أزمة السكن... أزمة عالمية ومرض رأسمالي
عند متابعة الإعلام ستظنّ بأنّ أزمة السكن مرتبطة فقط بالمدن الكبيرة جداً مثل: نيويورك ولندن وسان فرانسيسكو. لكنّ السكن أصبح باهظ الثمن بشكل متزايد في أماكن أخرى كثيرة حول العالم. ولا تتجلى أزمة السكن بأسوأ صورها في المدن الثرية من البلدان المتقدمة، بل بشكل رئيس في المدن الناشئة سريعاً في البلدان النامية، حيث يعيش ملايين الناس في منازل ذات معايير متدنية، تفتقد الكهرباء أو المياه الجارية أو خدمات الصرف الصحي الأساسية.
تعريب وإعداد: عروة درويش
تعكس أزمة السكن العالمية تناقضاً جوهرياً في الرأسمالية المعاصرة. وباتت المدن حول العالم أكثر قوّة وأهمية اقتصادياً من أيّ وقت آخر. يخلق هذا طلباً هائلاً على أراضي هذه المدن، وهو ما يقود إلى رفع أثمانها والتنافس عليها.
فقد أدّى فتح السكن ليكون موضوعاً لرأس المال المالي وتحوّله إلى آلية للاستثمار، إلى ظهور فائضٍ في السكن الفارِه ونقصٍ في السكن ذي التكلفة المعقولة في الكثير من المدن على طول العالم. يتم تعريف أزمة السكن العالمية عبر النقص الحاد في السكن المتوفر للطبقات العاملة والوسطى.
ورغم أنّ زيادة عرض المساكن وتعزيز الحماية الممنوحة للمستأجرين هو أمر ضروري وهام، فلا يمكن للمدن وحدها أن تعالج المشكلة الهيكلية العميقة لمسألة تكاليف الإسكان المعقولة. فعلى الحكومات والمنظمات التنموية الدولية أن تخطو خطوة تجاه لَجمِ رأس المال المالي والسيطرة عليه وتوفير مساكن بكلفٍ معقولة للذين يحتاجونها بحق. لكن إن أخذنا من الماضي العبر، فستبقى المدن مكتظة بالكثير من الأعباء، وهو الأمر الذي يحتّم علينا الخروج بحلول خلّاقة لمواجهة الأزمة.
أزمة السكن في البلدان المتقدمة
دعونا نبدأ مع أكثر مجالات الأزمة شهرة: مسألة تكلفة المساكن في أكثر المدن الباهظة ثمناً حول العالم. يظهر الجدول في الأدنى أكثر المدن التي لا يمكن تحمّل تكلفة السكن فيها وذلك بالاستناد إلى بيانات عام 2017 من «Demographia». تمّ حساب مدى فداحة الثمن بناءً على طريقة حسابية ذكيّة تدعى «المضاعف الوسطي Median Multiple»: وهي معدّل وسطي تكاليف الإسكان إلى وسطي الدخل. تسمح هذه الطريقة بالمقارنة بشكل صلب بين المداخيل المخصصة للإسكان في المدن حول العالم.
ليست أكبر سوقٍ للإسكان ذي التكلفة الفادحة هي في نيويورك ولا لندن ولا لوس أنجلس ولا حتى سان فرانسيسكو، بل في هونغ كونغ وسيدني وفانكوفر وملبورن. وتحتلّ لندن وتورونتو وبرايسبن أيضاً مراكز مرتفعة في اللائحة. كما أنّ المساكن مرتفعة الأثمان بشكل لا يطاق في كلّ من طوكيو وسنغافورة وشنغهاي وبكين وموسكو وباريس وستوكهولم وأمستردام وجنيف وروما وميلان وبرشلونة وفقاً لدراسات أخرى.
يبدو أنّ هنالك عدّة عوامل تقود أزمة ارتفاع أثمان المساكن في البلدان المتقدمة. فالمدن باهظة الثمن لم تبنِ ببساطة ما يكفي من المنازل ليتناسب مع النمو في العمالة أو عدد السكان. هنالك الكثير من الأسباب المعروفة لهذا الأمر، ومن ضمنها سياسات تقييد استخدام الأراضي والعوائق الجغرافية. وقد شهدنا بكل تأكيد الانتعاش المدني الكاسح الذي يؤدي لصعود التمدّن حيث «يأخذ الأقوى كلّ شيء»، وهي الحالة التي يتم فيها حشر الأصول التكنولوجية والمواهب وغيرها من الأصول الاقتصادية بشكل مكتظ في عدد قليل جداً من الأحياء.
جاء في تقرير نشره معهد «الأرض المدنيّة» و «PwC» عام 2018 عن الاتجاهات العقارية الأوربية السائدة بأنّ حركة التمدين: «هي ربّما أكثر المؤثرين على الاستراتيجيات العقارية في الأعوام الأخيرة». ففي الولايات المتحدة لم يقتصر الأمر على شركات التقنيات في نقل مراكز إداراتها إلى مناطق وسط المدينة، فقد فعلت بقيّة الشركات المثل. نقلت شركة «كوكا كولا» مؤخراً ألفين من موظفيها في الضواحي إلى ناطحات سـحاب وسط مدينة أتلانتا، ونقلت «جنرال إلكتريك» إداراتها من ضواحي كونيتيكت إلى قلب مدينة بوسطن، وتقوم «ماكدونالد» بنقل إداراتها من ضواحي شيكاغو إلى وسط المدينة.
ففي حين أنّ المنتمين إلى الطبقات الملحقة بالنخبة يملكون ما يكفي من المال ليكونوا مرتاحين وهم يدفعون تكاليف منزل في المدن، فإنّ المنتمين إلى الطبقات العمالية من عمّال وعمّال خدمات، والذين بالكاد يستطيعون تحمّل نفقات حياتهم دون أن يتبقى لديهم الكثير بعد الإنفاق على ضروريات الحياة الأساسية جدّاً، فهؤلاء إمّا يتم دفعهم إلى الأماكن الطرفية في المدينة أو يتمّ إخراجهم منها بشكل كلي.
العديد من هؤلاء الأشخاص غير المحظوظين بطبقتهم هم من المستأجرين وليسوا من المالكين. فالمالكون كانوا عموماً قادرين على الإبقاء على أسعار منازلهم متناسبة مع وقت الشراء، ولهذا فقد انتفعوا من الارتفاع الهام في القيمة. وقد ارتفعت الإيجارات بشكل أسرع حتّى من أسعار المساكن في العديد من الحواضر المدنية. فقد ارتفعت الإيجارات في الولايات المتحدة بنسبة وسطية تبلغ 22% بين عامي 2006 و2014، وذلك في الوقت ذاته الذي انخفضت فيه الأجور الوسطية بنسبة 6%. ويعني هذا بأنّ عبء الإيجارات قد ارتفع بشكل رهيب، ومن جديد فإنّ الأقلّ حظاً هم من عليهم أن يحملوا هذا العبء على أكتافهم. إنّ قرابة نصف جميع المستأجرين في أمريكا هم من «متحملي العبء» الذين ينفقون أكثر من 30% من أجورهم على السكن، إضافة إلى أنّ أكثر من ثلاثة أرباع العائلات تكسب سنوياً أقلّ من 15 ألف دولار وتخصص أكثر من نصفها للسكن.
وهذا يجعلنا غير مستغربين من تنامي ظاهرة كالتشرّد عبر الولايات المتحدة. فانتشار خيم المشردين على مساحات واسعة من مناطق ثريّة مثل: أوارنج كاونتي وكاليفورنيا وسياتل، هو تذكرة لنا بالمساكن غير المنظمة التي باتت شائعة في جميع أنحاء البلدان المتقدمة.
أزمة السكن في البلدان النامية
إنّ أكثر أوجه أزمة السكن العالمية قسوة حتّى الآن هو وضع السكن الذي يتوجب على قرابة 850 مليون شـخص أن يعيشوه، وهذا العدد من السكان هو أكثر من سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين، وهم الأشـخاص المضطرون للعيش في مساكن غير منظّمة. تظهر لنا الخريطة المأخوذة عن «مؤشر بلومبيرغ للقدرة على تحمّل تكاليف السكن في المدن حول العالم» بأنّه ومع كلّ سوء أزمة السكن في المدن باهظة الثمن، فإنّها أسوأ حتّى في المناطق التي تتمدن بشكل سريع في الجنوب العالمي حيث الإيجارات هناك تأخذ حصّة من الدخل تقارب 100% أو 150% أو 200% وأحياناً أعلى حتّى. وبالمقارنة بمدن الجنوب العالمي فإنّ أكثر المدن الباهظة الثمن والمرغوبة في أمريكا الشمالية وأوروبا، تصبح مدناً ذات تكاليف يمكن تحملها.
وفقاً لهذا القياس، فإنّ أكثر المدن المكلفة سكنياً في العالم تقع جميعها في الجنوب العالمي: مثل: هانوي ومومباي وبيونس إيريس وريو دي جانيرو، حيث تتخطى تكاليف السكن 200% أو حتّى 300% من الدخل. إنّ أكثر مدينة مكلفة سكنياً على الإطلاق هي كاراكاس المتأرجحة من الناحية الاقتصادية، فتكاليف السكن هناك تتخطى الدخل بأكثر من 3000%.
ومع انتقال ما يقرب من مائتي ألف شخص يومياً إلى المدن في جنوب العالم، فمن المتوقع أن يتخطى عدد الأشخاص الذين يعيشون في مساكن غير منظمة المليار شخص بحلول عام 2020. وممّا يفاقم الأزمة السكنية في الجنوب العالمي التصاعد المربك «للتمدين دون نمو». ففي الماضي دعم التمدين النمو في الصناعات المحلية اللازمة للنمو، مثل: التصنيع وسكب الآجر ومعالجة الأغذية، وهي النشاطات التي تدعم إيجاد وتنمية الطبقات الوسطى. أمّا في اقتصاد اليوم المعولم فقد تمّ قطع هذه الصلات المحلية، وبات بإمكان هذه النشاطات أن تحدث بشكل عامودي في أيّ مكان، لتترك المدن مقسمة بين الطبقات الملحقة بالنخب من جهة، والأشخاص غير المحظوظين بشكل حقيقي من جهة أخرى.
ترك السكن لرأس المال المالي العالمي
ليست الصناعات والخدمات وحدها من أصبحت معولمة، بل كذلك الإسكان. كانت المساكن تُبنى وتموّل في الماضي بطرق محلية. وحتّى في الاقتصادات المتقدمة، مثل: الولايات المتحدة، كانت مؤسسات الإقراض والإدخار المحلي، مثل: بنك «جيمي ستيوارت» المجتمعي الذي عمل في مشروع «إنّها حياة رائعة»، تزوّد المجتمعات المحلية بالتمويل اللازم لبناء وتجهيز المساكن، وحتّى رفع القيود المكثف عن التمويل، والذي بدأ في الثمانينيات من القرن العشرين.
لكن عند إنشاء آلية تمويل جديدة تتعلق بتمويل الإسكان، تمّ فصم عرى هذه الصلات المحلية. لقد تحوّل الإسكان، وخصوصاً تمويله، إلى صناعة محلية وعالمية.
عرّف تقرير صادر عن لجنة للأمم المتحدة خاصة بالسكن الملائم عام 2017 عملية ترك الإسكان لرأس المال المالي بأنّها: «تغيير هيكلي في الإسكان وفي الأسواق المالية والاستثمار العالمي، حيث يتمّ التعامل مع الإسكان بوصفه سلعة ووسيلة لمراكمة الثروة وغالباً كضامن للأدوات المالية التي يتمّ الإتجار بها وبيعها في السوق العالمية». بعبارة أخرى: يتشابك الإسكان بشكل متزايد مع تدفقات رأس المال المعولم، فقد باتت أسواق الإسكان الآن تستجيب بشكل أكبر لهذه التدفقات منها للظروف المحلية.
يقدّر تقرير الأمم المتحدة القيمة الكليّة للعقارات العالمية بحوالي 60% من الأصول العالمية التي تبلغ قيمتها 217 ترليون دولار، وثلاثة أرباعها إسكان. يشكّل هذا قرابة ثلاثة أضعاف المخرجات الاقتصادية العالمية الكليّة. نمت أسواق العقارات منذ حدوث الكساد الكبير (والساخر بالأمر أنّ هذا الكساد قد تسببت به المضاربات العقارية) بمعدل سريعٍ جدّاً يفوق في سرعته أيّة أسواق مالية أخرى.
وكما وثّقت عالمة الاجتماع ساسكيا ساسن الأمر، فإنّ اللاعبين الأساسيين في هذه الأسواق، هم: الشركات العملاقة ومؤسسات الأسهم الخاصة. فقد اشترت الشركات في عام 2015 ما قيمته ترليون دولار في أهمّ 100 مدينة عالمية على سطح الكوكب. وتعدّ المصارف السيادية في بلدان، مثل: الصين التي خففت القيود على قواعد استثمارها الأجنبي، وكذلك البلدان الغنيّة بالنفط التي تسعى لتنويع محافظها الاستثمارية، مثل: النرويج وقطر، لاعبين بارزين في سوق العقارات العالمي. فوفقاً للورنس فينك المدير التنفيذي لعملاق الأسهم الخاصة «بلاك روك»، فإنّ الشقق في مدنٍ، مثل: نيويورك ولندن وفانكوفر قد بدأت بالفعل باستبدال الذهب بوصفها طريقة تخزين رئيسة للثروة بالنسبة لفاحشي الثراء.
ربّما أكثر الأوجه إثارة للإحباط في ترك الإسكان لرأس المال المالي، هي حقيقة أنّ جميع الأموال التي يتمّ ضخها في أسواق الإسكان لا تساهم في زيادة مهمّة في العرض، بل تزيد في تقديم المساكن عالية الرفاهية والتي تكون باهظة جدّاً من حيث تكلفة إنتاجها. فكما أشار تقرير الأمم المتحدة الخاص بالأهداف المستدامة، بأنّه لو تمّ تخصيص قسمٍ صغير من الاستثمار العالمي في الإسكان «وتوجيهه نحو مساكن ذات تكاليف مقبولة وتأمينها للأشخاص المحتاجين إليها بحق، لتمّ ضمان مساكن ملائمة للجميع بحلول عام 2030، وهو أمر قابل للتحقيق».
وفي المدن حول العالم جلب التمدين دون نمو معه نتيجة مقلقة: بناء مدن دون مساكن. كانت المدن في الماضي قادرة على استيعاب تدفقات هائلة من السكان الجدد، لكن لم يعد الأمر على حاله اليوم. فاليوم باتت الأماكن ذات الفرص الاقتصادية الأعلى، هي الأكثر كلفة، ولا يمكن تحملها بالنسبة للأشخاص الذين يحتاجونها حقيقة.
عندما يتعلق الأمر بالإسكان، فحتّى أكثر المدن تطوراً وانفتاحاً لم تستطع في أحسن الأحوال إلا العبث بالهوامش. وضعت مدينة برلين سقفاً عاماً للإيجار من أجل المقيمين فيها من ذوي الدخل المحدود. وباتت مناطق الاحتواء موضة رائجة في الكثير من مدن الولايات المتحدة. وقد فرضت مقاطعة بريتش كولومبيا الكندية، حيث تقع مدينة فانكوفر ضريبة خاصة على الاستثمارات العقارية الأجنبية. وقد استطاعت طوكيو إبقاء المساكن ذات تكاليف مقبولة نسبياً عبر بناء وتجهيز وحدات سكنية بمعدلات مرتفعة للغاية. وفي أكثر المدن ذات الحالات الصعبة في الجنوب العالمي يدعو البعض إلى التوسع بشكل أكبر في المناطق المحيطية، ويدعو آخرون لبنى تحتية أفضل، وغيرهم يدعو لتمكين الأحياء والمجتمعات المحلية من بناء المزيد من المساكن لأنفسهم.
إنّ جميع هذه الأفكار والتطبيقات هي تدابير مفيدة، لكنّها في نهاية المطاف ليست كافية لإجراء تغييرات في القوى الهيكلية على الساحة.
علينا أن نواجه حقيقة، أنّ أزمة السكن العالمية ليست مجرّد مشكلة تخصّ جزءاً واحداً من العالم. لقد باتت معجونة في البنية الجوهرية لعالمنا المتحول للتمدن بسرعة. ويجب علينا أن نأخذ بالاعتبار المشاكل التي تفاقم مشكلة عرض المساكن وكلفها، مثل: القيود على استعمال الأراضي، لكن يجب أن نذكر بأنّ جميع مدن العالم تقريباً، لا تتمكن من إنشاء ما يكفي من المساكن عموماً، أو إنشاء ما يكفي من مساكن ملائمة بتكاليف معقولة لهؤلاء الذين يحتاجونها. يجب علينا كي نصحح هذا الوضع أن نتوقف عن النظر إلى الإسكان بوصفه أداة مالية أو آلية استثمارية، وأن ننظر إليه كما ينبغي علينا أن نفعل: بوصفه حقّاً من حقوق الإنسان الأساسية.