بين استراتيجيتين... التفاوض والمقاومة
جولات كيري في المنطقة لم تسفر سوى عن حل أمريكي مسخ: هو وجهة نظر اسرائيلية أولا وأخيراً, مضمونها: اتفاق اطار على دويلة مؤقتة منقوصة السيادة والقدس وعودة اللا جئين!
دويلة هي ليست غير الحكم الذاتي القائم حاليا , دويلة كانتونات مقطّعة الأوصال , دون أية روابط جغرافية مع غزة وقطاعها .اضافة الى تواجد عسكري اسرائيلي في منطقة غور الأردن, سيتحول مستقبلا الى وجود دائم . حلّ يجري تطبيقه على الضفة الغربية أولا مع احتمال بعيد بأن يجري تطبيقه في القطاع ! هذا هو جوهر الحل "الإسرائيلي" ولكن بلسان أمريكي هذه المرّة . هذه هي الحقيقة الأولى التي استندت الى استراتيجية المفاوضات . باعتبارها الخيار الوحيد والدائم للسلطة الفلسطينية . المفاوضات لم تنتج سوى اتفاقيات أوسلو المشؤومة التي قزّمت الحقوق الفلسطينية , وأدّت الى لا تراجع المشروع الوطني عقودا الى الوراء. المفاوضات استمرت ما ينوف عن العقدين, ولم تكن قادرة على انتاج شيء سوى الحل الأخير.
من زاوية ثانية , فان حقيقة أخرى يتوجب ادراكها: لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون وسيطا نزيها في الصراع بين الفلسطينيين والعرب من جهة وبين اسرائيل من جهة أخرى . لا نقول هذا الكلام جزافا , وانما اعتمادا علر نصوص رسالة الضمانات الاستراتيجية الأمريكية التي جرى ارسالها الى اسرائيل في عام 2004, وتنص على مبادئ كثيرة , أبرزها : التزام الولايات المتحدة بأمن اسرائيل , وتعهدها بعدم ممارسة الضغط عليها لقبول ما لا تريده من حلول أو تسويات . الحقيقة الثالثة ,التي يتوجب على السلطة الفلسطينية ادراكها :أن الولايات المتحدة ملتزمة التزاما تاما بالحل "الإسرائيلي" دون زيادة أو نقصان , فالموقف بين الحليفين الأمريكي و"الإسرائيلي" حول عناصر التسوية متماهي الى حد كبير، واشنطن ترفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين , وهي متفهمة للموقف "الإسرائيلي" بإبقاء القدس موحدّة وعاصمة أبدية "لإسرائيل" . على هذا الأساس , فان كل مرشح أمريكي للرئاسة وابّان فترة ترشيحه يعد بنقل السفارة الأمريكية الى القدس, وهذه دلالة كبيرة. التعارض بين الموقفين "الإسرائيلي" والأمريكي , يتمثل في الاستيطان . واشنطن فعلياً ليست ضد الاستيطان , لكنها مع تجميده مؤقتا بهدف تسليك المفاوضات "الإسرائيلية" – الفلسطينية والوصول الى حل.
الحقيقة الرابعة وهي أبرز من كل الحقائق : أن استراتيجية المفاوضات لم تؤد الا الى التنازلات الفلسطينية وهي مستقبلاً لن تؤدي إلا الى المزيد من هذه التنازلات . الحركات الثورية للشعوب المحتلة أراضيها والمغتصبة ارادتها تخوض المفاوضات مع أعدائها ولكن بشروط : أولها : خوض المفاوضات مع العدو ولكن في مرحلة متقدمة من النضال , تكون فيه الحركة الثورية على أعتاب الانتصار . ثاني هذه الشروط: استناد المفاوضات الى انجازات حقيقية على الأرض ,وهذه لن يتم انجازها الا بفضل المقاومة وعلى رأسها الكفاح المسلح . ثالث هذه الشروط : عدم المساومة والتفريط على وفي حقوق الشعب الوطنية , فالعدو وجرّاء تضرره الكبير من مشروع احتلاله بالمعنيين : الاقتصادي والبشري الديموغرافي هو بحاجة للوصول الى تسوية, لأن ليس لديه الاستعداد لدوام تلقي الخسائر البشرية والاقتصادية. رابع هذه الشروط : الاستناد الى حركة جماهيرية شعبية يجري تأييدها سياسيا من شعوب ودول كثيرة. القضية الفلسطينية ( لو كان القائمون عليها يستندون الى الكفاح الثوري والاستراتيجية غير التفريطية بالحقوق ) لزاد تأييدها من قبل الجماهير الشعبية العربية من المحيط الى الخليج أضعافا مضاعفة , أيضا هي تستند الى قاعدة شعبية دولية عريضة . بالتالي : فليس أمام الحركة الثورية سوى الانتصار أو الانتصار. طريقان لا ثالث لهما . خامس هذه الشروط: دوام الاستناد الى ما يجري على الأرض من انجازات, فالمفاوضات ليست مطلبا للحركة الثورية فحسب , وانما للعدو أيضا .
