ما ذنب أوراق هيكل وكتبه؟
ما ذنب أوراق محمد حسنين هيكل ووثائقه النادرة، ويومياته السياسية، وكل ما كان موجوداً في مكتبته من أمهات الكتب كي يتم حرقها مع بيته الريفي بكل ما فيه أيضاً من تراث فني ولوحات لكبار الفنانين المصريين؟
ما ذنب كل ما يعنيه ذلك للتاريخ السياسي والثقافة والفكر، كي يحرق ويمزّق ويسرق، إذا كان هيكل قد عبّر عن وجهات نظر أغضبت من تتوجه إليهم كل أصابع الاتهام، وهم الإخوان المسلمون في مصر؟ ليس السؤال هو فحسب حرق كتب ووثائق ودار رمز من رموز الإعلام والسياسة وصدمة هذا الفعل، بل هو وبقدر كبير أيضا سؤال أن يمر ذلك بشكل لا يبعث على سماع كثير من الأصوات الرافضة التي تضعه في الأطر المتناسبة مع حجمه . لكأن الأمر في النهاية وفي ظل هذا الصمت الغريب هو فعل ورد فعل مقابل: قضية بينية طرفاها هيكل والإخوان وآراء له أزعجتهم كثيراً فكان الاقتصاص منه . أو هي كما تحاول الأصوات الإخوانية في الصحافة المصرية حصرها في النطاق الجنائي وتلبيسها للبلطجية .
والنتيجة هي المعادلة الغريبة التي يبدو أنها ستفرض نفسها عربيا، وهي أن التعبير الحر والصريح عن الرأي هو مغامرة وإبحار في الخطر، وأن الكاتب وصاحب الرأي يتحمّل وحده نتيجة ما يكتب من الحرق المعنوي وما يليه من حرق الممتلكات الفكرية والمنزل والأشجار ومساحة الوجود المكاني .
حادثة حرق الكتب لم تكن ضد مثقف أو صحفي عادي، بل كانت موجّهة لكاتب كبير ليس بلا نفوذ وسمعة مؤثرة في مصر والبلاد العربية . ومع ذلك ظل الخبر شبه مجهول منذ أن ورد بشكل ثانوي بين أخبار مصر المهمة يوم الرابع عشر من أغسطس/آب، وهو يوم اقتحام اعتصام رابعة .
ولقد كانت ضمن موجة الغضب التي سمّاها الإخوان ثورتهم الثانية، ولكنه سرعان ما اختفى في لحظات من قائمة الأخبار ولم يحظ بأهمية تذكر أو بتعليقات في الإعلام المصري بعد ذلك إلا حين تحدّث هيكل نفسه عن الحرق في اللقاء التلفزيوني به يوم الخميس الماضي في البرنامج ذاته الذي كان منصة لحديثه الذي أثار حفيظة الإخوان في زمن الانهيار السياسي لحكمهم وشعبيته .
بدأت حلقات استضافة هيكل من لميس الحديدي في برنامج “مصر أين ومصر إلى أين”؟ في قناة ال”سي بي سي” بتحفّظ وحذر موضوعي منه في وصف ومعالجة حكم الإخوان لمصر . ولكن بتطور الأحداث السياسية وانكشاف العجز والتخبط الإخواني في الحكم، أخذ هيكل بوضع النقاط على الحروف وتحليل الظاهرة السياسية الإخوانية في سياقها التاريخي وفي محدودية امتلاكاتها الذاتية وقدراتها التي فشلت في اختبار الحكم، وكانت بالتالي مشروعية الحديث في ما بعد حكم الإخوان . لم يعرض هيكل فحسب الظروف التاريخية لنشأة الإخوان وما هو مشبوه في بداياتهم وعلاقاتهم بالقوى الاستعمارية القديمة والأخرى التي أخذت مكانها في السيطرة على الخارطة العربية، ولم يوضّح بالدليل نوعية ومحدودية الكفاءات الإخوانية وإنما تنبأ كذلك بالمدى الزمني لنهاية حكمهم . حديث هيكل التلفزيوني كان موجعاً للإخوان غاية الوجع لأنه امتلك موقع قوة في خلفية التاريخ ومعاصرة كل زعماء الإخوان التاريخيين وفترة عبد الناصر والسادات، ولأن ما يطرح فيه من رأي وتحليل كان موضع استماع قطاع سياسي واسع وفئات مؤثرة مشاركة في دائرة الحكم معهم . كانت هذه الكتلة السياسية في حاجة إلى منظّر سياسي يبلور الموقف ويضعه في إطاره الموضوعي والتاريخي والسياسي .
لقد صنع هيكل في حلقات البرنامج وربما للمرة الأولى في حياته السياسية رأياً سياسياً مضاداً منظوراً كان الإخوان هم الخاسرين فيه . وربما كان هيكل ينقض بذلك “هدنة” سياسية أرادها الإخوان معه وسعوا إليها وكان الدليل على هذه الهدنة هو الدعوة المبكرة له للقاء مرسي بعد انتخابه رئيساً والإعلان عن اللقاء قبل حدوثه . كان مهماً للإخوان أن يخلقوا الانطباع بأنهم “يستمعون” هم أيضاً إلى “الأستاذ” ويقدرون وجهات نظره . ولقد حاولوا ومنذ الثمانينات إقامة علاقة ودية وتواصل معه كما ذكر عصام العريان في حديث ل”الجزيرة” في أوائل يوليو/تموز الماضي، قائلا إنه هو شخصياً كان يزور هيكل بشكل منتظم منذ الثمانينات .
خرج هيكل من شكل هذه العلاقة مع الإخوان التي أقاموا مثيلاً لها مع الكثير من المثقفين القوميين والليبراليين، فاستحق أولاً الرجم المعنوي في شخصه حيث كان موضوعاً دائماً لهجوم زعماء الإخوان، وخاصة على منصة رابعة العدوية . لقد هاجمه البلتاجي مرات عديدة بكلام أقرب إلى اللغة السوقية ومن نوع “عيب اختشي على سنك . . إحنا تسترنا على بلاويك” . كانت التهمة لهيكل أنه المنظر لمظاهرات الثلاثين من يونيو/حزيران، والرأس المدبر للدور السياسي للفريق عبد الفتاح السيسي وتشبيهه بعبد الناصر . هل كان سفر هيكل وابتعاده عن الأجواء السياسية المصرية هو بسبب هذه التهم التي ترددت كثيراً على لسان قادة الإخوان في زمن اعتصام رابعة؟
هل يبرر الموقف السياسي للإعلامي والمؤرخ والكاتب السياسي الانتقام منه وتأديبه في وثائقه وكتبه ورأسماله الفكري وممتلكاته الشخصية؟ وعملياً، وبافتراض أن هيكل قد لعب دوراً “فكرياً” في التحوّل السياسي ضد الإخوان، هل هي قاعدة شرعية (غير مكتوبة) أن تتم معاقبته في يوم اقتحام رابعة بهجوم منظم على مزرعته وبما يحمله هذا الهجوم من إعلان لهذه القاعدة؟
ماذا كان سيحدث لو لم يتصد الجيش المصري للغضب أو للثورة الإخوانية (كما كانوا يسمونها) والتي كانت ساعة الصفر لها هي اقتحام رابعة؟ لقد استقبلت صفحات “الفيس بوك” لبعض فئات الإسلام السياسي ورود الخبر العاجل بحرق مكتبة هيكل بجمل مثل: “الله ينور عليكم” و”عليكم بحرق مدينة الإعلام النهارده” (صفحة خالد عبدالله على سبيل المثال) .
معاقبة المثقفين وحرق الثقافة ليست شرارة طائرة أصابت أوراق هيكل خطأ أو عمل بلطجية كانوا ينوون السرقة فحسب، كما يزعم فهمي هويدي في دفاعه عن الإخوان، بل هو فكرة في الأذهان قبل كل شيء . وهي علامة على عصرنا العربي الحالي وبؤسه وعدم حرمة الثقافة فيه أمام موجة الجهل السياسي المرتبط بالجهل الثقافي . في يوم حرق أوراق هيكل وكتبه كانت أيضا محاولة الاعتداء على مبنى جامعة الإسكندرية الجميل ومحاولة اقتحامه . هذه المكتبة تقوم اليوم بحماية نفسها من المتربصين بكتبها ووثقائها بسور حديدي يحجب جمالها ولا وجود لمثله إلا في بلدان العرب حيث تستباح الثقافة وأدواتها وشواهدها، وكذلك شواهد التاريخ في كل مكان في العراق وسوريا ومصر .