عن دور «اليسار» في الأزمة السورية

عن دور «اليسار» في الأزمة السورية

يمكن، دون صعوبة كبيرة، وعلى أساس المواقف الملموسة، تصنيفُ من يتسمّون باليسار في سورية - بل وفي العالم بأسره - في مواقع تتراوح من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، حتى إنّ كلمة اليسار تكاد تفتقد أي معنى محدد في الوضع السوري. رغم ذلك، سنحاول ضمن هذه المادة أن نضع بعض نقاط العلام في فهم دور «اليسار» في سورية.

وسنركز على دور حزب الإرادة الشعبية الذي يحاول بعض «المثقفين اليساريين» التنكر لا لدوره فحسب، بل ولوجوده من الأساس؛ فتراهم ينبشون في التاريخ السوري بحثاً عن أي أحد وكل أحد تسمّى باليسار، ليسردوا تاريخ اليسار عبر أسماء لا تعدو في معظم الأحيان كونها «شخصيات مثقفة منفردة» لم تعرف يوماً النضال السياسي والتنظيمي المباشر بين الناس!
أسجل بداية ثلاث ملاحظات حول مصطلح اليسار:



أولاً: في تطور المصطلح...

إذا كان ظهور مصطلح «اليسار» قد ترافق مع الثورة الفرنسية، فإنه وطوال القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، لم يكن مصطلحاً سائداً في إطار التوصيف السياسي، وبخاصة ضمن لغة الأحزاب الثورية نفسها؛ يمكننا مراجعة انخفاض اهتمام ماركس وأنجلس ولاحقاً لينين بهذا المصطلح، بمقابل استخدام أشد كثافة وتركيزاً لكلمات «الاشتراكية»، «الشيوعية»، «القوى الجذرية» (وهنا نقطة يمكن الوقوف عندها قليلاً: جذري هي الترجمة الحرفية لـ Radical وأصلها Radix اللاتينية وتعني الجذر، واستخدمها الماركسيون لتوصيف القوى الاجتماعية المعنية بضرب جذر المجتمع الرأسمالي وبالتالي تغييره بشكل شامل، والمقصود الطبقة العاملة بشكل أساسي. الملاحظ أن شحنة كلمة راديكالي اليوم هي شحنة سلبية فقد جرى ربطها –دون أي أساس علمي- بالظواهر المتطرفة والإسلامية منها بشكل خاص، حتى باتت كلمة راديكالي مساوية لكلمة متطرف، بمقابل ذلك فكلمة يسار لا تزال تحمل شحنة إيجابية رغم أنّ بين هذا «اليسار» تيارات بأكملها من طراز برنار ليفي وما شاكله...!).

في المرحلة الثانية، بدأ الانتشار الواسع لتوصيف اليسار مع تحالف الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في أوروبا الغربية ضد النازية، فبات التحالف المعادي للنازية يحمل بشكل أو بآخر صفة اليسار، وفي عالمنا العربي جرى اقتباس هذا التوصيف في تلك المرحلة تقريباً وبعدها بقليل.

المرحلة الثالثة من تطور المصطلح واستخدامه، جاءت مع أزمة الستينيات الأوروبية، وخاصة بعد ما سمي ثورة الشباب 1968 في فرنسا. في تلك المرحلة نشطت على المستوى الأكاديمي، الدراسات الثقافية Culture Studies، التي كانت عملياً جزءاً من الحرب الباردة الشاملة، تلتها دراسات ما بعد الاستعمار Postcolonial Studies أواخر الثمانينيات ومطالع التسعينيات، ليتحد بعد ذلك هذان المجالان في ما يسمى حالياً دراسات الهجرة Immigration Studies وسياسات الأقللة minoritization. محصلة هذه الدراسات في ما يتعلق باليسار يمكن اختصارها بالتالي: قوى اليسار "وفقاً لما ينبغي أن تكون عليه قوى اليسار من وجهة نظر المركز الإمبريالي" هي مجموع الفئات «الأقلوية» (النسوية، المثليون، ذوو الاحتياجات الخاصة، الشباب، المسلمون في المجتمعات ذات الأكثرية غير المسلمة، العلمانيون في المجتمعات المتدينة، الملونون في المجتمعات البيضاء، الخضر، النباتيون... إلخ) ويمر ضمن هذه الفئات "الفقراء"، بما يعني أن اليسار هو كل أشكال الاعتراضات المذرّرة والمفتّتة، وأهم من كل ذلك، الاعتراضات العابرة للطبقات والمعارضة للطبقية، وبكلام أوضح: هي فئات الاعتراض الإصلاحي، غير الراديكالي!



ثانياً: اليسار الاسمي واليسار الفعلي:

آخذين بعين الاعتبار الأفكار السابقة، وغيرها الكثير من المعطيات الملموسة، كانت لدينا في حزب الإرادة الشعبية، ومنذ وقت مبكر، قناعة بأن كلمة يسار وحدها تكاد لا تعني شيئاً محدّداً، بل وتحمل من المضامين السلبية (بملموس ما يسمى قوى يسارية) أكثر مما تحمله من شحنة إيجابية تاريخية، ولذلك لجأنا إلى التفريق بين يسار إسمي ويسار فعلي، وقلنا إن اليسار الفعلي يكون يساراً بأدائه لدوره الوظيفي: التمثيل الحقيقي لقوى التغيير الاجتماعية وفي القلب منها الطبقة العاملة، إضافة إلى الموقف الواضح والصريح من المعسكر الإمبريالي؛ فأي قوة ولو بلعت كتب ماركس وتحدثت باسمه صبحَ مساء واتخذت موقفاً ملموساً إلى جانب الأميركان فهي يسار اسمي ويمين فعلي. من ناحية أخرى، فحتى تلك القوى التي تتغطى بلبوس ديني، إذا كانت مواقفها الملموسة معادية للمعسكر الإمبريالي وممثلة لمصالح الطبقات والفئات التقدمية فهي يمين اسمي ويسار فعلي. وواقع الأمور أن الملموس دائماً أعقد من وصفات (صفر- واحد)، لذلك يمكن أن نرى بين هذا وذاك تدرجات كثيرة.

 

ثالثاً: الأيديولوجي والسياسي...

في توصيف اليسار واليمين أيضاً، كان بين استنتاجات الإرادة الشعبية أن الناس ضمن مراحل الصعود والنشاط السياسي العالي، تضع في مرتبة أدنى مسألة الاتجاهات الأيديولوجية للقوى السياسية (إسلامية، شيوعية، قومية...) مقارنة بالموقف السياسي الملموس لتلك القوى، وذلك على عكس مراحل الركود الجماهيري، حيث يبتعد معظم الناس عن العمل السياسي، وينحصر (الاهتمام السياسي) أكثر منه العمل السياسي الجدي، في فئات محددة هي بشكل خاص الفئات المثقفة وطلاب الجامعات، والفئات الوسطى بالمعنى المعيشي، وهذه الفئات تهتم خلال فترات الركود بالجانب الفكري والأيديولوجي وتُستقطب في معظم الأحيان على أساسه، مما يخلق وهماً لدى المراقب أنّ أساس الاستقطاب نحو الأحزاب السياسية هو دائماً وأبداً الأساس الأيديولوجي، في حين أن الواقع يثبت أن الجماهير في مراحل نشاطها العالي، ومع تطور تجربتها، تتعلم أنّه ليس مهماً ما تقوله الأحزاب عن نفسها وعن توجهاتها الفكرية، بل المهم هو مواقفها وسلوكها الملموس؛ حين استقطب الحزب البلشفي عشرات الألوف قبل ثورة 1917 الأولى، ومئات الآلاف بعد ذلك، لم تكن هذه الألوف المؤلفة ملحدة ولا شيوعية بالمعنى الفكري، كانت بمعظمها جماهير مؤمنة، لكنها كانت شيوعية بالممارسة.


«الإرادة الشعبية» والأزمة السورية

بعد التقديم المطول أعلاه، سنحاول تقديم توصيف شديد الاختصار لدور حزب الإرادة الشعبية خلال السنوات الماضية في سورية، وسنمر خلاله على «قوى وشخصيات يسارية» أخرى.
ما قبل 15 آذار 2011...
لم يكن اسم الحزب في حينه حزب الإرادة الشعبية، بل كان الحزب الشيوعي السوري- تيار قاسيون، ثم اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين. ما يمكن تسجيله على عجالة جانبان أساسيان من جوانب نشاطه: الأول هو الجانب المعرفي، حيث تنبأ الحزب لا بالأزمة السورية المقبلة فحسب، بل بالأزمة الرأسمالية وبدرجة عمقها مؤكداً أنها من الممكن أن تكون الأزمة النهائية للرأسمالية، وأن هذه الأزمة ستفتح الأفق التاريخي الذي انغلق مؤقتاً أمام القوى الثورية، وستغلقه نهائياً أمام الرأسمالية؛ ستعود الجماهير في كل العالم إلى الشارع، وعلى الأحزاب الثورية أن تحضر نفسها لكي تعود إلى الناس لتعود معهم إلى الشارع، وحين يعترفون بها ممثلاً لمصالحهم تكون قد بدأت بأداء دورها الوظيفي والذي هو وحده يخوّلها أن تستأهل حمل اسمها (هذه الاستنتاجات وغيرها كانت مصاغة بشكلها الكامل عام 2002 وكان «يساريون» من «ثوريي» اليوم يتهموننا بالجنون لدى سماعها). وبناء على ذلك (وهنا الجانب الثاني العملي) فقد بدأ الحزب بجملة نشاطات احتجاجية ذات طابع وطني عام، وذات طابع اقتصادي اجتماعي وسياسي مباشر، وبشكل خاص فقد تركزت الاحتجاجات على السياسة الاقتصادية المنبطحة لصندوق النقد الدولي وكذلك مسائل "الانفتاح الاقتصادي" وفتح الحدود لقطر وتركيا والتجارة/السياحة قاطرة النمو وغيرها من السياسات التي شكلت الأساس الموضوعي للأزمة التي اختمرت قبل 2011 بكثير وانفجرت في 2011. وكان الحزب لوقت طويل وحيداً تقريباً في نشاطه المباشر في الشارع، وذلك منذ عام 2000، وتعرّض بطبيعة الحال لأشكال التضييق الأمني المعروفة، بما في ذلك الاعتقالات وإعاقة طباعة جريدته أو توزيعها... وإلخ. وأعاد تأكيد وتثبيت موقفه من مسألة التدخل الخارجي مع احتلال العراق عام 2003، ومن ثم اتخذ موقفاً واضحاً من مجموعة إعلان دمشق 2005...


إعلان دمشق «2005»

لمن يرغب في فهم مروحة القوى المسماة معارضة اليوم، فإنّ المدخل الذي لا بديل عنه هو دراسة إعلان دمشق والقوى التي اشتركت فيه، فهذه القوى والشخصيات هي ذاتها التي شكلت النواة الصلبة التي توزّعت لاحقاً على كل من (المجلس الوطني السوري- المؤسس في أنتاليا التركية 2011)، (هيئة التنسيق الوطنية- المؤسسة في مؤتمر حلبون 2011)، ومن ثم (مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية- مصر 2012)، و(ائتلاف قوى الثورة والمعارضة- المؤسس في قطر 2012).
ضمّ إعلان دمشق يساريين؛ هم عبارة عن شخصيات منفردة أو أحزاب هامشية العدد والتأثير، حتى إن بعض تلك الأحزاب لم يصل عدده العشرين عضواً، جنباً إلى جنب مع الإخوان المسلمين والاتحاد الاشتراكي، وغيرها من القوى... تنسّمت قوى إعلان دمشق رياح التدخل الأميركي في المنطقة وحاولت – على النموذج العراقي- ركوب موجته (يسجل للتاريخ أن بعض اليساريين الجديين عادوا فانسحبوا من الإعلان وعلى رأسهم عبد العزيز الخير). لكن قمع النظام الأمني لجماعة إعلان دمشق سمح بإعطاء تحركهم سمة أخلاقية سمحت لهم بالاستمرار والتوالد اللاحق لينتجوا أشكال المعارضة السورية المروّجة إعلامياً (من إعلام النظام والمعارضة)، ولو كان فتح معها معركة سياسية جدية لكانت انتهت في حينه، لكن لم يكن لديه مصلحة في ذلك لأن حدود الخلاف بينه وبينها كانت ستطفو على السطح لو فتحت المعركة السياسية، والخلاف فعلياً هو الخلاف الحالي ذاته بين هذه المعارضة والنظام؛ اتفاق شبه تام في البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والديمقراطي، واختلاف على السلطة... ولذلك فضل النظام حسم الأمور أمنياً.


المظاهرات والحوار:

مع انطلاق الحراك الشعبي في سورية انخرطت كوادر الإرادة الشعبية ضمن المظاهرات في نقاط مختلفة من البلاد، وتعرّضت لما تعرض له المتظاهرون، ولكن ذلك الانخراط لم يكن له طابع الالتحاق بأي شكل من الأشكال، بل كانت ساحات التظاهر وساحات الاجتماع وأي ساحة للحديث مع المتظاهرين هي في الوقت نفسه ساحة للاشتباك مع مزاجهم ومع الشعارات التي يجري استيرادها وتظهيرها، ولم يكن لدى الحزب أدنى وهم أنه قادر على قيادة الحراك الجماهيري، ليس لأنه لم يكن مؤهلاً بما يكفي بمعنى الجسم التنظيمي فحسب، فهذه يمكن حلّها حين تكون درجة وعي وتنظيم الجماهير قد بلغت الحد الكافي، بل أهم من ذلك هو الانخفاض العام في مستوى الوعي السياسي والنضالي الناجم عن سنوات طويلة من القمع وكبت الحريات السياسية، إضافة إلى الطبيعة الطبقية المتهتكة في سورية نتيجة تطور النشاط الريعي على حساب النشاط الإنتاجي الحقيقي (وخاصة خلال العقد الأول من الألفية)، وفي هذا الأخير طغيان النشاط الفلاحي الصغير على حساب الزراعة المنظمة. ترافق ذلك مع درجات تدخل خارجي عالية جداً عبر الإعلام وغيره.


حسم/ إسقاط

كان واضحاً تماماً في نظر الحزب أن مصر أو تونس لن تتكررا في سورية، وأن الصراع سيطول، ولن يحصل لا إسقاط للنظام، ولا حسم عسكري لمصلحة النظام، ويتأسس هذا الإدراك على فهم طبيعة الصراع الدولي ودرجة التراجع الأميركي الغربي بمقابل الصعود الروسي الصيني، إضافة لحساسية سورية بالنسبة للروس والصينيين على السواء. ولذلك فقد دعا الحزب منذ اللحظة الأولى للحوار بوصفه المخرج الوحيد، وهذه الصيغة تطورت نحو الدعوة للحل السياسي. وتعرض الحزب لسنوات من الهجوم والتخوين المزدوج من النظام ومعارضته (واليساريين منها بخاصة)، لدفعه نحو الوقوف ضمن التصنيف (الثنائي الوهمي) بين موالاة ومعارضة.

كان واضحاً أيضاً، أنّ قسماً كبيراً من المعارضة، وبالذات المروَّج غربياً، لا يكاد يختلف عن النظام بشيء بمعنى الاتجاه الطبقي، وحتى بالهوى والميل الغربي بالمعنى الاقتصادي على الأقل، ولذلك اعتبر الحزب شعاريْ الإسقاط والحسم شعارين للقوى الناهبة التي تريد إما الفوز بكل النهب عبر كسر الطرف الآخر، أو بالوصول إلى تحاصص ما بين الناهبين على الشاكلة اللبنانية، ولذلك فقد وقف بحزم ضد الشعارين، طارحاً شعاره في التغيير الوطني الجذري العميق السلمي السياسي الاقتصادي- الاجتماعي، رافضاً التدخل الخارجي بحزم (وليس كقوى أخرى رفضت لفظاً وقبلت بالتدخل العربي معتبرة أنه ليس تدخلاً خارجياً: عن هيئة التنسيق أتحدث)، ومتمسكاً بالحل السياسي طريقاً نحو فتح باب هذا التغيير.


السلاح:

ضمن هذا الإطار، فقد رفض الحزب العمل العسكري من اللحظة الأولى، واعتبره باباً من أبواب جهنم، يخدم في آن معاً الفاسدين الكبار وتجار الحروب في الطرفين، ويبعد إمكانيات التغيير الجذري ويقرّب إمكانيات تقسيم البلد وتقاسمها بين أمراء الحرب. رغم ذلك، فإنه لم يقطع نهائياً مع من حملوا السلاح على الجانب المعارض، بل أكد أنّ قسماً مهماً منهم قد حمل السلاح بنوايا صادقة، واستمر في الحوار معهم وطالب بضرورة التمييز بين أصناف المسلحين، بين من هم أبناء البلد وبين الأجانب من جهة، وبين العمل المسلح العفوي وبين ذاك المدعوم من الخارج من جهة ثانية، وبين هذين وبين العمل الإرهابي.


الموقف من الوضع الدولي:

أهم مفصل في وضع سياسة حزب الإرادة هو فهم الوضع الدولي الناشئ، وتحديد الموقف من القوى الدولية والإقليمية المختلفة، انطلاقاً من فهم مصالحها بالذات، ودرجة تقاطع تلك المصالح مع مصلحة الشعب السوري. التحليل المعمق للأزمة الرأسمالية قادنا للاستنتاج بأن القوى الصاعدة ستنتهج نهج الحلول السياسية محاولة تطويق النزعة الحربية الأميركية التي تعبر بدورها عن الاختناق الذي يصيبها جرّاء الأزمة، ولذلك فقد رأينا أن روسيا الرأسمالية (وهذا موضوع جيد للتندر، ولنا فيه دراسة بعنوان: روسيا الشبح الإمبريالي) مضطرة للتعامل مع معركة سورية بوصفها معركة وجودية بالنسبة لها، وبأنها ستنتصر في هذه المعركة، وأن انتصارها سيمرّ حصراً عبر حلٍّ سياسي يفتح الباب على تغيير جذري في النظام السوري والوضع السوري، لأن النظام السوري كتركيبة طبقية واقتصادية - اجتماعية، هو في نهاية المطاف، جزءٌ من المنظومة الغربية الأميركية وسلوكه منذ ما قبل الأزمة وخلالها، يصب في مصلحة تلك المنظومة...


جبهة التغيير والتحرير:

دخل الحزب ضمن تحالف جبهة التغيير والتحرير خلال السنة الأولى من الأزمة، وهو تحالف تغيّرت بعض قواه مع مراحل الأزمة المختلفة، لكنه حافظ على نواته الصلبة بالمعنى التنظيمي والفكري، وجرى تعزيزه مع الوقت وصولاً لتشكيل منصة موسكو. اشتركت الجبهة في لقاء تموز التشاوري، وبعد ذلك شاركت على أساس ائتلافي لمدة سنة تقريباً ضمن حكومة ائتلافية شكّلها النظام، وكان الهدف الأساسي هو الدفع نحو الحل وإحداث الفرز الضروري الطبقي ضمن (الموالاة والمعارضة) بعيداً عن التصنيف والانقسام الجاهز بينهما، والذي لا علاقة له بالانقسام الطبقي، بل هو انقسام عمودي بين «رعية» و«رعية» مقابلة، للطرفين المتشدّدين ولأمراء الحرب، وهو ما بات السوريون يعرفونه بشكل عميق بعد أن دفعوا دماءً وعذاباتٍ كبرى ثمناً له. الخروج من الحكومة، جاء بعد انغلاق أفق هذه المحاولة التي وبرغم كلّ شيء قد حققت للحزب انتشاراً واسعاً في أوساط كان انتشاره ضعيفاً ضمنها أو غير موجود نهائياً.


الإرهاب:

لم يقع الحزب في فخ التوصيفات السهلة لظاهرة الإرهاب المتمثل في داعش أو النصرة أو أشباههما؛ أي أنّه لم يدخل في حالة العماء (العلمانية) التي وصفت هذا الإرهاب بوصفه ظاهرة إسلامية بحتة... بل استند في فهم الظاهرة إلى طبيعة الصراع الدولي القائم، وإلى طبيعة وعمق الأزمة الرأسمالية العالمية، مستنتجاً أن هذه الأشكال الإرهابية ليست في جوهرها إلى فاشية جديدة أنتجها المركز الإمبريالي، مستفيداً من كل الخواص المحلية بطبيعة الحال، ولكنها أولاً وأخيراً من إنتاجه، واعتبر أن الحرب ضدها جزءٌ لا بدّ منه ضمن معادلة الوصول إلى الحلول السياسية في سورية وغيرها، بوصفها (أي الظاهرة الإرهابية) أداة بيد قوى الحرب في المركز الإمبريالي التي ترفض الاعتراف بتغير موازين القوى العالمية وتحاول تأجيل بحث وضع الدولار العالمي: أداة هيمنتها رقم واحد.


القرار 2254 ومنصة موسكو...

شكّل القرار 2254 نهاية العام 2015، وبعد حوالي شهرين من الدخول الروسي المباشر على خط محاربة الإرهاب في سورية، نقلة نوعية ضمن الأزمة السورية؛ فهو أول اتفاق متكامل، كنّا ولا نزال نرى أنّه تم فرضه فرضاً من القوى الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين، ولعلّ محاولات الالتفاف عبر «ورقة تيلرسون» وعبر «مبادرة ماكرون» وغيرها، تثبت ذلك بشكل كاف.
يفتح 2254 الباب واسعاً أمام تغيير حقيقي في النظام السوري، تغيير بأيدي السوريين أنفسهم وبأقل درجة من التدخلات الخارجية، وهو ما يجعله غصّة في حلوق الغربيين.
تشكلت منصة موسكو للمعارضة السورية عام 2014، وتعزّز موقعها بعد القرار 2254 الذي ذكرها صراحة كأحد ممثلي المعارضة التي ينبغي أن تدخل في عملية تفاوض مع النظام، وكان هذا الأمر إنجازاً مهماً لقوى المنصة التي تعرضت قبل ذلك لمحاولات إقصاء أو احتواء من الطرفين المتشدّدين اللذين لا يملكان برنامجاً للحل ولا برنامجاً لليوم الأول بعد الأزمة، ما يملكانه فقط هو برنامج الحفاظ على السلطة أو الاستيلاء عليها (أتذكّر دائماً مثالاً مهماً على التشابه العالي بين الطرفين المتشدّدين؛ فخلال السنة الماضية وفي إطار الحوار بين منصات المعارضة الثلاث، وعند الوصول إلى نقاش موضوعه تعريف جسم الحكم الانتقالي أو ما يسمى هيئة الحكم الانتقالي، كان رأي الهيئة العليا للمفاوضات - منصة الرياض في حينه، وعلى لسان أحد جهابذتها ضمن نقاشاتنا الداخلية، أن لا مشكلة لديها في تركيبة النظام، بل هي تركيبة ممتازة، المشكلة هي بالأشخاص!).


2254 وسوتشي وأستانا:

لإغلاق الباب أمام التبارز الإعلامي الهدّام بين النظام وبين وفد الهيئة العليا للمفاوضات (الائتلاف)، قبلت منصة موسكو بتشكيل هيئة تفاوض من المنصات الثلاث لتشكيل وفد واحد للمعارضة لدفع عملية جنيف قدماً، لكن ظهر في الواقع العملي أن هذه المسألة وحدها غير كافية، لذلك كان لا بد لعلمية أستانا أن تتابع طريقها وصولاً إلى وقف إطلاق النار الشامل الذي بات مسألة أشهر وأسابيع قليلة، وكذلك كان لا بد من مؤتمر سوتشي للحوار الوطني الذي كانت وظيفته الأساسية هي كسر تعطيل متشدّدي الطرفين للانطلاق نحو تطبيق القرار 2254، وهو ما نحن على أعتابه عبر اللجنة الدستورية وغيرها من التفاصيل.


البدائل تظهر في المراحل النهائية من الأزمات الرأسمالية:

القارئ لأدبيات اليسار خلال العقود الثلاثة الماضية، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى الآن، يراها تذخر بأشكال «النقد الذاتي»، وهو توصيف صحيح تماماً لتلك الأدبيات من حيث هي نقد «ذاتي» أي مثالي وغير موضوعي، على العكس تماماً مما دعا إليه لينين وهو النقد الذاتي أيضاً، ولكن بمعنى النقد الموضوعي للذات؛ (أهم دليل على ذاتية النقد الذاتي لدى قسم كبير من اليسار أنه يتفق تماماً مع الدعاية الأميركية والرأسمالية عموماً في تفسير أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي وأسباب انقسامات الأحزاب الشيوعية: عبادة الفرد، تجريم ستالين، الديكتاتورية والشمولية... إلخ، ويقف عند هذا الحد دون أية إضافات جدية، ودون أي مراجعات جدية لهذه الأسباب نفسها ومدى صحتها).

على العكس من تلك الأدبيات المهزومة، فإننا نرى أنّ الأفق المفتوح أمام حركة الشعوب، يتسع باطراد، وأنّ القوى الثورية الجدية التي انتهت منذ زمن من نكسة الهزيمة والانهيار، وباشرت نضالها الملموس على أوسع نطاق، والتي وفي الوقت نفسه (لا تنام على الأكاليل) وفقاً لوصية الثوريين المنتصرين السابقين، هذه القوى تتعاظم قوة ووعياً وتنظيماً.

ولما كانت دروس التاريخ قد علّمتنا أنّ البدائل الحقيقية لا تظهر إلا في المراحل الأخيرة من الأزمات الرأسمالية، فالعالم بأسره على موعد مع ظهورها القريب، وكذلك الأمر في سورية التي باتت في ربع الساعة الأخير من أزمتها، و«الإرادة الشعبية» يناضل ليكون جزءاً مهماً من ذلك البديل.

عن مجلة النداء العدد: 338

آخر تعديل على الإثنين, 12 نيسان/أبريل 2021 14:23