حديقة الشعب ونهاية السلطان
اختصار شديد: الحرب السورية أطاحت الأردوغانية (الرجل نفسه ليس مهماً). فجأة، انفجر تراكم الاعتراض والغضب، وانقسم المجتمع التركي، كالمجتمع المصري، إلى تيار ديني حاكم وآخر مَدني معارض. يعني ذلك أن الأدوار الإقليمية لتركيا، قد شُلّت. كان أردوغان، حتى الأسبوع الماضي، ظاهرة سُلطانية
ب.
السلطان ليس دكتاتوراً، السلطان هو دكتاتور محلّ اجماع لا يُخدَش، محلّ إعجاب وحبّ، إنه لا يمارس السلطة من موقع الحاكم، بل تجتمع عنده كل السلطات كإرادة ذاتية منسابة بلا قيود ولا سجال؛ ولذلك، حين يتظاهر الشعب ضد السلطان، يحوّله، حتى لو فشل في إطاحته، من سلطان خارج الزمن إلى حاكم زمني. ولعل هذا ما يفسر ما اعتبره الغرب ـــ الذي صحا، فجأة، على احتمال «ربيع تركي» ـــ رداً أمنياً لا يناسب حجم الاحتجاج الشعبي وأهدافه.
قفز أردوغان إلى السلطة، وحافظ عليها، بالأغلبية الانتخابية البسيطة، لكنه كالإخوان المسلمين في كل مكان، اعتبر الفوز الانتخابي، منحة إلهية ـــ لا فوزاً انتخابياً مؤقتاً ـــ وتفويضاً مطلقاً في ديموقراطية على مقاس سلطاني: الاعتراض ممنوع، الاعتراض يحوّل السلطان إلى حاكم يمكن التفاوض معه. لذلك، دخل الرجل فوراً في حالة انهيار نفسي، حالما نزل المعترضون إلى الميادين، غادر البلاد في جولة على أتباعه في المغرب العربي، هارباً، إلى أحضانهم الإخوانية الدافئة، من المأزق، وأخذ يتلو عبارات التعزيم، مخاطباً نفسه من خلال مخاطبته أنصاره وحلفائه «حافظوا على الهدوء، سنتجاوز كل هذه الأمور... اهدأوا واطمئنوا، وسيجري التغلب على كل هذا».
فيما خلا ذلك، لا شيء جديداً في تصريحات أردوغان؛ فالمتظاهرون عنده «عناصر متطرفة» تقود جمهورا «ساذجاً»، في «مؤامرة داخلية وخارجية». أما الحَكَم بينه وبين خصومه، ففي صندوق الانتخابات. والردّ على هذه الفكرة، سيأتي من رئيس الجمهورية، عبدالله غول، الأكثر سعادة بنزع هالة السلطانية عن رفيقه أردوغان: «الديموقراطية لا تعني فقط الانتخابات»!
لم يطوّر الإخوان المسلمون حتى في تركيا، رؤية سياسية متطابقة مع الديموقراطية باعتبارها سياقاً؛ فكل ما طوّروه هو تكتيك الخديعة: استغلال الشرعية الانتخابية النسبية للقفز منها إلى الشرعية السلطانية المطلقة. وهو ما يستلزم تبجيل الرئيس المنتَخَب من أنصاره وحلفائه في لحظة المصادفات السياسية اليومية وكأنه هبةٌ من الله وصوت التاريخ! لكن هذه العملية تحتاج إلى نجم سلطاني. في مصر، صادف أن الفائز الإخواني بالرئاسة لا يتوفّر على الميزات الشخصية للنجم، كذلك، فإن المصريين الواعين، غريزياً، بأن تبجيل الرئيس سيحوّله إلى سلطان، ركّزوا جهودهم، في توافق مذهل، على تحويل محمد مرسي إلى مسخرة، ومحل انقسام لا اجماع، في حين تمكن أردوغان من أن يغدو بطلاً للأتراك والعرب والغرب، معاً؛ فامتلك نواصي السُلطانية، بحيث أنه أضفى سحراً شاملاً على برامجه وسياساته، في ما عُرف بالأردوغانية.
لا جديد في الأردوغانية، سوى القدرة على تسويغ وتسويق النيوليبرالية (الخصخصة الشاملة وحرية التجارة ورأس المال غير المقيّدة) والكمبرادورية (بيع معظم الموجودات التركية للرأسماليين الأجانب، واخضاع البلاد لمصالحهم) وتخليق ازدهار وهمي هشّ ومؤقّت، ومحكوم بالانكشاف شبه الكامل للرأسمال الأجنبي، إلى درجة أن موجة أولى من المظاهرات السلمية، أطاحت البورصة!
الوجه الثاني للأردوغانية، يتمثّل في سياسة داخلية تقوم على منع وليس فقط قمع الاعتراض وقضم العلمانية والتعددية الثقافية والدينية. وقد تسارعت وتيرة القضم ذاك، في سنتيّ التورّط في سوريا على أساس طائفي، لتصدم نصف تركيا العلماني الذي تم إلغاؤه لأن النصف الإسلامي منها تمكن من الحصول على فوز انتخابي نسبي.
خدعت الأردوغانية، في وجهها الثالث، جيرانها العرب والإيرانيين، بما سُمّي صفر مشاكل في السياسة الخارجية؛ فلم يكن ذلك نهجاً وإنما مرحلة دعائية للحصول على الصدقية، ومن ثمّ، حين استولى الإخوان المسلمون على الربيع العربي، انتهت مسرحية الخصام مع إسرائيل (كما فعل الإخوان) وتحوّلت الأردوغانية إلى عثمانية طائفية، كشفت عن أطماعها وأنيابها وصلاتها بالسلفيين الإرهابيين، في سوريا. وحين انكسر جيش السلطنة المكوّن من القتلة واللصوص وأمراء الظلام وأجهزة الاستخبارات الغربية والعربية والإسرائيلية، على أيدي المقاومة السورية، تهاوى السلطان في حديقة غازي في اسطنبول، واستيقظ الجميع من أثر السحر.
إزالة أشجار حديقة مدينية عامة لبناء مول ومسجد «عثماني»، أضاء الأردوغانية على حقيقتها: تركيا كلها معروضة للبيع للرأسمال الأجنبي، وما يبقى منها ليس سوى قضم العلمانية ونشر الطائفية والإرهاب، تحت راية العثمانية الجديدة.
معلومات إضافية
- المصدر:
- الأخبار