حرب الداخل الأميركي على أجندة اوباما السياسية

حرب الداخل الأميركي على أجندة اوباما السياسية

اعتلاء الرئيس اوباما منصة هيئة الامم الدولية لم يسعفه من ملاحقة الملفات الداخلية الضاغطة بانتظار اجتراح حلول لها، سيما وهو مدرك لما قد يترتب عليها من انعكاسات على ارثه ورصيده الرئاسي. الخلاف المتصاعد راهنا بينه وبين السلطة التشريعية يتمحور حول مصادقة الكونغرس على مشروع الميزانية السنوية للدولة، قبل نهاية السنة المالية يوم 30 أيلول الجاري، اذ ان اخفاقه في المصادقة على مشروع قرار مؤقت لتمويل الدولة او بالمصادقة على الميزانية المقترحة المقدمة من قبل السلطة التنفيذية سيؤدي الى تعطيل عمل مؤسسات الدولة، وتسريح موظفيها والمتعاقدين.

اللوحة السياسية لآلية استصدار القرارات بالغة التعقيد، لما يتخللها من عوامل ضغط ورعاية مصالح الشرائح الاجتماعية الاوفر ثراء وللشركات الكبرى ايضا. بيد ان سبر اغوارها يوفر قراءة دقيقة للمشهد السياسي الاميركي بكل تعقيداته ومكوناته.

تلجأ المؤسسات الاعلامية عادة الى تبسيط شديد للمشهد المعقد وتصويره بأنه صراع بين الحزبين السياسيين وممثليهم في السلطات التنفيذية والتشريعية. من ناحية، لا يخفي الرئيس اوباما، وهو على قمة المؤسسة التنفيذية، اهدافه وبرامجه واصلاحاته المقترحة وتحقيقها دون السماح للطرف الآخر المس بها، خدمة للارث السياسي الذي يعمل على تحديد معالمه قبل نهاية ولايته الحالية، تدعمه اغلبية ديموقراطية في مجلس الشيوخ. كما ان المرشحة المرتقبة عن الحزب الديموقراطي للانتخابات الرئاسية، هيلاري كلينتون، برفقة فريقها ومؤيديها، لها مصلحة كبرى في تحقيق سياسات الرئيس اوباما خلال ما تبقى من ولايته كي لا تنغص عليها حملتها الانتخابية. كما يأخذ في الحسبان الممثلين والساسة عن الحزب الديموقراطي والذين يمثلون قاعدة انتخابية غير راضية عن سياسات الرئيس اوباما والحزب الديموقراطي، بشكل عام، يعتريهم القلق من احتمال عدم فوزهم في جولة الانتخابات المقبلة، 2014، المكنّاة بالانتخابات النصفية وعادة ما تنذر بسوء الطالع للحزب الذي يقبع رئيسه في البيت الابيض، كما دلت المؤشرات التاريخية.

الحزب الجمهوري، بالمقابل، رفع صوته عاليا لتسويق اجندته السياسية في الاصطفاف الى جانب القوى والشرائح الاوفر ثراء وغنى، واستطاعت رموزه تبوأ مناصب "قيادية" في السلطة التشريعية وراكمت فوزها بكسب معارك سياسية والانكفاء عن خوض معارك عقائدية. صعود القوى الاشد محافظة في الحزب الجمهوري شدد من عزلته الشعبية، والتي تتشكل من عناصر فتية ومحافظة تقارب العنصرية ضد كل ما عداها. سعت تلك العناصر الى تحميل مشروع الميزانية المقدم من السلطة التنفيذية قضايا ومهام لا تبت للموضوع بصلة، وحشدت قواها وخطابها السياسي لرهن موافقتها على الميزانية بقبول الطرف الآخر وقف التمويل الحكومي عن برنامج الرعاية الصحية الشاملة – اوباما كير، رغم ادراكها بمجموعها ان جهودها ستبوء بالفشل. التيار المحافظ ايضا يستند الى قاعدة انتخابية متينة في دعمها للحزب الجهوري وضاقت ذرعا بالتجاذبات السياسية بين ممثليها الجمهوريين سيما وان عددا منهم يرواده حلم دخول الانتخابات الرئاسية المقبلة.

