صيف تركي حار يلفح اردوغان ويذيب شمع المكابرة
تركيا “حزب العدالة والتنمية” كانت على وشك استنساخ تجربة سلفتها الامبراطورية العثمانية، في مستوى بسط سيطرتها وتمدد نفوذها في الدول العربية؛ ورئيس وزرائها رجب طيب اردوغان يتوثب لاعلان نفسه سلطانا بعد خطبه وُدّ الولايات المتحدة،
واطمئنانه لآيات الاطراء الصادرة عن الرئيس باراك اوباما لأهمية تركيا و”دورها الحيوي لانهاء الحرب الدائرة في سورية.” كما انتشى اردوغان برسالة الاعتذار الصادرة عن رئيس وزراء الكيان “الاسرائيلي” نتنياهو لاعتراض قواته العسكرية سفينة آفي مرمرة ومصرع عدد من ركابها الاتراك في طريقهم لتحدي الحصار المفروض على قطاع غزة.
بل تألق ابتهاج اردوغان لثبات طموحه السياسي وبقائه في منصبه الاطول زمنا في تاريخ تركيا الحديث منذ الحرب العالمية الاولى، عززه ظنه ارتفاع منسوب شعبيته سيما في تصديه لسلطة المؤسسة العسكرية وسعيه مؤخرا لتهدئة الصراع مع الخصوم الكرد. وبدا لوهلة ان تركيا عصية على تكرار تجربة “الربيع العربي” وهي التي استكانت لمكانتها كواحة استقرار في منطقة مضطربة وملتهبة.
باغت تحرك الشباب الاتراك طموح اردوغان في تحقيق مآربه، وهو السياسي المحنك، ونزلوا الى الساحات العامة والشوارع الرئيسة احتجاجا على صلف سياسته، ونزوعه الثابت نحو التطرف والاستبداد؛ واندفعت شريحة اجتماعية عريضة تمثل اطياف التيارات السياسية لرفد المسيرات والمواجهات الاحتجاجية المتعددة وينمو زخمها باضطراد. اقطاب حلف الناتو، وعلى رأسهم المانيا، سارعت للتلميح الى امكانية تدخل المؤسسة العسكرية العلمانية الى جانب المحتجين. اميركا ودوائرها الاستخبارية، التي تتمتع بعلاقات طيبة مع خصوم اردوغان، ترجح “استمرار وتيرة الاحتجاجات وازدياد حدة الاشتباكات” مع اجهزة الشرطة “وربما تزداد رقعة الشرخ والانقسام داخل صفوف حزب اردوغان.”
احتقان وقلق عميق يحمله المحتجون ضد سعي اردوغان تطويع النصوص الدستورية كي تمنحه صلاحيات اوسع، وادراكهم ان الصيغة الحالية للدستور تمنع اردوغان من الترشح مجددا عند نهاية ولايته الحالية في العام 2014. ولم يعد سرا سعي اردوغان لاقرار صيغة دستورية تخول منصب الرئيس صلاحيات اضافية، وهو الساعي لتبوأ المنصب ان كتب لمساعيه النجاح، مما يعني ان باستطاعته البقاء في الحكم لمدة عشر سنوات مقبلة يرافقه تراجع تدابير الشفافية ومراقبة الاداء.
ربما كانت ساحة تكسيم هي الشرارة التي اطلقت الارهاصات الشعبية ضد اردوغان من مهدها، سيما وان القوى المنخرطة تضم فئات اجتماعية واراء سياسية متعددة، بل متناقضة في تطلعاتها لمستقبل تركيا. وانصهرت سريعا للتصدي لبرنامج اردوغان اسلمة البلاد وتقييد منظومة الحريات المدنية في عهده. أس قاعدة الدعم الشعبي لاردوغان يأتي من الاناضول، المعروفة بآسيا الصغرى وتشترك في حدودها الجنوبية مع سورية، بينما تتطلع النخب السياسية والتجارية في اسطنبول غربا نحو اوروبا للتفاعل والتواصل معها. احتدام الازمة يؤشر على صراع يجري بين رؤيتين مختلفين لماهية ومستقبل تركيا.
اصرار اردوغان على احتقار المتظاهرين، بينما هو يمضي في زيارة رسمية لعدة دول بينها تونس تستمر لثلاثة ايام، وعدم احساسه بما يمور به النبض الشعبي اعطى المتظاهرين زخما اضافيا لصحة تقييمهم بأن اردوغان لا يلتفت لمصالح ومطالب الشعب. ومما زاد الطين بلة تصريحه مطلع الاسبوع بانه “فهم رسالة المحتجين،” ارفقه بالتهديد لاطلاق عنان جموع مؤيديه الذين صوتوا له باستعادة الساحات العامة عنوة من المتظاهرين، وعززه ايضا بنشر قوات اضافية من الشرطة بتعليمات لقمع التحركات وتهدئة الاوضاع.
