انطباعات يسارية من وسط حديقة جيزي قبل لحظات من اقتحامها
صور شهداء الانتفاضة الشعبية التركية تتصدر حديقة جيزي المطلة على ساحة تقسيم.. وفي مواجهة لصورة اوردغان وهو يقبع خلف الزنزانة يقف رجل مسن يرفع صورة الشهداء ويؤشر الى صورة السجين اوردغان و مصير القاتل المحتم - السجن...
كما يتداول جمهور الشابات والشباب الذين يزدحم بهم موقع التظاهرة الكلمات الأخيرة للشاب الشهيد عبد الله كوميرت؛ 22 عاما؛ في 3 حزيران.
وذكرت تقارير التشريح كدمات وضربات على رأسه أدت إلى وفاته. والرسالة الأخيرة هي أن الشهيد عبد الله كوميرت اشترك في حسابه على الفيسبوك قبل وفاته وقال:
«لقد كنت أنام 5 ساعات فقط في 3 أيام. لقد استنشقت عدد لا يحصى من قنابل الغاز المسيل للدموع وتوفيت على الأقل 3 مرات؛ وهل تعرف ما يقوله الناس؟؛ دعه يذهب!
هل أنت الوحيد لتنقذ الدولة؛ بالتأكيد؛ حتى لو كنا لا نستطيع؛ فسوف نموت باسم حفظه؛ (أنا متعب لدرجة أنني قد شربت 7 مشروبات طاقة في 3 أيام؛ وتناولت 9 مسكنات؛ وعلى الرغم من ذلك؛ فقدت صوتي؛ سأكون هناك في الشوارع في تمام الساعة 6 فقط من أجل الثورة».
وطلبت عائلة كوميرت تشريح ثاني للجثة مدعيةً بوجود إصابة برصاصة في رأسه. وحضر جنازته الآلاف من الناس في مسقط رأسه أرموتلو هاتاي. وعبد الله كوميرت هو الشاب الشهيد الثاني الذي تأكدت في تسلسل شهداء الانتفاضة الشعبية التركية..
عند اقترابي من مشارف حديقة جيزي برفقة رفيقة عضو في لجنة التضامن المشرفة على تنظيم التظاهرة، شعرت بمهابة المشهد الثوري، فصورة كبيرة لماركس وانجلس ولينين تحتل الركن الايمن للحديقة وتتوسطها صورة لجيفارا ، اما الاعلام الحمراء فترفرف عاليا في الجهة اليسرى لواجهة الحديقة المطلة على ساحة تقسيم، ووتتموضع جندرمة اوردعان المدججة بكل أنواع أسلحة حرب الشوارع والمدرعات وسيارات مكافحة الشغب..الخ فتقف متاهبة من الجهتين اليسرى واليمنى المواجهة للحديقة وتحاصرها من الجهات الاخرى....وما وطأت أقدامنا مدخل الحديقة المفتوح على ساحة تقسيم
وجندرمة اوردغان، حتى واجهتنا فعالية رقص شعبي معبرة مصحوبة بالغناء الثوري المتحدي للقوى الغاشمة لسلطة البرجوازية التركية الحاكمة، والذي تبين لي بعد ساعات من التجوال والحوار وسط الحديقة بخيمها ومراكز النشاطات الفنية والثقافية والاجتماعية والاسعافات الاولية ووجبات الطعام والشراب الخفيفة...الخ ، تبين لي بأن ساحة الرقص هذه، هي موقع الفصيلة المقدامة المتقدمة لمواجهة جندرمة اوردغان، حيث تقوم بين الحين والاخر بالنزول وبايدي متشابكة واغنية ثورية وموسيقى حماسية الى ساحة تقسيم، مما يثير اعصاب جندرمة اورغان التي تبدأ بالتأهب لمهاجمة
الشابات والشباب المتشابك الايادي، العائد من جديد الى موقع الفصيلة الثورية، ضمن حركة موسيقية منظمة الى مقدمة الحديقة .
يتوسط الحديقة منصة لجنة التضامن حيث تلقى الكلمات ووتحدد برامج الحراك الشعبي اليومي، وما اعتلت رفيقة يسارية تردي اللون الاحمر عن الخطوات القادمة، حتى اعتلى الهتاف المتحدي لاوردغان ...لا تراجع مهما كلف الثمن....وبعد ساعتين تقريباً اعتلت المنصة رفيقة شابة يسارية ترتدي الزي الاسود هذه المرة، في تعبير حزن على شهداء الانتفاضة الشعبية التركية، والتي حذرت من هجوم وشيك للجندرمة على الحديقة، مما دفع الحضور الى ارسال رسالة تحدي بتكرار الهتاف الموحد المعبر عن هذه الرسالة وبايدي مرفوعة وقبضات متوعدة.
وما بدات الجندرمة التقدم نحو الحديقة حتى تمترس الشباب والشابات وسط الخيام الملونة الصغيرة الحجم التي تنتشر بالعشرات في الحديقة ..وعند هذه اللحظة فوجئت برفيقة شابة تاخذني من يدي وهي تردد بالانكليزية من هنا .. من هنا .. وهي تسحبني في ممر مشجر ضيق حتى وجدت نفسي خارج الحديقة من الجهة الجنوبية الغربية ، اذهب رفيق صباح شكراً لزيارتك.. وداعاً ساعود الى الحديقة...وما هي الا ساعة زمن حتى بطشت فيها جندرمة اوردغان بالمتظاهرين وودمرت خيمهم ومراكزهم في وهم مكرور مهزوم، وهم قضاء الانظمة البرجوازية الاستغلالية على انتفاضات الفقراء.
كنت قد جلست الى خيمة الرفيقة الشابة - ق - التي ترفع لافتة صغيرة انقرة ليست وحيدة واثناء حواري معها، اوضحت..بأننا نتضامن مع المدن المنتفضة وعن اهداف الانتفاضة قالت : بناء نظام ديمقراطي ودولة علمانية متحررة من هيمنة حزب ديني ودكتاتورية اوردغان، نظام يحقق مطاليب العمال والفلاحين...وعن موقف حكومة اوردغان من الأزمة السورية وتدخله في الشأن العراقي .. قالت الرفيقة - ق -ان اوردغان وحكومته وحزبه الاسلامي ينفذون سياسة امبريالية صهيونية مرفوضة من قبلنا كيسار خاصة ومن الشعب التركي عامة..نحن مع حق الشعب السوري في إقامة النظام الديمقراطي
بالوسائل الكفاحية التي يراها مناسبة دون اي تدخل خارجي . ونتضامن مع هذا الحق.كما نرفض التحالف الاوردغاني - البارازاني الهادف الى تقسيم العراق.وكان احد المشاركين في التظاهرات يرفع شعارا لافتا هو: نرفض تحالف الشر أوردغان - بارزاني وعندما سالته عن مغزى هذا الشعار -، أجاب بأن اوردغان وعبد الله غول من قادة تحالف الشر الذي يحاول محو الأمة التركية؛ لتدمير جمهورية أتاتورك ولتقسيم وطننا. وتجرجر إدارة أردوغان-غول مع الائتلاف الذي شكلوه مع فتح الله غولن وعبد الله أوكلان والبارزاني - تركيا إلى ظلام دامس. والقائد الفعلي لهذا التحالف هو الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ولا يوجد أمل في غول الذي يعمل كـ شرطي صالح وفق اتفاق ابرمه بنص في صفحة 2 مادة على اتفاقية سرية مع وزير الخارجية الامريكية الاسبق باول.
وبعد انتهاء الرفيقة اليسارية المرتدية الزي الاسود والتي حذرت فيها من هجوم وشيك لجندرمة اوردغان ،والتي وافقت على نشر اسمها فيدان سألتها عن القوى المنظمة للتظاهرات فاجابت : هناك 80 منظمة مجتمعية مشاركة في التظاهرات ممثلة في - لجنة التضامن - التي تشرف ميدانياً على قيادة وتنظيم الانتفاضة الشعبية ،ويمنع على الاحزاب بما فيها احزابنا اليسارية رفع رايات حزبية، واكدت من ان تقديراتهم، بأن المعركة سوف لن تكون طويلة، وقد تنسحب بعض القوى كلما تقدم البعد الطبقي في الصراع مع الحكومة البرجوازية الرجعية الحاكمة ، لكن الأمر المؤكد هو انه
لاتراجع الى الوراء ابداً حتى تحقيق اهداف الانتفاضة الشعبية في إسقاط أوردغان وحكومته الرجعية المعادية للشعب التركي..من جهتة ممثل الجبهة الشعبية التركية التي تشرف على الركن الامامي الايسر الراقص الصدامي ابلغني بأن عليه التحرك سريعا فالهجوم قد بدا فعلاً.. صافحته بحرارة ففاجاني بقبلة وقال شكراً لحضورك يارفيق ، ولم تمنحنا اللحظة العصيبة هذه فرصة التقاط صورة تذكارية كما جرى مع الرفيقتين - -ق - و- فيدان - قبل ساعة من الزمن.
