أربعون سنة تبعية ـ الاستعباد الاقتصادي
محمد سيف الدولة محمد سيف الدولة

أربعون سنة تبعية ـ الاستعباد الاقتصادي

بدأت الهيمنة الأمريكية على مصر ـ التي تحل الذكرى الأربعون لها ـ باتفاقية فض الاشتباك الأول في 18 يناير 1974 وما تلاها من تفكيك مصر التي انتصرت في 1973، وإعادة تأسيس مصر أخرى لا ترغب فى قتال إسرائيل، ولا تقدر ان هي رغبت. وهو ما تم بموجب كتالوج أمريكي محدد يتكون من عدة أبواب، كان الباب الأول فيه، هو تجريد ثلثي سيناء من القوات والسلاح لإبقائها رهينة تحت التهديد الدائم من اجل الضغط المستمر على الإدارة المصرية لترويضها وكسر وإخضاع وتطويع إرادتها .

لقد كان هدف الأمريكان هو تجريد مصر من القدرة على دعم أى مجهود حربى على الوجه الذى حدث قبل وأثناء حرب 1973، من خلال تفكيك اقتصادها الوطني.

وأدركوا أن وراء نصر أكتوبر قوة اقتصادية صلبة هي القطاع العام المصري الذى استطاع أن يمول المعركة، فقرروا تصفيته.

فبيع القطاع العام أو الخصخصة، والذى يمارسه النظام المصري بنشاط وحيوية منذ 1974 وحتى الآن لم يكن مجرد انحياز الى القطاع الخاص والطبقة البرجوازية المصرية أو الى النموذج الرأسمالي . ولم يكن كذلك قرارا سياديا صادرا من وزارة الاقتصاد المصرية، وإنما كان قرار حرب صادر من وزارة الدفاع الأمريكية، ألزمت به الإدارة المصرية، فالتزمته .

كما أنه لم يكن صدفة أن يصدر قانون الانفتاح الاقتصادي في يونيو 1974 بعد خمسة شهور فقط من اتفاقية فض الاشتباك الأول، وقبل انسحاب القوات الصهيونية من سيناء.

وكانت البداية هي ضرب دور الدولة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتجريدها تدريجيا من أملاكها العامة، وغل يدها عن التدخل في إدارة وتخطيط العملية الإنتاجية، وفى تلبية احتياجات المواطنين، وضرب الصناعة الوطنية لصالح المنتجات الأجنبية مع رفع الحماية الجمركية عنها بالتدريج، وفقا لتعليمات منظمة التجارة العالمية.

واستبدالها بما يسمونه، الاقتصاد الحر الخاضع “لقوى السوق”، التي تتمثل فى الشركات ورؤوس الأموال الأمريكية والأوروبية، والتي استطاعت بالتحالف مع وكلاءها من رجال الأعمال المصريين، من إحكام السيطرة تدريجيا على الاقتصاد المصري، واستنزاف ثرواته، وتحويلها أو تهريبها الى الخارج.

وقد أشرف على إدارة كل ذلك، المؤسسات الشهيرة سيئة السمعة: البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، بالإضافة إلى هيئة المعونة الأمريكية، وكلهم أبناء وأحفاد صناديق الدين العام الذين افقدوا مصر والأقطار العربية استقلالها فى القرن التاسع عشر.

عادوا إلينا مرة أخرى بعد حرب 1973 . وباسم القروض والمساعدات والمعونات والمنح، وضمانات السداد ، والإصلاح المالي والتكيف الهيكلي والتثبيت الاقتصادي، وضعوا لنا أجندات وتعليمات اقتصادية محددة، التزمنا بها ولا نزال .

وبموجبها أُغرقت مصر في الديون، وسقطت في عبودية نادى باريس، وسُلمت إدارة اقتصادها إلى مؤسسات الأعداء النقدية بحجة ضمان السداد، ليفعلوا به ما يشاؤون . وبعض الأرقام قد تكون مفيدة:

• فبعد أن فرضوا علينا تعويم الجنيه وربطه بالدولار، تضاءلت قيمته وقوته الشرائية (18) مرة منذ عام 1973 حيث كان الجنيه يساوى 2.55 دولار، الى ان أصبح الدولار يساوى الآن 7 جنيه

• وتضاعفت ديوننا الخارجية(25) مرة من 1.7 مليار دولار عام 1970 الى 43.2 مليار دولار عام 2013

• هذا بالإضافة الى الديون الداخلية التي بلغت 1444 مليار جنيه حتى عام 2013

• ليقترب مجمل الدين العام من 1.8 تريليون جنيه، وليتساوى بذلك مع الناتج المحلى الإجمالي البالغ 1753 مليار جنيه

• أما عن النهب والتجريف الأجنبي للثروة المصرية فيكفى للتدليل عليه، مثال بسيط؛ فوفقا لما ورد في دراسة هامة لأحمد النجار، فإن إجمالي النزح الأجنبي للموارد من مصر للخارج قد بلغ نحو 86 مليار دولار في الأعوام 2008 ، 2009 ، 2010، بينما بلغت تدفقات الاستثمارات الأجنبية لمصر في ذات السنوات نحو مجموعه 22.6 مليار دولار. أي أنهم في النهاية ينهبون ما يقرب من أربعة أضعاف كل ما يقدمونه لنا من استثمارات وقروض ومعونات.

• وهذا بخلاف الأموال السرية المهربة التي يصعب تقدير قيمتها الحقيقية، وان كانت بعض التقارير قد ذهبت الى انها تتراوح من 140 الى 500 مليار دولار.

• أضف على كل ذلك النتائج المأساوية على العدالة الاجتماعية في مصر، حيث استأثر 150 الف رجل اعمال بما يقرب من 40 % من ثروة مصر، بينما يعيش أكثر من 30 مليون مصري تحت خط الفقر الذى يبلغ 2 دولا في اليوم ، وفقا لتقرير التنمية العربية البشرية الصادر من الامم المتحدة عام 2007 .

• والقائمة تطول

 

***

ثورة يناير وصندوق النقد والاقتصاد الحر:

وبعد قيام ثورة يناير، ورغم أن العدالة الاجتماعية كانت من أبرز غاياتها، والتي يستحيل تحقيقها في ظل مثل هذا النظام الرأسمالي التابع، حيث أن الشرط الاول “لعدالة توزيع الثروة” هو تحريرها أولا من الهيمنة الاجنبية ومن الاستغلال الطبقي.

رغم ذلك الا ان غالبية القوى السياسية، لم تقترب من هذا الملف، بل أكدت جميعها في مناسبات متعددة، التزامها بذات النظام الاقتصادي مع الاكتفاء فقط بإعلان اعتزامها محاربة الفساد، رغم انه يمثل العرض وليس المرض.

وأما بالنسبة لصندوق النقد الدولي وقروضه وأجنداته وشروطه، التي تمثل العدو الأول للعدالة الاجتماعية، فلقد أعلن الجميع التزامهم بها هي الأخرى، ولم يرفض هذا القرض أي من حكومات ما بعد الثورة سواء عصام شرف أو كمال الجنزوري او هشام قنديل او حازم الببلاوي.

ورغم ذلك استمر الصندوق في إرهاقنا بقوائم لا تنتهى من الشروط، على طريقة الكعب الداير، وأخذ يتملص مرة بعد أخرى من الموافقة على القرض، الذى لم “يتفضل” به علينا حتى تاريخه، فلقد وجدها فرصة سانحة، لانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات من الإدارات المصرية المتعاقبة؛ فلقد تم توظيف قرض الصندوق، كالمعتاد، كأحد أدوات الضغط الرئيسية على الثورة المصرية، لمحاولة إجهاضها أو احتواءها وإعادة إنتاج ذات التوجهات الاقتصادية لنظام مبارك:

• وما زلت أتذكر الشروط الأربعة التي طرحتها آن باترسون أمام مجموعة من رجال الأعمال المصريين، لكى تحصل مصر على هذا القرض وهى: تنفيذ تعليمات الصندوق كاملة، ورفع الدعم، والتصالح مع رجال أعمال مبارك، وإصدار قانون للجمعيات الأهلية يسمح بالتمويل الأجنبي.

• كما هدد ويليم تايلور المنسق الأمريكي لدول الربيع العربي، بأن استيراد مصر للقمح الأوكراني قد يتسبب في رفض الصندوق للقرض

• ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل استخدم كأداة للضغط السياسي المباشر، فعلقت الأنظمة العربية المعادية للثورة، مثل السعودية والإمارات دعمها لمصر يناير، على موافقة الصندوق على القرض وإصداره شهادة صلاحية للاقتصاد المصري. فيما عدا قطر التي كُلفت، على الأغلب، بان تبقى على “سرسوب مالي” لمصر تجنبا لأي انفجارات شعبية .

• كما شارك الصندوق في الضغوط الامريكية على مصر في أزمة المتهمين الأمريكيين في قضية المعهد الجمهوري. وبعد أن تم تهريبهم، صرحت فيكتوريا نولاند المتحدثة باسم الخارجية الامريكية تعبيرا عن شكرها للإدارة المصرية، بأنهم سيصدرون توصياتهم لصندوق النقد فورا لكى ينتهى من اجراء القرض، وأن على المصريين أن يطمئنوا الى أن الولايات المتحدة ستظل هي الضامن الرئيسي لاستقرار مصر المالي .

• والقائمة أيضا تطول…

 

***

والخلاصة ان التوجهات و السياسات و القرارات الاقتصادية والمالية والاستثمارية في مصر لا تزال، حتى بعد ثورة يناير، تحت إدارة وقيادة وسيطرة وتحكم واختصاص صندوق النقد الدولي ومن يمثلهم في الخارج، ووكلائهم في الداخل.

لقد كان الصندوق ولا يزال احد الأدوات الرئيسية للثورة المضادة فى مصر .

ورغم كل ذلك، لم تشهد ميادين مصر وشوارعها على كثرة مليونياتها، ولو مليونية واحدة يتيمة في مواجهة هؤلاء وسياساتهم القديمة ـ الجديدة، وهو ما كان أحد أخطائنا الكبرى.