مطامع بكين تشوّش المعطيات الفضائية والنووية
أوليفيه زاجيك أوليفيه زاجيك

مطامع بكين تشوّش المعطيات الفضائية والنووية

ليس في بكين أيّ تمثالٍ للسيناتور الأميركيّ المناهض للشيوعيّة جوزيف ماكارثي. إنّه لنكران نسبيّ للجميل، كونه الأب الطبيعي للبرنامج النووي الصيني. هكذا التاريخ مليء بالمفاجآت.

  فخلال الفترة التي أعقبت الحرب مباشرة، عمل مهندسٌ شاب مهاجر من هانغزو، هو كيان شوزوين، بموجب عقدٍ مع البنتاغون في "مختبر الدفع الصاروخيّ Jet Propulsion Laboratory" في باسادينا. وقد أثار حدسه الرياديّ في مجالي الفضاء والصواريخ إعجاب القوات الجويّة الأميركية. وكان الجيش يوليه ثقته لدرجة أنّه أرسله إلى ألمانيا لاستجواب فيرنر فون براون، العقل المصمّم لبرنامج الصواريخ الألماني. ولكنّ الماكارثية ستتسبّب بتحويل هذا المسار اللامع: فبعد اتّهامه بالشيوعيّة في العام 1950، وإرغامه على الإقامة الجبريّة، طُرد كيان فجأة إلى الصين الماوية في العام 1955. وعبثاً حاول نائب الوزير للبحريّة، دانيال كيمبال، التأكيد على أن هذا "العبقري" المتخرّج من "معهد ماشاشوستس للتقنياتMassachusetts Institute of Technology (MIT)" يوازي "بين ثلاثة وخمسة ألوية عسكريّة لوحده"، وبأنّه "يفضِّل أن يعرف أنّه ميّت على أنّه منفي" [1]، لكنّه ذلك لم يجد نفعاً. ففي أوج حملة مطاردة الشيوعيين التي كانت سائدة حينها، لم تلقَ تلك الاحتجاجات أيّ صدى. أمّا التتمّة فكانت منطقيّة جدّاً: بعد استقباله من قبل ماو تسي تونغ، أعلن كيان ولاءه للنظام وابتكر، انطلاقاً من لا شيء، أوّل برنامج للصواريخ الباليستية الصينية...

في العام 1966، وبعد سنتين على التفجير النوويّ المؤسّس في العام 1964، أشرف المهندس العبقريّ على الإطلاق الأول لصاروخ نوويّ في صحراء كسينجيانغ. كما يُدان له أيضاً بالإطلاق الناجح، في 24 نيسان/إبريل 1970، للقمر الفضائي الصينيّ الأول، دونغ فانغ هونغ (DFH-1)، الذي سيبثّ باستمرار النشيد الوطني "الشرق أحمر" خلال الأيام الستّ والعشرين التي وُضع خلالها في مساره.
"سرّ"... مفضوح منذ ثلاثة أعوام

تقاعد كيان في العام 1991، وتوفي في العام 2009، واُغدقت عليه التكريمات، في حين يشكل لوحده رمزاً للترابط العميق للبرنامجين النوويّ والفضائيّ لجمهورية الصين الشعبية، منذ تأسيسهما. إذ منذ التفجير النووي الأول في تشرين الأول/أكتوبر 1964 وصولاً إلى يوم المجد في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2003، عندما أصبحت الصين بفضل العقيد الكولونيل يانغ ليواي الذي استقلّ المكوك الفضائي شانزو، الدولة الثالثة في التاريخ التي تنجح في إجراء رحلة فضائيّة مسكونة، ضاعفت بكين صلات الوصل بين هذين المجالين، متلمّسة في ذلك وعداً ثابتاً بتحقيق الأفضل في المجالين التكنولوجي والاستراتيجيّ، وعلى صعيد الميزانية. وبالرغم من إنشاء الوكالة الوطنية للإدارة الفضائية في التسعينات ووضع مشاريع تسويق لإطلاق الأقمار الفضائية، يحتفظ العسكريون في صفوف جيش التحرير الشعبي، أكثر من أيّ وقتٍ مضى بدورهم في المحاور الفضائية الكبرى للوطن.

لا تشكّل هذه الرافعة للمثلث النووي-الفضائي-الصاروخي ميّزة صينيّة. فهي معروفة جيداً، أقلّه من قبل المهندسين المتخصّصين، على الأخصّ في الولايات المتحدة وفرنسا. إلاّ أنّ الصين تتميّز بأنّها روّجت باكراً جداً لعقيدة نوويّة تقوم على "عدم استخدام السلاح النووي أوّلاً"، مرفقة هذا الإعلان المبدئيّ بالتأكيد الرسميّ على أنّه لن يتم أبداً استخدام أسلحتها ضدّ دولةٍ غير نووية. كذلك، سرعان ما عارضت أيّ مشروع لإضفاء طابع عسكريّ على المجال الفضائيّ. يُضاف إلى هذه الوضعيّة المركّزة كليّاً على الدفاع، قلّة إمكانياتها الدفاعية، وكذلك الحداثة التي لطالما كانت موضع تشكيك لموجّهاتها (القاذفات والصواريخ والغواصات المصمّمة لحمل رؤوس نووية). هاتان الميزتان جعلتا منها العضو الأكثر خفتاً في النادي الدولي للبلدان التي تشكّل في الوقت نفسه قوى فضائيّة وقوى حائزة على أسلحة نووية: فرنسا، الولايات المتحدة، بريطانيا، روسيا والصين، التي يمكن أن نضيف إليها اليوم الهند.

خافتة؟ أقلّه حتّى الآن، فهل لا تزال رغبة بكين بالتستّر أمراً محمولاً، في حين أن تطوّرها الاقتصادي يحفّز تصاعد نفوذها السياسي والعسكري، كما يدلّ نشر كتابها الأبيض حول الدفاع في 16 نيسان/إبريل على ذلك؟ هكذا تتغيّر معايير معادلتها النووية، التي لطالما كانت جامدة. وهذا الأمر يثير بدئاً مخاوف الأميركيين.

"هل نعلم العدد الفعلي للصواريخ التي يملكها الصينيون اليوم؟" عندما طرح الأميركي ريتشارد فيشر، المراقب المتيقّظ والمهووس بعض الشيء بالشؤون الصينية في مركز International Assessement and Strategy Center، هذا السؤال في العام 2011، كان يعرف تماماً بأنّه سيصيب هدفاً في البنتاغون والكونغرس [2]. ذلك أن هنالك غموض شبه عام يحيط بتقييم ترسانة الصين التي هي اليوم البلد الوحيد في مجموعة P5 [3] الذي لم يصرّح عن عدد الأسلحة النوويّة التي يملكها. بالنسبة لمعهدStockholm International Peace Research Institute (SIPRI)، ارتفع هذا المجموع في العام 2009 إلى 186 رأس نوويّ عملانيّ تمّ نشره. في حين تتحدّث مجموعة International Panel on Fissile Material (IPFM) من جهتها عن وجود حوالي 240 رأس [4]. وإذا ما قارنّا تلك التخمينات بآلاف الوحدات التي يملكها الثنائي موسكو-واشنطن، يبدو القلق الأميركي مبالَغاً فيه. ففي أيار/مايو 2010، أعلنت الولايات المتحدة رسميّاً عن امتلاكها 000 5 رأساً نوويّاً، سواء كانت رؤوساً تكتيكيّة، استراتيجية أو غير منشورة. من أصل هذا المجموع، هناك 700 1 منتشرة وعملانيّة، على صواريخ بالسنيّة عابرة للقارات (ICBM) وفي غواصات قاذفة للصواريخ (SLBM) أو عبر قاذفات استراتيجية [5].