بلغت غطرسة اردوغان مستويات غير مسبوقة لعزمه تطبيق برنامج حزبه، اذ ذكّر الاتراك في تصريح مؤخرا ان كانو يرغبون الاحتكام الى قانون وضعي سنّه فرديْن ثمِليْن ام الى قانون الهي. يذكر ان تركيا اتاتورك رفعت الحظر عن تعاطي الكحول في العام 1926، ويعتقد ان اتاتورك قضى بمرض تليف الكبد. وعليه، يفهم من تصريحات اردوغان بانها تشكل هجوما على بطل تركيا القومي الذي ارسى دعائمها الحديثة، واعاد الى اذهان الشعب مغزى القانون الذي سن مؤخرا لتقييد بيع واستهلاك الكحول.
الصراع الدائر في سورية ارخى ظلاله على الداخل التركي، قبل اندلاع الاحتجاجات، ابرزها تنامي التوتر بين اكراد تركيا وحكومة اردوغان على خلفية دعم الاخيرة لمسلحي جبهة النصرة في سورية، مما ادى الى نشوب بعض الاشتباكات بين الطرفين. بعد انتشار المظاهرات، وانشاء الاكراد مناطق سلمية يحرسونها في الداخل السوري من اختراق المسلحين المتطرفين، وتفاقم الاوضاع الداخلية يصبح عسيرا على اردوغان وفريقه معالجة تلك القضايا دفعة واحدة؛ سيما وهو المشهور بعناده في التعامل مع الملفات السياسية ومع الآخرين.
ومن ابرز عوامل الاحتقان ضد سياسات اردوغان وفريقه انكماش الاقتصاد التركي مما انعكس مباشرة على شريحة التجار ورجال الاعمال الذين دعموا حملته في البداية. وتراجع الانتاج القومي العام الى نحو الصفر، بينما تنمو اجهزة الدولة ومرافقها باضطراد بنسبة 20% سنويا تمول بقروض خارجية. اذ ارتفع معدل الديون (العجز) على تركيا الى نحو 300 مليار دولار. اما احصائيات البطالة فهي ترتفع تصاعديا يرافقها تضخم بنسبة 7%.
سيناريوهات مخارج الازمة تصب في اتجاهين: المؤسسة العسكرية التقليدية حارس النموذج التركي العلماني؛ والثاني التعويل على رموز سياسية اخرى في حزب العدالة والتنمية، اذ جرى تداول اسم الرئيس عبدالله غول ونائب رئيس الوزراء بولنت ارينج، كمرحلة انتقالية لامتصاص حدة الغضب الشعبي. فالمؤسسة العسكرية قامت بالسيطرة على الحكومة التركية في ثلاث مراحل منذ انشاء الدولة: 1960، 1971، و1980.
اردوغان ادرك منذ بداية ولايته القوة النافذة للمؤسسة العسكرية وعمل بتأن لتقويض دورها والحد من هيمنتها وادخال تغييرات بنيوية عليها، كما وتطهير صفوفها من كبار الضباط النافذين، بل اودع بعضهم السجن ممن لا يطمئن جانبه او ولاءه. واستند الى بند ضبابي في النظام التركي يحيل الطرف المناويء الى السجن بناء على مجرد توجيه التهمة له، يتم احتجازه بموجبه لعدة سنوات دون محاكمة او اطلاق سراحه بكفالة مالية. واضحت المؤسسة العسكرية هيكلا عظميا في عهده مقارنة بالايام الخوالي.
اطلق اردوغان يده ليتم اعتقال ما يعتقد انهم يعارضون سياساته، اذ شملت حملة الاعتقالات والتوقيف طيفا واسعا من النخب ضمت صحافيين واساتذة اكاديميين ورجال سياسة ونشطاء في مجال الحقوق الانسانية. وفازت تركيا بالمرتبة الاولى بين دول العالم في عدد الصحافيين خلف القضبان دون محاكمة.
تفتقد حركات الاحتجاج الحالية الى رموز اساسية باستطاعتها استقطاب قوى مختلفة وتوجيه البوصلة، كما لوحظ ابتعاد الاحزاب السياسية المعارضة عن تجيير الحركة لصالحها، دل عليه غياب الاعلام واليافطات والشعارات الحزبية فضلا عن غياب الشخصيات السياسية المعروفة من ميادين الاعتصامات. المشهد العام للقوى المشاركة يدل على انخراط “الكماليين،” اتباع المؤسس مصطفى كمال اتاتورك، والشيوعيين جنبا الى جنب مع الليبراليين والعلمانيين. الامر الذي يدحض اتهامات اردوغان لتلك المجموعات بانها حفنة من “اللصوص والمهربين.”
وها هي الاوضاع تتبلور في اتجاه نقيض لاجواء “الربيع العربي،” الوصفة السحرية لقوى الثورة المضادة، التي “سمح لها بالصعود السريع” وتسلم زمام الامور في مصر. باستطاعة المرء التعرف على اهداف المتظاهرين الاتراك وارساء نموذج الديموقراطية الليبرالية ضد القوى الاسلامية الساعية لفرض تفسيرها الديني الخاص البعيد عن التسامح مع الآخر. فالربيع التركي، وللدقة “الصيف التركي” يتخذ مغزىً خاص لناحية كونه يشهد احتجاجات واسعة هي الاولى ضد الحكم المطلق للاسلاميين. ولخص مثقفون اتراك الوضع بجملة بالغة الدلالة بأن “الاحتجاجات تشكل صرخة ملايين تشعر بالتهميش،” مؤشرة على استقطابات اجتماعية وربما طبقية لتحييد تغول النموذج الاسلامي.
امكانية انقلاب عسكري في تركيا
للمؤسسة العسكرية التركية باع طويل للتحرك وحماية نموذج تركيا العلمانية، فهل ستمضي في هذا المضمار للاطاحة باردوغان؟
الاجابة قد تكون بالايجاب من الناحية التقنية، لكن من غير المرشح قيامها بذلك. رئيس هيئة قيادة الاركان العسكرية التركية، نجدت اوزل، لا يظهر حماسا للتعاطي بالامور السياسية وغير مصنف في خانة المؤيدين للغرب. اذ اعلن فور تبوئه منصبه انه يتعين على القوات العسكرية البقاء خارج الحلبة السياسية والعمل ضمن الضوابط القانونية. بخلاف اسلافه قادة الاركان كافة، لم يتبوأ اوزل منصبا لدى حلف الناتو واقتصر نطاق اختصاصه على مكافحة الارهاب الداخلي ومحاربة الاكراد.
الثابت ان ولاء اوزل يميل الى اردوغان الذي اصطفاه الى اعلى هرم التراتبية القيادية بينما اضطر الاخرون الى تقديم استقالاتهم. ويحسب لاوزل افشال فريقه العسكري لمكافحة الارهاب محاولة اغتيال لاردوغان في مدينة نسيبين عشية الانتخابات في 12 تموز 2011. قام اوزل على اثرها بتنحية اثنين من قادة الدرك، العقيد محمد ناصيف والنقيب حاليت جالموك، لاحجامهما عن التدخل لايقاف المظاهرات المناوئة لاردوغان.
وعليه باستطاعتنا القول انه من غير المرجح تدخل القوات العسكرية التركية لدعم الاحتجاجات في اي وقت منظور؛ بل لا يستبعد استخدامها لقمع التحركات. الامر ليس بهذه السطحية ولا ينبغي الذهاب نحو الوثوق من فرضية عدم تدخل الجيش في السياسة. فالدور الذي قام به الجيش المصري، الذي كان يكن ولاء مطلقا للرئيس مبارك لحين بدء المظاهرات المطالبة برحيله، ما لبث وان انتقل الى صف المتظاهرين بغية ضمان سلامة مصالح قياداته العليا الاقتصادية الواسعة في الاقتصاد المصري.
بالاستناد الى فرضية ان القوات العسكرية لن تلجأ لممارسة دورها التقليدي لحماية نموذج تركيا العلمانية، يبقى الامر متروك بيد اردوغان لاخماد حراك المحتجين واستعادة اواصر ثقة الناخب التركي. في هذا الصدد، ينبغي عليه استخلاص الدروس من مظاهرات المصريين الذين طالبوا منذ اللحظات الاولى لتجمهرهم في ميدان التحرير على اقالة وزير الداخلية، حبيب العادلي، وليس باقالة حسني مبارك. الغطرسة المبكرة التي ابداها مبارك وتجاهله مطالب المحتجين ادت الى تنامي رقعة الاحتجاجات بسرعة قياسية. مستقبل اردوغان السياسي معطوف على عدم براعته في الرد على المطالب، اذ مهد لقرب نهايته السياسية باحتقار وازدراء المحتجين، تماما كما فعل الرئيس مبارك.
مع كتابة هذه السطور يسعى اردوغان للالتفاف على مطالب المتظاهرين باظهار تنازلات شكلية تقتصر على تغيير طبيعة المنشآت التي يرغب في تشييدها في ساحة الاحتجاجات، ولا يبدو انها ستكون كافية لحمل المحتجين العودة عن اعتصامهم.
د. منذر سليمان
مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي