جولة حافة الهاوية: ص3

جولة حافة الهاوية: ص3

صعود بوتين، صمود الاسد، وصدمة اوباما

 أفول الامبراطورية الاميركية لم يعد مسألة نظرية أو ترف سياسي مغلف بتمنيات ورغبات المناوئين لها. ان تجليات “غطرسة القوة،” الناعمة والعسكرية، التي سعى لممارستها بشدة مؤخرا الرئيس اوباما افضت الى خيبة أمل لم تلمس نهايتها بعد، وتلقّي المؤسسة الحاكمة بكافة اركانها صفعة تلو اخرى اصابتها في صميم استراتيجيتها بحكم عدم انتظام الازمة السورية الى ايقاعات استراتيجية الهيمنة التي اعتادت عليها طويلا، وتصدع مراكز القوى الداخلية والخارجية التي كانت تعول عليها.

 

المواجهة الاخيرة التي توجتها “المبادرة الروسية،” بشأن ترتيب اشراف دولي على الاسلحة الكيميائية السورية، كان لها وقع الصدمة على كافة اجنحة ومؤسسات صناعة القرار سيما بعد احساس الرئيس اوباما ان الكونغرس بمجلسيه لا يبدي حماسا لشن عدوان على سورية او لدعم توجه يعرض القوات العسكرية لآفاق مفتوحة في ساحة ملتهبة وحيوية، ناهيك عن الذرائع الجاهزة زمانا ومكانا، بل تركه وحيدا في لحظة حرجة للغاية من المواجهة الدولية هو في امسّ الحاجة الى وحدة الموقف واصطفافهم خلفه. ربما الصدمة الحقيقية تجلت في رفض اميركي عام لتقبل واقع دولي جديد في طور التشكيل ينهي سيطرة وهيمنة القطب الواحد، خاصة وان روسيا التي نهضت من كبوة انهيار النظام السابق، في ظل اجواء اميركية تكن مشاعر عداء متأصلة ضدها منذ الثورة الشيوعية لعام 1917، اضحت ندا بامتياز باستطاعته التأثير في وجهة النزاعات على المستوى  الدولي ويسترد المبادرة من الطرف الاميركي، وهو الذي ما برح يتغنى بها.

 

 “هل ستجد الولايات المتحدة نفسها في مواجهة مرحلة (تراجع) وانسحاب من شرق السويس،” في اشارة لأفول الامبراطورية البريطانية، بات موضوع متداول كما جاء في يومية “فورين بوليسي،” احدى مكونات الركائز الايديولوجية للمؤسسة الحاكمة. هذا التداول لا يقتصر على بعض ادبيات النخب الفكرية، ولم تعهده الولايات المتحدة، بل كانت تستخف وتشوه كل من يقترب من هذه المقاربة التاريخية الى وقت قريب.

 

في هذا الصدد، لسنا مع المعسكر المفرط في التفاؤل الذي يرى ان الولايات المتحدة شارفت على الهزيمة والانسحاب، الامر الذي يجافي الواقع الملموس. بل ينبغي تلمس الوقائع والاقرار بالدور التاريخي الذي اسست له سورية، بفضل صمودها وتماسك حلفائها واقرانها وصفاء الرؤيا التي تحلت بها، مما افضى الى تبلور معادلة دولية مغايرة، وامتدادا ارساء معادلة اقليمية جديدة ايضا، تمهيدا لعالم متعدد الاقطاب الذي انتعشت حتمية بروزه بعد تجذر وتماسك دول البريكس، سيما وان سياساتها الاقتصادية الاكثر دراية انقذتها من الازمة المالية الطاحنة التي اجتاحت الغرب والنظام الرأسمالي عامي 2008-2009.

 

اوباما كممثل لقمة الهرم السياسي ادرك مبكرا البعد الدولي في الصراع على سورية وسعى لازالتها كدولة وموقع ودور ومؤسسات، وتهيئة المناخ الاقليمي لتثبيت الاستراتيجية الاميركية في المنطقة ودرة تاجها، “اسرائيل،” وترك ادارة الحرب لدول خليجية واقليمية خشية التورط مباشرة وحرصه على الوفاء بوعوده الانتخابية لانهاء التورط الاميركي في الحروب. ودُفِع اوباما سريعا لاتخاذ موقف حاسم والتدخل العسكري المباشر، اثمر في تهديده ووعيده بخط احمر يحذر تجاوزه. وامام تصعيد خطاب الحرب والتدخل وجد اوباما نفسه امام حائط مسدود من الخيارات في “اللغز السوري الذي خلقه بنفسه ببراعة،” كما تندر به عدد من الساسة والمحللين.

 

 “الخط الاحمر” لم يثمر الا معادلة صفرية تهدد ليس شعوب المنطقة فحسب، بل تدحرجها سريعا الى آفاق دولية غير محددة المعالم تنذر بحرب عالمية ثالثة. وانقلب تهديد الرئيس اوباما الى توسل لاطراف دولية وللكونغرس لاعانته على ايجاد مخرج لمأزقه. عند هذا المفصل، ادرك اركان المؤسسة الحاكمة كم هي عميقة وممتدة معارضة التدخل العسكري وعلى رأسها كبار القادة العسكريين في البنتاغون، والصدمة المباشرة التالية لاوباما كانت في مجلسي الكونغرس على الرغم من طغيان وهيمنة “الحليف الاول للولايات المتحدة في المنطقة” على اعضائه، وتغليبه “المصالح القومية الاميركية” على الاعتبارات الاخرى.

 

 “المبادرة الروسية” رسمت معالم الحل في الافق بسرعة مذهلة اسهمت مباشرة في التقاط الرئيس اوباما حبل النجاة من مواجهة لم يعد متيقنا من حسم نتائجها، وجاء توقيتها قبل بضع ساعات من القائه خطابه المتلفز للشعب الاميركي. لسنا بصدد اجراء تحليل وتمحيص للخطاب المذكور، اذ ان الأهم هو ما لم يأت على ذكره بشأن فتح كوة في جدار العدوان تجنب سورية والمنطقة اهوال دمار شامل، وترسيخ معادلة دولية جديدة لا تقصي احدا من القوى الصاعدة، وعلى رأسها روسيا وامتدادا الصين ودول البريكس الاخرى، في التفاهمات والترتيبات الدولية على حساب الهيمنة الاحادية للولايات المتحدة.

 

ربما من المفيد التذكير ببعض العوامل التي ساهمت مجتمعة في ابعاد شبح الحرب وترحيله الى مكان آخر، اهمها ما برز من معارضة فعالة داخل صفوف ممثلي الحزبين على السواء، ربما امتثالا للضغط الشعبي الذي سئم الحروب وتجرع من كؤوس تكاليفها واهوالها واهمال احواله الاجتماعية والاقتصادية، والمعارضة المتنامية داخل صفوف القادة العسكريين والذي لم يعد مجرد تكهن وتحليل، فضلا عن مناخ الانتخابات النصفية القادمة التي سيتأثر بها كامل اعضاء مجلس النواب، البالغ عددهم 435 ممثلا. زعامات الكونغرس من الحزبين سعت مجتمعة الى اخطار الرئيس اوباما للعدول عن تقديم اقتراحه بالتفويض الى مرحلة التصويت اذ كان سيلقى خسارة حاسمة.

 

ردود الافعال لكافة شرائح المجتمع الاميركي وقواه المختلفة لمرحلة ما قبل “المبادرة الروسية” اشرت بوضوح الى عدم ثقة الشعب الاميركي بوعود الرئيس وتبريراته، بل اتهم بتضليل الشعب حول دور الكونغرس في قرار شن العدوان، ولا زال يتذكر مقولته السابقة قبل وقت قريب “لا اعتقد انه أمر صحي .. لترحيل هذا الجدل الى الكونغرس،” اسوة بما سبقه من رؤساء والذين شنوا كافة حروبهم العدوانية دون تفويض من الكونغرس، باستثناء الحرب العالمية الثانية.

 

من بين تلك الردود عنوان ليومية “واشنطن تايمز،” 13 أيلول، على صفحتها الاولى اوجزت فيه مأزق اوباما وتراجع الهيبة الاميركية بالقول “في ظل تفاهم سورية مع روسيا، يتلاشى الخط الاحمر الفاصل لاوباما: الخيار العسكري الاميركي اضحى نقطة خلافية.” بعض المعلقين طالبوا اوباما من على شاشات التلفزة “اعادة جائزة نوبل للسلام لانه لم يعد يستحقها.”