لقد خاضت حركة التحرر الوطني الفيتنامية والتي كانت تسمى "جبهة التحرير الفيتنامية" مفاوضات مع المحتل الأمريكي في مفاوضات باريس , بعض تلك الجولات التفاوضية لم تكن تستمر سوى دقائق قليلة فقط, يضع الفيتناميون مطالبهم على طاولة التفاوض , فاذا كان هناك تجاوب أمريكي معها , يجري الاستمرار في المفاوضات, والا فلا , وينسحب الفيتناميون . بالطبع هناك فارق كبير بين طبيعة النضال الفلسطيني والنضال الفيتنامي , وهناك فوارق في الظروف المحيطة سواء بالمعنى الذاتي أو الآخر الموضوعي , لكن هذه التجربة التفاوضية خاضتها الكثير من حركات التحرر الوطني للشعوب في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. كمثال على صحة ما نقول: تجربة حزب " المؤتمر الوطني الأفريقي " وحلفاؤه في جنوب أفريقيا, والمفاوضات التي جرت مع النظام العنصري فيها ( الحليف العضوي للكيان الصهيوني ) . تجربة روديسيا . التجربة الفلسطينية ذاتها, ابّان المرحلة الأولى من الثورة ( قبل اتفاقيات أوسلو) مرحلة الكفاح المسلح . من قبل لم تعترف "اسرائيل" بوجود شعب فلسطيني من الأساس. العالم تعامل من قبل مع الفلسطينيين كلاجئين يستحقون الشفقة والعطف ليس الا . الثورة الفلسطينية المسلحة هي التي أجبرت العالم على التعامل مع الفلسطينيين كشعب مغتصبة أراضيه وحقوقه . وهي التي أجبرت "اسرائيل" على الاعتراف بالشعب الفلسطيني والتعامل معه . منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وبخاصة بعد وفاة الرئيس الراحل عرفات, اعتبر أبو مازن الكفاح المسلح (ارهاباً) , حتى أنه ضد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية المسلحة. لقد أصدر الفرمانات (القرارات) بجمع الأسلحة الفلسطينية من المقاومين , واعتبر الأجهزة العسكرية للفصائل ,, منظمات غير مشروعة. كل من لم يسلّم سلاحه للسلطة الفلسطينية, قامت أجهزة السلطة باعتقاله, والزج به في السجن. أو قامت "اسرائيل" باغتياله أو اعتقاله .
بعد الانقسام الذي أثّر سلباً على مجمل القضية الفلسطينية, فانه أيضا أعاد المشروع الوطني الفلسطيني عشرات السنين الى الوراء . حماس في غزة وصلت الى اتفاقيات غير مباشرة مع اسرائيل بعقد هدنة طويلة الأمد , وأصبحت أيضا تلاحق المقاومين , الذين ازدادت مهماتهم المقاومة تعقيدا , فهم يجابهون السلطة الفلسطينية في رام الله (أو حماس في القطاع) أولا , ومن ثم العدو الصهيوني ثانيا !. من هنا رأينا خفوتا كبيرا في صوت المقاومة العسكرية الفلسطينية. خفوت أثّر على المفاوضات الجارية سلبا. مفاوضات يبتز فيها المفاوض الصهيوني , المفاوض الفلسطيني ابتزاز كبيرا من جانب , ومن جانب آخر يمارس الوسيط الأمريكي (غير النزيه والمنحاز دوما الى حليفه "الإسرائيلي") ضغوطا كبيرة على الجانب الفلسطيني.
على صعيد آخر , فان المقاومة والمسلحة منها تحديدا هي الاستراتيجية المركزية التي تتبناها مطلق حركة تحرر وطني لمطلق شعب محتلة أرضه ومغتصبة ارادته, ونتحدّى بأن يقوم أحد بتسمية حركة تحرر واحدة لم تعتمد الكفاح المسلح في نضالها ( تجربة غاندي مختلفة تماما عن تجارب حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. هي حركة عصيان مدني شعبي عام ضد الاحتلال البريطاني ). لذلك, فان القاعدة العامة هي المقاومة المسلحة. هذه التي توحّد الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده: في الوطن وفي الشتات. استراتيجية المفاوضات تفرّق شعبنا. هذا ليس صعبا على مطلق مراقب فلسطيني أو عربي أو دولي, لمسه. نعم , الفلسطينيون متفقون على استراتيجية الكفاح المسلح ,لكنهم مختلفون على استراتيجية المفاوضات. المقاومة والمسلحة منها تحديدا هي التي كانت وراء نيل حرية الشعوب, واستقلالها. هي التي أجبرت المغتصبين لإرادة الشعوب عل الاعتراف بحقوق هذه الشعوب. الساحة الفلسطينية ليست استثناءً من هذه القاعدة العامة التي أثبتت صحتها وصدقها وفعاليتها. على ضوء خصوصية العدو الصهيوني في استيلائه على الأرض الفلسطيني عنوة, وطرد أهلها واحلال المهاجرين الغرباء محلهم, لذا فهو عدو استثنائي, اقتلاعي, احلالي, وعلى ضوء خطره على الأرض العربية عموما فهو عدو وطني وقومي, فاذا كان نهج الكفاح المسلح مشروعا لكل حركات التحرر الوطني الأخرى ,فانه مشروع (مرات عديدة) للحركة الثورية الفلسطينية.
يبقى القول: كفى تفاوضاً مع العدو الصهيوني, وكفى استجابة للضغوطات الأمريكية. آن الأوان لإنهاء الانقسام ومراجعة المرحلة الماضية, والتمسك باستراتيجية المقاومة واحيائها من جديد .