علماً أنّه في العام 2009، صدر عن جامعة جورج تاون الأميركية تقريرٌ أثار بلبلة في الوسط الصغير للمتخصّصين في المجال النووي الصيني [6]. إذ خلال ثلاث سنوات، وتحت إدارة البروفيسور فيليب كاربر، الموظّف السابق في البنتاغون، قامت مجموعة من الطلاّب بجمع معطيّات متاحة جديدة؛ والخلاصة التي توصّلوا إليها أذهلت الخبراء: أنّ الصين تمتلك في الواقع... 000 3 رأس نووي! وقد "كشفت" الدراسة أيضاً عن وجود شبكة من الأنفاق ممتدّة على طول 000 5 كيلومتر يتمّ استخدامها لنقل وركن أسلحة نوويّة ووحدات خاصّة. هذا "الجدار السراديبي الكبير" حرّك مخيلة الصحافيين، وأصبح بسرعة النظير النوويّ الرمزيّ لـ"عقد اللؤلؤ"، أي سلسلة القواعد البحرية التي أرستها بكين في المياه الآسيوية [7].

وفي ردّة فعل، بادر المؤيّدون الأميركيون لنزع السلاح النوويّ، على غرار هانز كريستنسن، من الاتحاد الأميركي للعلماء Federation of American Scientists إلى اتّهام البنتاغون بتوجيهه هذه الدراسة عن بعد من خلال كاربر الذي، على غرار فيشر أو محرّر الأخبار ويليام غيرتز، يبرز في الصفّ الأول بين المزايدن في تشخيص "اـلخطر" الصيني. ناقض العسكريون هذه التقديرات القصوى [8]. ثمّ أُثيرت القضية مجدّداً على الساحة السياسية؛ ففي 14 تشرين الأول/أكتوبر 2011، لوّح النائب الجمهوري مايكل تورنر أمام الكونغرس بوجود هذه السراديب "المجهولة"، وقال مديناً: "في حين نسعى لتحقيق الشفافيّة على المستوى النووي، تجعل الصين نظامها الخاص أكثر تعتيماً". وإثر "اكتشافها" دراسة جورجتاون، عرضت الصحافة الأوروبية من ناحيتها هذه "الشبكة المذهلة من الأنفاق" على أنها مفاجأة [9]. وانضمّت الصحف الهندية إلى الجوقة. وفي بداية كانون الثاني/يناير 2013، ونتيجة الضغوط التي كان يتعرضّ لها من كلّ حدبٍ وصوب، طلب السيد باراك أوباما من البنتاغون تقريراً حول الموضوع، على أن يتمّ تقديمه في 15 آب/أغسطس المقبل.

إلاّ أنّه على عكس التطرّف الذي بلغه السجال السياسي الأميركي، والتبعية الإعلاميّة الأوروبيّة، يبدو أن "الجدار السراديبي الكبير" لم يكن سراً لأحد منذ عدّة سنوات. إذ منذ 11 كانون الأول/ديسمبر 2009، أعطت صحيفة تصدر في هونغ كونغ Ta Kung Pao معلومات دقيقة حول هذه الورشة الضخمة التي استنفرت عشرات آلاف الجنود الصينيين على مدى عشر سنوات. اطّلع من خلالها الجمهور الآسيويّ العريض على أنّ فرقة المدفعية الثانية التابعة لجيش التحرير الشعبي، المسؤولة عن القوّات النوويّة الاستراتيجية، اتخذت في العام 1995 قرار إخفاء موجّهاتها الصاروخيّة النووية في سراديب أعمق، لوضعها بمنأى عن أيّ هجومٍ تدميريّ مفاجىء محتمل كخطوة استباقية. هكذا باتت شبكة من الأنفاق المعصرنة تجري منذ ذلك الحين تحت السفوح الجبليّة في منطقة هيبي شمال البلاد، على عمق مئات الأمتار [10]، وسط مشهدٍ من المضائق الجبلية والمنحدرات القاسية الملائمة بشكلٍ خاص لإنشاء نظامٍ محميّ جغرافياً للردّ النووي.