بعض القضايا الخلافية، داخل صفوف كل من الحزبين وبينهما ايضا، فقدت اولويتها وبريقها، خاصة المطالبة بادخال اصلاحات على قوانين الهجرة، والتي طالب بها الجمهوريون بقوة في السابق على الرغم من عدم توفر دعم قوي للمسألة بين صفوف القاعدة الانتخابية. وعلى سبيل المثال، النجم الجمهوري الصاعد عن ولاية فلوريدا، ماركو روبيو، الذي جرى تسويقه كاحد المرشحين لمنصب الرئاسة في الجولة المقبلة، قلما ما عاد احد يتذكره.

ابجديات دخول حلبة الانتخابات الرئاسية تستدعي انتقاء دقيق من المرشح (الجمهوري) للمعارك التي ينوي الدخول فيها.

عنوان الصراع السياسي في واشنطن هو جنح الحزب الجمهوري لتنفيذ تهديده بتعطيل عمل الاجهزة والدوائر الحكومية، كوسيلة ابتزاز السلطة التنفيذية لحملها على التنازل عن بعض برامج الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية. سبق وان نفذ الحزب تهديده مرتين سابقا، احداهما في ولاية الرئيس بيل كلينتون عام 1995، ولم تتعظ قياداته من الغليان والغضب الشعبي الذي نمى في صفوف الشعب الاميركي بأكمله، خاصة في ظل شح توفر فرص العمل. كل من الطرفين يلقي باللائمة على الآخر، بيد ان الطرف الاقوى في معادلة تعطيل عمل الحكومة هو الحزب الجمهوري المسيطر على مجلس النواب، وبيده قرار المصادقة على الميزانية.

نجم الابتزاز السياسي كان السناتور المتشدد عن ولاية تكساس، تيد كروز، الذي اصر على استخدام حقه الدستوري بمخاطبة مجلس الشيوخ لنحو 21 ساعة متواصلة دون انقطاع، حسبما تنص عليه اللائحة الداخلية لآلية التصويت في المجلس، دون ان يحقق مراده في نهاية المطاف.

تجدر الاشارة الى حملات الضغط الشعبي على المندوبين الذين اغرقت صناديق مراسلاتهم بعرائض وتوسلات واجهزة هواتفهم ايضا بعدة آلاف من المكالمات احتجاجا على اصرار كروز المضي في سعيه لتعطيل عمل الحكومة. اما كروز فقد نذر نفسه لحفز القاعدة الانتخابية على تجديد نشاطاتها وتعبئتها ضد السلطة التنفيذية والحزب الديموقراطي طمعا في اعلاء نجمه بين الشعب الاميركي.

في احدث تطورات الصراع، وخلال عملية اعداد التقرير، نجح مجلس الشيوخ بالتصويت على قرار ينهي مطالب الساعة الاخيرة لعناصر الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ بغالبية مريحة، الامر الذي يترتب عليه عودة المشروع مجددا الى مجلس النواب مجردا من اعباء وعقبات الحزب الجمهوري، كي يتسنى لاعضائه التصويت على الميزانية كما هي. خلافا لذلك، تبقى الاجهزة الحكومية تحت مطرقة تهديد تعطيل اعمالها ان لم يتم التصويت عليها قبل الاول من شهر تشرين الاول المقبل.

خشية المندوبين من غضب القاعدة الجماهيرية عليهم دفعت بنحو 19 مندوبا عن الحزب الجمهوري التصويت لصالح الاغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، والنأي عن زميلهم كروز الذي سيشكل عبأً كبيرا عليهم في الجولة الانتخابية المقبلة.