غادرت حديقة عثمان واثقاً من تواصل الاحتجاجات؛ واضرابات العمال؛ وهي مستمرة فعلاً في غالية المدن تركية. اسطنبول وإزمير وأنقرة وأضنة وبولو وأوردو وبورصا بمشاركة الآلاف من الناس. امتلأت الساحات بالجماهير ترفع الشعارات الثورية المطالبة بالتغيير الجذري لصالح الكادحين، ومن الشعارات الملفتة تلك التي رفعت في أزمير.شعار الأتراك والأكراد والعرب؛ نحن جميعا أخوة ، طيب استقل! في وقت يتخبط فيه أوردغان و حكومتة وحزبه المسمى زوراً بحزب العدالة والتنمية ويكررون اطلاق اوصاف مبارك والقذافي وصالح ... الخ الغبية على المحتجين والتي
وصفتهم بـ المخربين المهمشين وشاربي الكحوليات..الخ في اصرار احمق على تكرار سناريو السقوط المحتم .. الامر المختلف في االحالة التركية ، والمعبر عن دلالة التغيير الثوري المنشود، ان الانتفاضة التركية طبقية بامتياز وهدفها اسقاط حزب اسلامي متاجر بشعار العدالة الاجتماعية في وقت تسلل فيها الى السلطة في بلدان الثورات العربية احزاب اسلامية تقتدي بحزب اوردغان وحليفة له ، ان لم تكن تابعة له، وهذا ما يفسر تخبط اوردغان بعد فشله في تعميم نوذجه الرجعي على سوريا ، إذ تمكن اليسار السوري الثوري ممثلاً في حزب الإرادة الشعبية
وحلفاؤه من خوض الانتفاضة الشعبية السورية من اجل الانتقال السلمي الديمقراطي من سلطة الحزب الواحد والنظام الليبرالي الوحشي الى مرحلة تاسيس الدولة الوطنية الديمقراطية. ولن يتخلف شعبنا العراقي ذو التأريخ الثوري المجيد عن ركب الشعوب التواقة للحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية ، وسينتصر حتما في معركته الطبقية والوطنية من أجل إنهاء
نظام المحاصصة الطائفية الاثنية الفاسد وإقامة النظام الوطني التحرري في ظل الدولة الوطنية الديمقراطية المتحررة من هيمنة الامبريالية الامريكية.
غادرت حديقة جيزي وكأنني في حلم ثوري لا ارغب مغادرته.. ففي نهار اليوم السابق كنت في شارع المتنبي في بغداد والزيارت المتواصلة للمكتبة اليسارية التي اففتتحت رسمياً في 14 حزيران 2013، و الحوار عن المؤتمر العاشر لحزب الإرادة الشعبية السوري ودوره الخلاق في الحراك الشعبي والتصدي لقوى الفساد الكبير في النظام السوري والتصدي للهجوم الامبريالي الصهيوني الرجعي،هذا المؤتمر( 6-7/6/2013 ) الذي تشرفت بحضوره ممثلاً عن التيار اليساري الوطني العراقي في نادي نقابات العمال في دمشق الغالية على قلوبنا نحن العراقيون،والوسام الذي كرمني فيه الرفاق في قيادة
حزب الإرادة الشعبية باعطاء الكلمة الاولى لليسار العراقي من بين الضيوف العرب. والحورات الرفاقية التي اجريتها في مقهى الشابندر ومقهى المركز الثقافي البغدادي حول اللقاء اليساري العربي الذي عقد في بيروت الحرية والمقاومة المنتصرة ( 7-8/6/2013) ودور الحزب الشيوعي اللبناني الشقيق المبادر في تقوية جبهة اليسار العربي، وفي مساء نفس اليوم ومن حديقة اتحاد الادباء في العراق انطلق حوار صريح حول الحوار الوطني الديمقراطي العراقي الجاري من أجل إقامة اوسع تحالف وطني تحرري تقدمي ديمقراطي،والموقف من القوى الدينية ...نعم لقد غادرت حديقة الثورة
الشعبية التركية - جيزي - ولكنني لم اغادر الحلم الثوري ابداُ..ما دام دماء الشهداء الابطال تسري في عروقنا وتمدنا بالعزم على مواصلة الدرب الذي اختطوه بدمائهم الزكية، حتى تحقيق النصر المحتم رغم أنف الطغاة والجلادين
صباح الموسوي
اسطنبول
فجر 16 حزيران 2013