يُشار بشكلٍ خاص إلى أنّ هذا "الكشف" صدر في الأساس عن التلفزيون الرسميّ الصيني نفسه، الذي في سياق بثّه لفيلمٍ وثائقيّ في 24 آذار/مارس 2008، علّق باختصار على بلورة برنامج الأنفاق هذا. وانطلاقاً من المراقبة الدقيقة التي تمارسها الدولة على وسائل الإعلام، جاء هذا الإعلان بمثابة إشارة جدّ رسمية، سجّلتها جيّداً الإدارات العسكرية الهنديّة والأميركية والأوروبية. إضافةً إلى ذلك، لا يشكّل حفر الخنادق بالنسبة لجيش التحرير الشعبي هدفاً بحدّ ذاته، إنّما أحد أنماط التحصين لتأمين الردّ على الضربة الأولى المحتملة.

بالتوازي مع ذلك، انتقلت بكين من الصواريخ الضخمة الثابتة ذات الوقود السائل، التي لا يمكنها مقاومة ضربة قاضية أولى، إلى صواريخ ذات وقود جامد، يمكن نقلها بسرعة على قاذفات متحرّكة، على غرار صاروخ DF-31A الذي يصل مداه إلى 000 11 كيلومتر. هكذا تبقى الصواريخ من نوع أرض-أرض، سواء كانت متحرّكة أو مطمورة، عنصر الثلاثية النوويّة" الصينية (صواريخ أرض-أرض، قاذفات جويّة، غواصات) الأكثر مصداقيّة في ردعه، أقلّه في الوقت الراهن.

إلاّ أنّ الصين تعلم بأنّه لا يمكنها الاكتفاء بحماية قدراتها النوويّة للردّ، إذا أرادت المحافظة على نفوذٍ نوويّ عسكريّ يحظى باحترام الأميركيين سواء شاؤوا أم أبوا. كما عليها أن تقارع بشكلٍ نشط التطوّرات في مجال الدفاع الأميركي المضاد للصواريخ، القادر على إبطال قدراتها النظريّة على الردّ. وبغية فكّ هذا الطوق الجديد، يراهن جيش التحرير الشعبي منذ زمنٍ طويل على مسرحٍ بديلٍ للمعركة: الفضاء خارج حدود المحيط الجوّي.

تخوّف من تداعي نوعيّة التكنولوجيا الأمريكيّة

حتّى إذا بحثنا بجهد، لن يعد بإمكاننا إيجاد مناصرٍ للحرس الأحمر كي يصرخ بقناعة "كلّما ارتفع القمر الصناعي في الفضاء، كلّما انخفض العلم الأحمر!"، كما في زمن الثورة الثقافية. إذ حسب قائد الأركان السابق للقوات الجويّة ونائب الرئيس الحاليّ للّجنة العسكرية المركزيّة النافذة، الجنرال كزو كيليانغ، "تشهد المصالح الوطنيّة الصينية توسّعاً، وقد دخل البلد عصر الفضائ" [11]. هكذا بالرغم من معارضتها رسمياً عسكرة الفضاء، تظهر بكين رغبة واضحة بإدانة الهيمنة الأميركية عليه. بما في ذلك في حالات الحرب، حيث يتضّح أنّه نظراً لأهميّة الفضاء أكثر فأكثر في الأسلحة الحديثة، سيشكّل منع الخصم من ولوج الفضاء أولويّة أساسيّة.

من خلال المراهنة على أنّ التفاوض لا يتمّ سوى بين أطراف متساوية، اقتنعت الصين، على غرار روسيا، بأنّ وحدها التطورات المهمّة والمستقلّة ستسمح لها بالحدّ من مطامع "التفوّق الفضائي space superiority" للبنتاغون. إذ بإمكانها إرغام الولايات المتحدة على التوقيع على التزامٍ لتحييدٍ عسكريّ للفضاء، من شأنه سدّ ثغرات المعاهدة حول الفضاء خارج الغلاف الجوّي التي تمّ التوقيع عليها في العام 1967. وفي الواقع، كان تقريرٌ أميركيّ صدر عن لجنة الفضاء (أو لجنة رامسفيلد) في العام 2001 قد فنّد الشوائب العديدة لهذه المعاهدة، كي يستنتج أنّ لا شيء يمنع "من تخزين أو استخدام أسلحة في الفضاء"، أو "من استخدام القوّة من الفضاء باتجاه الأرض" أو "من إجراء عمليات عسكريّة في الفضاء وعبره" [12].

بعد إبعادهم عن المحطة الفضائيّة الدولية من قبل إدارة الطيران والفضاء الوطنية الأمريكيّة (NASA)، باشر الصينيون ببناء محطّتهم الخاصّة التي أُطلق عليها إسم تيانغونغ، والتي ستكون مفتوحة للعلماء من كافّة الدول. وسيتمّ الانتهاء من بنائها في العام 2020. وقد طوّروا صاروخاً قاذفاً من مئة وثلاثين طنّاً، وأعلنوا عن إجراء مهمّة نحو القمر في العام 2025، آملين تخطّي الأميركيين من خلال إرسال مركبة فضائية مسكونة إلى المرّيخ بعد العام 2030. وسيُحصي الجيل الثاني لشبكتهم الفضائية بيدو-كومباس ("البوصلة") قريباً خمس وثلاثين قمراً صناعياً، يقدّموا خدمات الرصد الجغرافي نفسها التي يقدمها نظام التموضع العالميّ GPS، بما فيه وفق النمط العسكري.

إلاّ أن التداعيات الجانبية لهذه الاستراتيجية قد تخطّت ربما نوايا المروّجين لها. فمن خلال تدمير القمر الصناعيّ القديم لأغراض الطقس FY-1C في كانون الثاني/يناير 2007، بمساعدة طائرة معترضة من طراز SC-19، لكي تبرهن عن قدرتها على الهجوم في الفضاء، عرّضت الصين نفسها للانتقاد. فقد سارعت الولايات المتحدة بدعمٍ من العديد من الدول، إلى مهاجمة تصرّفها على أنّه "جنحة فضائية"، وأدانت المخاطر التي تسبّبت به شظايا العملية، كما تعارض ذلك مع مواقفها المتوازنة عادة في السياسات الفضائية. وفي كانون الثاني/يناير 2011، حذّرت واشنطن في الصيغة الأخيرة للاستراتيجية الوطنية للأمن الفضائي، من أنّ: "الولايات المتحدة تحتفظ بحقّ وإمكانيات الردّ من موقع الدفاع الشرعيّ (في الفضاء)، في حال فشل الردع" [13].

على صعيد النظرية الاستراتيجية، أكّد الأميركي إيفيريت دولمان على أنّ "موضوع الحرب المقبلة مع الصين سيرتكز على معركة التحكّم بالفضاء خارج الغلاف الجوي" [14]. و تُطرح على خلفية ذلك المسألة النوويّة: فالأقمار الفضائية الأميركيّة للإنذار المبكر، التي يتمّ استخدامها ضمن إطار الكشف عن عمليات إطلاق الصواريخ، باتت هدفاً محتملاً للإمكانيات الصينية. خاصّة أنّه دون تلك الأقمار الفضائية، يصبح تنظيم القوى والإدارة النوويّة الاستراتيجية الأميركية معرّضاً للشلل.

يُضاف إلى تلك المخاوف، من الجهة الأميركيّة، الشعور المبرح بتداعي نوعيّة التكنولوجيا مستقبلياً. فمن لا يزال يذكر بأنّ الصواريخ الشيوعيّة من طراز "المسيرة الطويلة" قد أطلقت حوالي عشرين قمراً فضائياً قبل أن تبادر واشنطن في العام 1990 إلى فرض حظرٍ على بيع مكوّنات فضائيّة إلى بكين؟ كانت النازا تغضّ الطرف، ناظرةً إلى الصين بتعالٍ. ثمّ انقلبت "الساعة النوويّة"، وتمّت المباشرة بعمليّة استدراك متسارعة آسيّاً، مع أنّ الفارق في الإمكانيات مع الولايات المتحدة لا يزال ضخماً. الخشية التي دفعت مهندساً من MIT في 2008 لوضع نموذجٍ لظروف حرب فضائيّة بين البلدين... كي يستنتج مع بعض الراحة أنّ الصينيين سيخسرون هذه الحرب [15]. وفي حين أنّ الكتاب الأبيض الصيني حول الفضاء لا يذكر في العام 2011 سوى خمسة "محاور أساسية"، جميعها مدنية (التطوير العلميّ والسلميّ، والابتكار، والاستقلالية والانفتاح على العالم)، تجدر الإشارة إلى أنّه في العام نفسه، من أصل تسعة عشر عملية إطلاق صواريخ صينيّة، ثمانية عشرة منها أجريت لمصلحة الدفاع.

في العام 2012، تمّ وضع حوالي ثلاثين قمراً صناعياً من كافّة الأنواع في مداراتها، بعضها مصغّر، وذلك في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية (Zhongxing 10)، الملاحة، المراقبة، الاستطلاع، توصيل المعطيات (Tianlian 1). ويتمّ حالياً وضع مشروع أقمار صناعيّة للإنذار، في حين يتمّ افتتاح مركزٍ جديد لإطلاق الآليات الفضائيّة في وينشانغ، على جزيرة هاينان. في غضون ذلك، تمّ إلغاء المشروع الأميركيConstellation نحو القمر من قبل السيد أوباما في شباط/فبراير 2010. بالنسبة لغريغوري كولاكي، من "اتّحاد العلماء المعنيين Union of Concerned Scientists"، على الأميركيين التخلّي عن "الفكرة المبتذلة (القائلة أنّه في المجال الفضائي) سيكون الصينيون بحاجة لنا أكثر ممّا سنكون بحاجة إليهم" [16].

إنّ البلبلة المحمومة والارتداديّة لدى بعض الصحافيين الأميركيين إزاء التصاعد المحتمل لنفوذ "منافسٍ نظيرٍ لهم" من المستوى العالمي، لا يجب أن تخفي أنّ التطورات الفضائيّة النوويّة الصينيّة تطرح بشكلٍ موضوعيّ عدداً من الأسئلة. فجميع المراقبون متفقون على أنّ الصين هي العضو الوحيد في مجموعة P5 الذي يزيد حالياً عدد رؤسه النوويّة. إنما وفق أيّة وتيرة تحديداً؟ معركة الأرقام محتدمة؛ ومن بين الخبراء، يتقدّم البعض بحدٍّ أقصى يصل إلى 800 1 رأس نووي عملانيّ. لكن كما يعترف به اختصاصيو نزع الأسلحة أنفسهم، ليس المهمّ التساؤل حول ما إذا كانت الصين تحدّث ترسانتها - إذ هذا ما تفعله حقّاً -، إنّما عدم إعطاء معلومات موهومة حول وتيرة هذا التحديث.

يبقى أنّه على ضوء تلك الطموحات النوويّة الصينية، سيتغيّر التوازن الاستراتيجي ضمن مجموعة P5. فقد باتت بريطانيا تؤكّد على امتلاكها مئة وستين رأساً عملانياً [17]. وقد بادرت فرنسا إلى خفضٍ بنسبة 50 في المئة لرؤوسها منذ الحرب الباردة، وأنقصت إلى النصف الميزانية المخصّصة للردع النووي خلال عشرين عاماً، وهي تحتفظ بحوالي مئة رأس عملاني [18]. في المقابل، قفزت بكين، خلال ما لا يزيد عن عشر سنوات، معتمدة على ما يمكن تسميته بـ"التعايش الفضائي النووي"، فوق مرحلة التساوي التكنولوجي مع القوّتين النوويّتين الأوروبيتين - ما كان قد بدا أنّه هدفها على المدى المتوسّط - كي تضع نفسها فوراً في موضع حوار غير متوازٍ مع الإمكانيات الأميركية.

التفاوض حول معاهدة جديدة

في النهاية، من خلال تكرار الجدليّة المخرّبة للحرب الباردة، لا يمكن أن نحيّد بالكامل إمكانية أن تجد كلّ من واشنطن وبكين نفسهما متورطتين في سباقٍ مشابهٍ لذاك الذي دفع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، دون اعتبارٍ لأيّ توجّهٍ عقلانيّ، إلى تكديس الرؤوس في المرابض من أجل المحافظة على "توازن الرعب". فخلال الستينات، كانت واشنطن قد غذّت ترسانتها وصولاً إلى 000 31 رأسٍ عملانيّ...

تتعارض هذه الرؤية المتطرّفة للردع النوويّ مع المبدأ الفرنسي للقائلة بالاكتفاء الصرف (نوويّاً "سنموت مرّة واحدة فقط")، أي عقيدة "الغباوة العقلانية" جرت القناعة في النهاية بأنّ الصين كانت قد اعتمدتها سرّاً منذ العام 1964. إذ ألم يعلن الرئيس هيو جينتاو في منظمة الأمم المتحدة، في العام 2009 أيضاً، بأنّ الصين "تكرّر رسميّاً تعهّدها بتمسّكها الصارم باستراتيجية نوويّة دفاعية" [19]؟

كما أعلن السيد أوباما في 12 شباط/فبراير 2013 عن تقليصٍ جديدٍ للترسانة النوويّة الأميركية، التي يمكن أن تنتقل من 1700 رأسٍ عملانيّ إلى أقلّ من 000 1 مع حلول العام 2020. لكن هل هذا المفهوم الأدنى للتأمين على الحياة الاستراتيجيّ سيبقى قائماً في حال تأكّدت التطوّرات الصينية؟ وهل سنشهد مجدّداً على ارتسام التطوّرات الخياليّة للاستراتيجي هيرمان كاهن، مؤسّس معهد هادسون في العام 1961، الذي كان يصرّح بأن تكديس الرؤوس لم يكن ينمّ عن حماقة، كونه يمكن أن يكون هناك "منتصر" في حربٍ نوويّة [20]؟

وسيكون لردّات الفعل القلقة لجيران الصين تأثيرها في هذه اللعبة المتقاطعة لوجهات النظر. إذ على المدى القصير، يمكن لليابانيين نظريّاً تحويل الصارخ القاذف الفضائيّ الجديد ذي الدفع الصلب Epsilon، والذي سيقوم برحلته الأولى هذا العام، إلى صاروخٍ باليستيّ بعيد الأمد. كما لا تخفي فيتنام طموحاتها الفضائية؛ وتحرز الهند تقدّماً في مجال مكافحة الأقمار الفضائية (لتدميرها).

لا يمكن للحلّ سوى أن يكون سياسيّ. إعادة العمل بالوقاية التي كانت تمنحها معاهدة الحدّ من أنظمة القذائف المضادة للصواريخ (ABM treaty) للعام 1972، والتي نقضتها إدارة بوش من طرفٍ واحد في العام 2002؟ يمكن لهذا الخيار أن يكون مقبولاً، مع إشراك الصين هذه المرّة في المحادثات. قد ينذر هذا بمفاوضات صعبة؛ لكنّه سيفرض على السلطات الصينيّة التفكير جديّاً بعرضٍ من هذا النوع، بحسب ما توحي به التصاريح الرسميّة التي تدلي بها بشكلٍ متزايد حول الشروط الإلزامية لنزع ٍعالميّ للسلاح النووي [21]. بانتظار ذلك، يبدو نظريّاً أنّه من جبال هيبي وصولاً إلى حزام المدارات الجغرافية الثابتة في الفضاء، نشهد على ظهور توجّهٍ نحو التحديث المتوازي للترسانات النوويّة والفضائيّة، سيأتي بتغييرات كبرى في التوازنات الاستراتيجية في آسيا الشرقية.