بعد ابتزاز الحزب الجمهوري للسلطة التشريعية وتعطيل عمل الدولة مرتين اضحى الشعب الاميركي افضل وعيا لمخاطر الولاء الايديولوجي الاعمى، الامر الذي يؤشر على بعض الانقسامات داخل قاعدة الحزب الجمهوري. وعلى سبيل المثال، يواجه زعيم الاقلية من الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، مرشحا منافسا شرسا من طينته المحافظة في دائرته الانتخابية، والذي يتهم الاول بالاستكانة والتسليم ببرنامج الرعاية الصحية الشامل – اوباما كير، مما يترتب على ماكونيل ادارة معركته الانتخابية بحذر شديد موقنا ان تعطيل عمل الحكومة سيدفع القاعدة الانتخابية الى تحميل حزبه المسؤولية وترحيل جدول اعمال التحديات الداخلية التي يواجهها الرئيس اوباما الى الانتقام من الحزب.

ربما كان اوباما في سره يدفع باتجاه انجاح مسعى الحزب الجمهوري لتعطيل اعمال الحكومة، لما يوفره من مناخ باستطاعته توظيفه لتحميل خصمه المسؤولية وازاحة عدد من القضايا الخلافية من التداول، مما سيعرض الحزب الجمهوري لمواجهة غضب الفئات الاجتماعية المختلفة. على الجانب الآخر، ادرك تيد كروز مبكرا ان خسارته المعركة ضد "اوباما كير" ستمهد له الارضية للنزول بقوة في جولة الانتخابات الرئاسية.

النظرة الفاحصة لارهاصات المعركة السياسية تدفعنا للقول ان جذر الخلاف لا يتعلق ببرنامج اوباما كير او المصادقة على الميزانية السنوية بحد ذاتها، بل لاعتبارات الجولة الانتخابية المقبلة، 2014، تمهيدا للانتخابات الرئاسية التي ستجري عام 2016. وتجسيدا لذلك، ارتفعت اصوات بعض القادة التقليديين عن الحزب الجمهوري مطالبة بحلول تسووية عوضا عن المواجهة الايديولوجية في ما يتعلق ببرنامج الرعاية الصحية الشاملة. اما جناح الحزب الآخر، فقد تعززت لحمته بعد المواجهات الاخيرة يمثلهم تيد كروز برفقة ممثلي حزب الشاي، راند بول وآخرين.

احدث استطلاعات الرأي التي جرت بين القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري في ولاية اريزونا اشارت الى تقدم السيناتور راند بول في المرتبة الاولى، 37%، يليه في المرتبة الثانية تيد كروز، 22%. اما النجم السابق ماركو روبيو فقد حصل على المرتبة الرابعة بنسبة 4%، سبقته المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس ساره بيلين اذ حصلت على نسبة 7%".

كشفت المواجهة الاخيرة عن تباين ملحوظ في مواقف النجوم الصاعدة في الحزب، كروز وبول. اذ بينما مضى الاول في سياسة المواجهة "علي وعلى اعدائي،" جنح بول الى تحقيق تسوية بهذا الشأن. اما الآخرين، بيلين وروبيو، فقد اصطفا لصالح كروز طمعا في استعادة ثقة قيادة الحزب بهما. بول من جانبه صرح لشبكة فوكس للتلفزة "ربما قد نجد مساحة وسطية للتسوية (مع الديموقراطيين) تقضي بتنازلنا عن بعض التخفيضات الضريبية، والتخلص من بعض البنود الضارة في برنامج اوباما كير."

رغم ما تقدم من مؤشرات، فان المواجهة بين الحزبين لم تنته بعد، اذ يتعين على مجلس النواب المصادقة على طلب السلطة التنفيذية رفع سقف الدين العام للدولة لتوفير الموارد اللازمة للانفاق على برامج سياساتها المختلفة، ومنها اوباما كير، واعتماده خلال بضعة اسابيع. الامر الذي يوفر فرصة اخرى للحزب الجمهوري في التصدي وربما افشال سياسات الرئيس اوباما. يذكر ان الرئيس الجمهوري الاسبق، رونالد ريغان، طلب رفع سقف الدين العام 19 مرة خلال ولايته الرئاسيتين سابقا، وفاز بالموافقة عليها جميعا.


المشهد السياسي الراهن: الانتخابات الرئاسية المقبلة في عيون "ثورة ريغان"


ربما سيعيد التاريخ السياسي تكرار نفسه بالنسبة لمستقبل الحزب الجمهوري. في اواخر عقد السبعينيات من القرن الماضي ثارت القاعدة الانتخابية للحزب على قياداتها واوقعتها ارضا، ممهدة المناخ لصعود زعيم متشدد، رونالد ريغان، الذي دشن ولايته في الرئاسة بالاقلاع عن الحلول التسووية مع الحزب الديموقراطي، لصالح اسلوب التصدي والمواجهة وانزال الهزيمة بالخصم.

قادة المؤسسة الحزبية التقليدية في الحزب الجمهوري رسموا التوجهات السياسية آنذاك بمعزل عن اعتبار موقع لرونالد ريغان الذي خرج عن رغبة الحزب ونافس الرئيس الاسبق جيرالد فورد لعام 1976. رئيس اللجنة الحزبية لمجلس الشيوخ، بوب باكوود، شن هجوما آنذاك على ريغان واتهمه بانه "يشكل عقبة امام اعادة اصطفاف الحزب الجمهوري."

حنين القاعدة الانتخابية لرونالد ريغان لم يخفت بصرف النظر عن التقييم التاريخي لحقبته، سيما وان ركائز سياساته الاجتماعية ما لبثت ان انهارت ليس بفعل فشل التجربة فحسب، بل باعتراف احد اهم اعمدتها، المدير المالي للرئاسة آنذاك ديفيد ستوكمان، الذي اقر بعدم واقعيتها وكان محكوم عليها بالفشل منذ اللحظة الاولى.

ركيزة برامج الرئيس ريغان استندت على مبدأ جرى تسويقه  للعامة بانه يقتضي "تخفيض شديد في مستويات الانفاق الحكومي بمواكبة فرض نسبة ضريبية متدنية" على رؤوس الاموال والاستثمارات، قدمها ريغان الى الكونغرس في شهر شباط 1981. تم الترويج للسياسة الاقتصادية الجديدة  استنادا الى مبدأ "تركيز مصادر الثروة بين ايدي بعض الناس سيخدم شريحة الفقراء .. من خلال ايجاد فرص العمل .. والاستثمارات التي يجريها الاثرياء." في وقت لاحق من العام نفسه، اجرت مجلة "اتلانتيك" الاسبوعية مقابلة مفصلة مع ستوكمان، اقر فيه باخفاق السياسة المعلنة سيما وانها "بمجملها تستند على فرضية الايمان والثقة التامة،" وليس على قواعد واسس علمية كما يفترض "وكذلك على معتقد (هلامي) بكيفية سير الامور على المستوى العالمي."

من المفارقات التاريخية ان سياسة ريغان الاقتصادية المثيرة للجدل حتى اليوم وجدت سندا فكريا لها في مقدمة ابن خلدون، ربما مصادفة، التي يذكر فيها المؤرخ الشاب ان الضرائب العالية المفروضة على المجتمع عادة ما تسفر عن انهيار الامبراطوريات. (المقدمة، الفصل السابع والاربعون، "في كيفية طروق الخلل للدولة،" اصدار دار ابن ابي الارقم، بيروت، دون ذكر تاريخ النشر).

لا يختلف اثنان حول تصنيف السيناتور تيد كروز كأحد ركائز الجناح المتشدد في الحزب الجمهوري، لعله قد يصبح الأهم في منظار القاعدة الحزبية لمراهنته تحدي السلطة التنفيذية وحيدا. برنامجه يوازي الى حد كبير برنامج رونالد ريغان، في الدعوة لتخفيض حجم مؤسسات الدولة واطلاق العنان لخصخصة العديد من دوائرها ومهامها. في حالة ريغان، اثنى عليه الناخبون بإعادة انتخابه رئيسا مرتين. العبرة تقتضي الا يقلل من شأن مرشح متشدد بموهبة كروز.

آخر تعديل على الإثنين, 07 تشرين1/أكتوير 2013 23:06