا يعتبر السياسة سعياً لإنجاز مشروع لمصلحة الوطن، بقدر ما يمتطيها سعياً للبقاء في المشهد ملء سمع الناس وبصرهم، إلى أن يقدّر له الفوز بكرسيّ أو موقع يضمن الجاه والسلطة ورديفهما الثالث، الثروة... وليَفنَ العالم ومن فيه!
ومن العبث استمراء السياسة بحيث تصبح ضرباً من الإدمان، طقساً فنياً، يمتنع عن أي تساؤل من قبيل: وما الهدف؟ وفي سبيل أي أمر مفيد؟
لذا يتساءل المواطن العربي، أياً كان موقعه: لماذا نحن معجبون بل مبهورون بالدهاة العتاة فينا؟ يدهشنا دهاء من لا تنقطع "الشعرة" بينه وبين خصمه حتى يتوصل إلى خنقه بها، بقدر ما نشمئز من طيبة هذا أو ذاك. نعجب بالحجّاج الذي يرعى "الرؤوس" حتى إذا ما "أينعت" راح يقطفها بشهية شبقية. نُشدَهُ لوحشية الجزار، والي حيفا العثماني، بقدر ما نشفق استعلاءً على محمود سامي البارودي وعرابي باشا. نتعاطف مع وجهاء لبنان الذين حوّلوا انتفاضة شعبية إلى حرب طائفية في أواسط القرن التاسع عشر، بقدر ما نتناسى "عامية أنطلياس" ووجهها الرائع طانيوس شاهين. أليس من الغريب أننا نعجب بذلك الوجه الرائع من وجوه تاريخنا الحديث، أي جمال عبد الناصر، وهو يفوز في معاركه؛ ثم نعرض عنه بإحراج شديد حين نراه يستقيل من منصبه من دون أي إكراه، انصياعاً لصوت ضميره الذي دعاه إلى تحمّل مسؤولية الهزيمة؟ وفي تاريخنا الحديث، هل يستقيل أحد غيره من منصبه بعد هزيمة نكراء؟ لا، ما دام هدف السياسة عنده ليست المصلحة العامة بل البقاء في السلطة.
فرفقاً بالوطن جميعاً، أو أقلّه رفقاً بأنفسكم! ولا تنسوا أنكم ستتعايشون يوماً مع من يُطلب منكم اليوم - في مفاوضاتكم الراهنة - أن تسلخوا جلودهم. الّلهم إلا إذا عقدتم العزم على التعايش معهم كمن يتعايش الإنسان مع عدو يبقى له بالمرصاد. إن من تعتبره عدوك الآن هو من سيؤازرك ويناصرك غداً. فإن لم ترفقوا بأنفسكم فارفقوا بأبنائكم وأحفادكم، وربما بتلك "القصبة الهشّة" التي تبقى ´أروع ما في الوجود، أيّ الإنسان. أجل، إلا إذا استقوت شهوة الفناء وإفناء الآخر على شهوة الحياة... والحب!