«أمريكا – الصين» الجغرافيا السياسية لاتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»
جين كيلسي جين كيلسي

«أمريكا – الصين» الجغرافيا السياسية لاتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»

ينطبق مصطلح «الإمبريالية التنافسية» على الحالة التي تُستخدم فيها التجارة الحرة لممارسة تأثير، أو نفوذ ما، على أحد البلدان، أو عبر إحدى المناطق. وجرى استخدام هذا المصطلح خلال العقد الماضي لوصف التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، عندما كانا يتباريان على تأمين الجيل الجديد من اتفاقيات التجارة الحرة لأسباب استراتيجية.

ترجمة: نور طه

 

أما اليوم، فقد بات المصطلح ذاته يُستخدم، بشكل ملائم أكثر، لتوصيف يأس أمريكا المتزايد من محاولاتها لتحييد وإضعاف الصعود الذي تشهده دول البريكس (البرازيل - الصين - الهند - روسيا - جنوب إفريقيا) عموماً، والصين خصوصاً، كونها أبرز هذه الدول، ووصل الأمر بالأمريكيين إلى اعتبار الصين هدفاً رئيسياً ونهائياً لأكثر مقترحاتهم عدوانيةً، بالرغم من عدم كونها طرفاً في «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ».

يحمل البعد الاستراتيجي والسياسة الخارجية لاتفاقية الشراكة هذه آثاراً خطيرة، وخاصة على بلد يطمح للحفاظ على أفضل العلاقات مع كلا الطرفين، الصيني والأمريكي، كنيوزيلندا التي تنظر لهذه الاتفاقية بوصفها ترتيباً اقتصادياً عالمياً، لا سياسياً، يعومُ فوق الجغرافيا السياسية، وقد يكون تحقيق هذا الأمر ممكناً في المراحل الأولى من الاتفاقية، لكن في حال تحولت الاتفاقية إلى حربٍ باردة بالوكالة، فإن كل جانبٍ سيتوقع من أصدقائه أن يصبحوا حلفاءه.

صحيح أن لجميع الدول المشاركة في الاتفاقية أسبابها الخاصة للتواجد فيها، وقد تنظر بعض هذه الدول إليها على أنها تُفيد في بناء حصونها الخاصة في وجه الصين، لكن ليس هناك دليلٌ واحدٌ على أن تلك العقود الطويلة من مقاومة النموذج الأمريكي المُلزم والإجباري، الذي فُرض على منطقة آسيا والمحيط الهادئ بأكملهما ستتلاشى ببساطة.

 

قرن الباسيفيك الأمريكي*

لم يترك الرئيس الأمريكي، «باراك أوباما»، ووزيرة الخارجية، «هيلاري كلينتون»، خلال اجتماع «أبيك APEC»*، الذي عُقد في هونولولو في نوفمبر تشرين الثاني عام 2011، أي شكوك حول الدوافع وراء اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، حيث تهدف الولايات المتحدة من خلالها إلى إحياء نفوذها الجيوسياسي والاستراتيجي والاقتصادي في منطقة آسيا، لمواجهة صعود الصين عبر بناء نظام قانوني على مستوى المنطقة يخدم مصالح الولايات المتحدة وشركاتها، ويُفرض من قبلهم. وفي نهاية المطاف، فإن ما تريده الولايات المتحدة في سياق هذه الاتفاقية هو ما يهم.

في الإطار ذاته، قال مستشارو «أوباما»: «لقد بيّن أوباما خلال محادثاته الثنائية مع الرئيس الصيني، هو جينتاو، وبشكلٍ واضحٍ جداً، بأن كلاً من الشعب ومجتمع الأعمال الأمريكيين يشعران بإحباط ونفاد صبر متزايدين، بسبب التغيّر الذي تشهده السياسة الاقتصادية الصينية، وتطور العلاقة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، ففي الوقت الذي كانت تحاول الولايات المتحدة فيه أن تُظهر شعوراً من «القيادة المسؤولة»، فشلت الصين في إظهار القدر نفسه من المسؤولية».

وكان أوباما قد تحدث، في لقاء قادة الدول الأعضاء في الاتفاقية، عن وضع «معايير دولية مناسبة» لكل من أمريكا وآسيا ونظام التجارة الدولي، ولأي بلد يهتم بتطوير وتنظيم «الشركات المملوكة من الدولة» وخلق ميادين ومستويات للمنافسة. لكن الحقيقة أن المعايير الدولية، التي ستضعها هذه الاتفاقية، ستكون ملائمة لإحياء الهيمنة الاستراتيجية والاقتصادية الأمريكية، قبل كل شيء.

هذا وقد تصاعدت اللهجة العدوانية الأمريكية تجاه الصين، خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية في عام 2012، حيث اشتكى المرشح الجمهوري، «ميت رومني»، من أن «أوباما» لم يكن «صارماً بما يكفي» مع الصين، ومن ثم سارع «رومني» لتأييد «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ»، بوصفها «حصناً جيوسياسياً واقتصادياً في وجه الصين»، على حد تعبيره.

في السياق ذاته، لم تكن «الروح القتالية» لأوباما بأقل من تلك التي يمتلكها منافسه السابق، ففي الوقت الذي كان من الممكن أن تكون الصين شريكةً لأمريكا،كانت الأخيرة ترسل إشارات واضحة للغاية بأنها «قوة باسيفيكية» وبأنها تطمح لأن يكون لها تواجد هناك، في رسالة مشفّرة لأعضاء اتفاقية الشراكة مفادها: «سننظم العلاقات التجارية مع دول أخرى دون الصين، كي تشعر بمزيد من الضغوط عليها، لتفي بالمعايير الدولية الأساسية»، وبأن: «هذا هو نوع القيادة الذي أظهرناه في المنطقة، والذي سوف نستمر بإظهاره».

فيما لا تزال الطريقة التي ستتمكن عبرها الولايات المتحدة من دفع الصين لاعتماد قواعدها غير واضحة، ففي بعض الأحيان تبدو «استراتيجية الحصار» طريقة مناسبة، وذلك عبر خلق نموذج يهيمن على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، الأمر الذي سيدفع الصين لتعديل موقفها بدايةً، ومن ثم الانضمام إلى الاتفاقية. وفي أحيان أخرى، يتحول الاستهداف من الصين إلى حلفائها، وعمليات في بلدان أخرى لتقويض نفوذها الاستراتيجي وموطئ قدمها الاقتصادي.

 

الدبلوماسية الصينية المضادة

تمتلك الصين عدة خيارات،كتجاهل الاتفاقية على أمل تعثرها، ومن ثم المضي في طريق مماثل لجولة مفاوضات منظمة التجارة العالمية في الدوحة، ومنطقة التجارة الحرة «المحتضرة» في الأمريكيتين، بما يحمله هذا الخيار من مخاطر كبيرة. أو قد تسعى الصين للانضمام إلى محادثات غير مباشرة، عبر وكيلتها «هونغ كونغ»، ولكن هذا الخيار قد يضع الحصص الواسعة لـ «الشركات المملوكة من الدولة الصينية» في هونغ كونغ تحت ضوابط الاتفاقية. ويمكن أيضاً أن تقوم الصين بتقديم طلب مباشر للانضمام إلى الاتفاقية، الأمر الذي سيفجر «صراع بقاء» بين أعضاء الاتفاقية المتفاوضين، الذين لا تربطهم مع الصين اتفاقية حرة للتجارة، كالولايات المتحدة وكندا واليابان والمكسيك واستراليا. إلا أن هذا الانضمام سينطوي على عملية طويلة من المناقشات الثنائية، وسيتطلب تأييداً من كل أطراف الاتفاقية، ومن ثم قراراً جماعياً للموافقة عليه، يليه إخطارٌ إلى الكونجرس الأمريكي لمدة تسعين يوماً. 

في المحصلة، يبدو من غير المعقول أن توافق الصين على الشروط المسبقة والمناقشات الثنائية الشاقة، فقط لكي تصل إلى طاولة مفاوضات تجد عليها مجموعة من القواعد التي صاغتها الولايات المتحدة، لشلِّ المصادر الرئيسية لتميزها التجاري. وبالتالي، فإن الخيار الأكثر واقعيةً أمام الصين الآن هو تنمية مجموعتها الضخمة، وهو ما يتم الآن عملياً، حيث ترتبط الصين باتفاقية تجارة حرة مع مجموعة «آسيان»*، التي تَوسّع مجالها تدريجياً من السلع إلى الخدمات وصولاً للاستثمار. كما أن الصين تُجري حالياً مفاوضات ثنائية مع كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى أن أولى جلسات المحادثات المتعلقة باتفاقية للتجارة الحرة تضم الصين واليابان وكوريا الجنوبية قد عُقدت في آذار من هذا العام، وبالنسبة للصين فإن هذه العلاقات حاسمة.

*عن موقع «غلوبال ريسيرتش» بتصرف 

آخر تعديل على الأربعاء, 18 كانون1/ديسمبر 2013 13:08