* مسؤول دراسات في الشركة الأوروبيّة للمعلومات الاستراتيجية(CEIS) ، باريس. من مؤلفاته: La Nouvelle impuissance américaine, L’Œuvre, Paris, 2011.
[1] Evan Osnos, « The two lives of Qian Xuesen », The New Yorker, 3/11/2009.
[2] « US worries over China’s underground network », Agence France-Presse, Paris, 14/10/2011.
[3] الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن في منظمة الأمم المتحدة - أي بريطانيا، والصين، وفرنسا، والإتحاد الروسي والولايات المتحدة- هم الدول الوحيدة المزوّدة بأسلحة نووية المعترف بها في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
[4] تأسّس مركز IPFM في العام 2006 من قبل خبراء مدنيّين في حظر الانتشار ينتمون إلى سبعة عشر بلداً. يترأسه البروفيسور رامامورتي راجارامان من جامعة نيودلهي.
[5] « Nuclear Weapons : Who has what at a glance », Arms Control Association, Washington, DC, 11/2012.
[6] «Strategic implications of China’s underground great wall», Asia Arms Control Project, Georgetown University, 26/9/2011.
[7] أوليفييه زاجيك: "بكين تؤكّد طموحاتها النوويّة"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، أيلول/سبتمبر 2008، http://www.mondiploar.com/article22...
[8] Hans M. Kristensen, « STRATCOM Commander rejects high estimates for Chinese nuclear arsenal », Strategic Security Blog, Federation of American Scientists, 22/8/2012, http://blogs.fas.org
[9] « Que cache la Chine dans sa “grande muraille souterraine” ? », Le Nouvel Observateur, Paris, 7/12/2009.
[10] Arnaud de La Grange, « Les missiles nucléaires chinois à l’abri d’un tunnel secret », Le Figaro, Paris, 19/12/2009.
[11] « China “To Put Weapons in Space” », South China Morning Post, Hongkong, 3/11/2009.
[12] « Report of the Commission to Assess United States National Security Space Management and Organization », 11/1/2001. اعتُبرت تلك الخلاصات إستفزازية جداً مقارنة مع التقارير اللاحقة الصادرة عن وزراة الدفاع.
[13] الاستراتيجية الوطنية للأمن الفضائي، كانون الثاني/يناير 2011.
[14] Everett C. Dolman, « New Frontiers, Old Realities », Strategic Studies Quarterly, vol. 6, n°1, Washington, DC, 2012.
[15] Noah Schachtman, « How China loses the coming space war », Wired, San Francisco, 1/10/2008.
[16] Jeff Foust, « Space Challenges for 2011 », 3/1/2011, www.thespacereview.com
[17] تقرير صادر عن مكتب التدقيق الوطني في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2008 مخصّص لمستقبل الردع النووي البريطاني.
[18] « Désarmement, non-prolifération nucléaires et sécurité de la France », rapport d’information du Sénat n° 332, 24 février 2010. مع إحصاء مخازين الصيانة، تملك فرنسا حوالي ثلاثمئة رأس.
[19] Hu Jintao, « Work together to build a safer world for all », déclaration lors du Sommet du Conseil de sécurité des Nations unies sur la non-prolifération et le désarmement nucléaires, New York, 24 septembre 2009.
[20] Herman Kahn, On Thermonuclear War, Princeton University Press, 1960.
[21] « Statement by the Chinese delegation on nuclear disarmament at the thematic debate at the first committee of the 67th Session of UNGA », 19/9/2012.


بقلم أوليفيه زاجيك
المصدر: لوموند ديبلوماتيك- النسخة العربية

آخر تعديل على الأحد, 16 حزيران/يونيو 2013 21:32