 

كيف نفهم “المبادرة الروسية”

 

 

بداية، الخلاف والصراع بين الولايات المتحدة وروسيا اتخذ بعدا تصاعديا جديدا مع عودة روسيا بقوة الى الساحة الدولية مستندة الى متانة اقتصادها، بخلاف سلفها الاتحاد السوفياتي وحال الولايات المتحدة الراهن، وتنامي قوتها العسكرية بمعدلات اقلقت واشنطن وساهمت في بلورتها لاستراتيجية “الاستدارة نحو آسيا،” لتطويق روسيا والصين معا. من هذه الزاوية، ينبغي النظر الى دعوة الرئيس اوباما لروسيا مؤخرا لعب دور بارز في بلورة صيغة حل للاسلحة الكيميائية السورية، سبقها مساعي عسكرية اميركية متعددة لفحص الجهوزية العسكرية لروسيا في مياه المتوسط وسورية معا. المعلومات المتوفرة بشأن التجربة الصاروخية فوق مياه المتوسط لا توفر ارضية لنقاشها وتقييمها سيما وان الطرفين العظميين آثرا الصمت وعدم الادلاء بأي معلومات مفيدة.

 

توجه اوباما مباشرة للرئيس الروسي طلبا للعون يؤشر على عدد من ظواهر الازمة الداخلية الاميركية، واخدود الشقوق في المؤسسة الرئاسية عينها. الهدف الاول الرامي لوضع الاسلحة الكيميائية تحت اشراف دولي لا يتعدى كونه مناورة سياسية تكتيكية تعين على تلافي المأزق، سيما وان الادارة عدلت عن اهدافها العدوانية السابقة بالاطاحة بالنظام او عزل الامدادات الايرانية عن حزب الله. وجاء ليوفر ذريعة لانقاذ وجه اوباما بعد تشبثه العشوائي بخطه الاحمر.

 

خطوة تكتيتكية نعم انطلاقا من المدة الزمنية الطويلة، التي تقدر بعدد من السنين، التي ستستغرقها هذه المرحلة، كما شاهدنا في حالتي العراق وايران. يضاف الى ذلك الدعم الصارم والحازم الذي اعلنته كلا من ايران وروسيا لتعزيز صمود سورية مما يوفر لها زخما اضافيا للقضاء على المجموعات المسلحة. ايضا، لسورية الحق في الانسحاب من الاتفاقية متى شاءت لاسباب تخصها، قد تشمل عدم توفر جهود دولية ملموسة وجدية للقضاء على اسلحة الدمار الشامل في المنطقة، وظهرها مسنود بضمانات دولية وتعهد اميركي ولو موارب لعدم شن عدوان عليها.

 

توسل الرئيس اوباما أشر ايضا على تصدع آلية اتخاذ القرار في المؤسسة الرئاسية الاميركية، وميله لتفادي اتخاذ قرارات حاسمة، ونزعة لتأجيل العمل بالخيارات القاسية. ومن هذا المنظار، فان المبادرة الروسية توفر للرئيس اوباما فرصة اخرى لتأجيل تنفيذ الاهداف المعلنة السابقة الرامية للاطاحة بالرئيس الاسد وانهاء الصراع الدائر في سورية.

 

صلاحيات القائد الاعلى للقوات المسلحة تخوله التصرف بسرعة وطاقة وحيوية، عوضا عن التأجيل وبطء التحرك.

 

عمق المأزق الذي دفع اوباما نفسه اليه اضطره للتقيد بتسوية سياسية لا توفر سوى بضعة ضمانات، ان وجدت. التزاما بالفرضية النظرية القائلة بأن سورية ستسلم كامل ترسانتها من الاسلحة الكيميائية، يبرز على اثرها تساؤل حول توفر جهود جادة لنزع الاسلحة من المنطقة. الاجابة هي بالنفي سيما وان روسيا ابرقت للولايات المتحدة نواياها في الحل المقترح. وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى خطاب الرئيس الروسي الذي تزامن مع القاء الرئيس اوباما لخطابه، اذ قال الاول “لا يجوز الطلب من سورية، او اي دولة اخرى، لنزع سلاحها بمفردها بينما يستمر التفكير بشن عمليات عسكرية ضدها .. قد تحرز الاتفاقية مصداقية ان اقدمت الولايات المتحدة والدول الاخرى الداعمة لها على اشعارنا بالتخلي عن خططهم لاستخدام القوة ضد سورية.” الامر الذي يقتضي من الولايات المتحدة والسعودية والاطراف الاخرى الداعمة لقوى المعارضة المسلحة التوقف عن جهودهم حتى قبل ان تنظر سورية بمسألة التخلي عن السلاح.

 

تصريحات الرئيس بوتين ينطوي عليها اقرار واضح بنجاحها لبلورة “مبادرة السلام” الى آلية مقبولة لكسب الوقت، توفر للجيش العربي السوري ما يحتاجه للمضي في القضاء على المسلحين. اهمية وقيمة العرض الروسي تتعزز بشكل تصاعدي منذ اتخاذ الرئيس اوباما قراره التوجه للكونغرس.

 

التفاصيل الهائلة الكامنة في عملية نقل السيطرة على الاسلحة والتخلص منها تنذر بمزيد من العقبات، سيما وان الاسلحة الكيميائية منتشرة على طول الارض السورية التي يتعين على الفرق الدولية المختصة التوجه اليها لمباشرة مهام السيطرة. وفي بعض الحالات، تقع تلك الاسلحة في مناطق تشهد جولات حربية جارية، مما يعرض سلامة الافراد للخطر، خاصة وان الأمر يتعلق بنزع السيطرة عن سلاح كيميائي، وامكانية لجوء المجموعات المسلحة للحصول على بعض من الترسانة الكيميائية رغم المخاطر الكبرى.

 

أما مرحلة التخلص من الاسلحة فان لها آليتها الخاصة ومخاطرها ايضا، اذ يتعين على الفرق الدولية الاقرار اما القيام بانشاء  وحدات متخصصة داخل البلاد او ترحيلها للخارج، مع ما يمثله الخيار الاول من مخاطر انسانية وبيئية في ظل اجواء حرب لا تزال مشتعلة. اما الخيار الثاني فينطوي عليه التقيد التام بشروط الوكالة الدولية الصارمة لنقل الاسلحة الكيميائية، فضلا عن الكلفة المالية العالية وطول الفترة الزمنية التي ستستغرقها. في ظل استمرار الاشتباكات لا يوفر اي من الخيارين مخرجا مناسبا، مما يزيد من عامل الضغط السياسي على الاطراف الممولة لانهاء الحرب.

 

تأمين الحماية والتنقل داخل البلاد وهي تشهد حربا ضروسا امر لا يمكن تجاوزه، رغم التعقيدات الميدانية من خطورة التنقل بقوافل على الطرق مما يجعلها هدفا سهلا للمسلحين. اما خيار نقل المعدات جوا الى خارج البلاد قد يشكل بديلا رغم ما ينطوي عليه من مخاطر بيئية.

 

سؤال يطرح على كل لسان لتحديد الفترة الزمنية التي قد تستغرقها عملية السيطرة والتخلص من الاسلحة الكيميائية، ولنا في المثال الليبي عبرة اذ لا تزال ليبيا تحتفظ بنصف مخزونها السابق من غاز الخردل بعد انقضاء تسع سنوات على اعلان التزامها بالتخلص منه. الولايات المتحدة ذاتها تمضي في اجراءاتها للتخلص من ترسانة اسلحتها الكيميائية التي يتوقع ان تنتهي منها في العام 2023، اي بعد انقضاء 30 عاما على توقيعها اتفاقا للتخلص منها، مع الاخذ بعين الاعتبار ان الولايات المتحدة لا تعاني من اجواء الحروب وعدم الاستقرار او تعرض جهات معادية لخطة تدمير الاسلحة. كما ان الترسانة الاميركية موزعة على عدد محدود من المواقع بخلاف الترسانة السورية.

 

استشراف المستقبل

 

للمبادرة الروسية الفضل في نزع فتيل الحرب وتأجيل العدوان على سورية. بالمقابل، ستمضي الاطراف الاخرى في جهودها لدعم المجموعات المسلحة مجردة من اية ضوابط ولو شكلية.

 

كما لها الفضل في توفير الفرصة للرئيس اوباما للتهرب من تحمل التبعات والكلفة السياسية لسياسته في سورية، والعقبات لا زالت تواجهه. عدم تيقنه من دعم الاغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ له يؤشر على صعوبات قد يواجهها في المستقبل للحصول على تأييد مبادرات قادمة في السياسة الخارجية.

 

ولها الفضل ايضا في اتاحة الفرصة للرئيس المأزوم بتنفس الصعداء، على الرغم من بقاء الازمة السورية دون حل. انجرار الرئيس اوباما لخيار العدوان العسكري كان بدافع المحافظة على مصداقية الولايات المتحدة. اما تردده في تنفيذ تهديداته فقد ساهم في اعلاء شأن الرئيس الروسي، وتعزيز مكانة الرئيس السوري، بينما حصد الرئيس اوباما الخزي والاهانة – بشهادة الجميع.

 

 

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية