الجولان نحو التوتر إلى ما دون الحرب؟

الجولان نحو التوتر إلى ما دون الحرب؟

 

 حركة التاريخ لها دلالاتها المحددة توفر استخلاص العبر لمن يحسن قراءتها والاتعاظ بدروسها. في هذا الزمن تحضرنا ذكرى معركة حطين الشهيرة، لتواكب إعلان فتح جبهة الجولان السوري المحتل أمام المقأومة المسلحة وعينها على فلسطين، البوصلة الأم. إعلان له انعكاسات استراتيجية ليس على القوى الفاعلة في الإقليم فحسب، بل على المستوى الدولي ومزاحمة قوى دولية صاعدة للقطب الأميركي الاقصائية. فهل نحن أمام نقطة انعطاف استراتيجية فاصلة أخرى في مسار التاريخ العام؟
بلغ الزهو مداه في الأوساط السياسية الأميركية التقليدية في أعقاب تسديد "إسرائيل" ضربات متتالية مؤخرا في دمشق ومحيطها، واطمئنانها بأن سورية المثخنة بجراحها لن تستطيع التحدي والرد ميدانيا؛ وعليه تستعيد "اسرائيل" هيبتها بعد سلسلة احباطات أصابت هيلكيتها وأدائها العسكريين، والاستعداد للانخراط بشكل أوضح كوكيل أميركي في الإقليم يمكن الاعتماد عليه دون منازع. إعلان الرئيس السوري عن فتح جبهة الجولان امام المقأومة المسلحة فاجأ الكثيرين، وهرولت "اسرائيل" المعتدية إلى توظيف ما تستطيع من نفوذ ووسطاء، ومن والاها من أطراف دولية وإقليمية، لإرسال رسائل تطمينية بانها لا تنوي توسيع نطاق ما قامت به بعد الآن.
الطرف الأميركي الراعي لكل ما يجري في سورية وحولها وعليها سارع إلى إعادة قراءة الوقائع وما سيترتب عليها من تداعيات ترخي ظلالها سلبا على استراتيجيته الراهنة، فاقمه بروز سلسلة فضائح سياسية باتت تلاحق الإدارة الأميركية، وتجدد مطالب التيارات الراعية للتدخل العسكري المباشر في سورية، من ناحية، وخشية الإدارة فقدانها زمام الامور نتيجة انشغالاتها ونجاح ابتزازات خصومها الداخليين. وغابت لهجة اليقين والتكهنات الواثقة لطبيعة الرد الأميركي، أو بشكل أدق، ما يمكن ان يسمح به لوكلائه المحليين في توجيه مزيد من الاعتداءات على سورية أمام نقطة التحول الجديدة.
سورية دشنت إعلانها باستهداف آلية عسكرية في الجولان دمرتها وكل من كان على متنها. الكيان "الاسرائيلي" لجأ لدق طبول الحرب عبر إعلانه إجراء منأورات داخلية مكثفة لتعزيز جهوزية أجهزة الطواريء المختلفة ونشر قوات إضافية على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، يرافقها ضغوط المستوطنين في المستعمرات الشمالية للتخفيف من هواجسهم الأمنية. المنأورات التي تجري بدءا من 26 أيار وتمتد لاسبوع كامل، هي احد اركان منأورات الطواريء التي تجري سنويا بثبات لمدة 6 سنوات متواصلة، لسد الثغرات اللوجستية التي كشفتها حرب تموز لعام 2006.
وزير الجبهة الداخلية "الاسرئيلية،" جلعاد اردان، عبر عن المخأوف بالقول "لم يعد السؤال قائما فيما ان كانت ستطلق صواريخ على المناطق الاسرائيلية السكنية الرئيسة، بل متى ستبدأ." وتشكل مثل هذه التصريحات مؤشرات على اقتناع المسؤولين "الاسرائيليين" بجدية تهديدات معسكر المقأومة بالانتقام والرد على اية عمليات عدوانية، ولا تساهم في سعي الوزير اردان ادخال بعض الطمأنينة لسكان المستعمرات القلقون لسقوط آلاف الصواريخ والقذائف التي ستستهدف المنشآت الاستراتيجية عامة، مصدرها الجبهتين الشمالية والجنوبية لفلسطين المحتلة.
وسائل الاعلام "الاسرائيلية" قامت باداء واجبها في التمهيد الاعلامي للمنأورات وحث الجميع الالتزام الصارم بالتعليمات والارشادات والتعأون التام لا سيما في الانسحاب لمواقع مغايرة افضل أمن؛ وتلعب وسائل التقنية المتطورة دورا بارزا في الاداء اللوجستي بمعأونة وزارة التربية التي استحدثت استمارة تستجوب الطلبة ان كانوا واهاليهم قد دخلوا الملاجيء المخصصة.
المنأورة الشاملة ستكون الأولى التي سيتم اختبار نظام الانذار المبكر فيها بصورة كاملة، فضلا عن صفارات الانذار، وسيتلقى سكان المستعمرات تنبيهات متواصلة عبر وسائل الاتصالات المختلفة والتي تشمل الهواتف النقالة ووسائل التواصل الاجتماعية والنشرات المتلفزة.
الخطاب السياسي السوري تغير نحو التشبث بالحقوق واستردادها، كما جاء في تصريحات وزير الاعلام السوري عمران الزعبي بأن الرد السوري على الاعتداءات "الاسرائيلية" سيكون باسترداد هضبة الجولان المحتلة سيما وانها "كانت ولا تزال ارضا عربية سورية .. ويتعين على اسرائيل الادراك انه لم يعد بوسعها الدخول في نزهة فوق الاجواء السورية اذ ان الارض والاجواء السورية لن تكون نزهة لأحد."
القيادات "الاسرائيلية" على مختلف مواقعها حذرت من عدم أخذ التحذيرات السورية على محمل عالٍ من الجدية، ليس آخرها وزيرة "العدل تسيبي ليفني؛" وشرع سكان المستعمرات الشمالية في اعادة تأهيل الملاجيء وتحديث خطط الطواريء، خاصة تلك التي لا تبعد سوى بضع مئات من الامتار من خطوط الهدنة مع سورية.
كما شهدت التدريبات العسكرية "للقوات الاسرائيلية" في الجولان تطويرات في اساليبها التقليدية لتشمل مواجهة قوات غير نظامية مسلحة بمعدات مضادة للدروع، أوجزها رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، افيف كوخافي، في "مؤتمر هرتسيليا" الدوري ان وحداته تجهز نفسها لمواجهة محتملة مع حزب الله في لبنان، مع الاشارة إلى ان التدريبات المتخصصة المشار اليها قد تكون مقصورة على الوحدات المواجهة للقوات السورية.
ارتفاع منسوب التوترات الاقليمية ينطوي على عدة مسببات، على رأسها الغارات الجوية "الاسرائيلية" ضد سورية التي بلغت ثلاث غارات منذ بداية العام الجاري والتي كان من شأنها مفاقمة التوترات الاقليمية، واجهتها سورية بتهديدات مماثلة بلاطلاق صواريخ بعيدة المدى على "اسرائيل." العامل الآخر هو نشوب اشتباكات بالقرب من خطوط الهدنة مع سورية، وقلق سكان المستعمرات من اقتراب اصوات الاشتباكات منهم. في هذا الصدد، تفيد المعلومات الميدانية بقيام سورية اعادة توزيع قوات كبيرة لها من جبهة الجولان التي وصفها مسؤولون غربيون بانها "الاشد أهمية خلال 40 عاما، ليلحق بضعة آلاف من الجنود على الاقل إلى جبهات المواجهة بالقرب من دمشق في الاسابيع الاخيرة."
إعلان روسيا عن الوفاء بالتزاماتها التسليحية لسورية وتسليمها في مواعيدها فعلت فعلها في مضاعفة وتيرة التوتر، سيما إعلانها ان منظومة الدفاع الجوية S-300 هي في طريقها لسورية، مما حفز قائد سلاح الجو "الاسرائيلي،" امير ايشيل، إلى اطلاق صفارات التحذير من ان "اندلاع حرب بشكل مفاجيء مرشح الحدوث عبر عدد من السيناريوهات الراهنة .. ومن شأن اشعال احداث غير مترابطة تصعيد الأمر بشكل سريع."

سيناريوهات جبهة الجولان

مستقبل تواجد قوات حفظ السلام التابعة الامم المتحدة في هضبة الجولان له فعل مؤشر هام على مسار الحرب المقبلة، سيما وان قوات الفصل الدولية (الأوندوف) المؤلفة من نحو 1200 عنصر لا يزال نطاق عملها قائما بمراقبة وقف اطلاق النار على الهضبة السورية منذ العام 1974. تداعيات الازمة السورية ترخي ظلالها على مستقبل مهمة القوات الدولية، التي تعرضت للمرة الثانية لاختطاف بعض افرادها من القوات الفيليبينية على ايدي المتمردين السوريين؛ اطلق سراحهم لاحقا لكن الحكومة الفليبينية اعربت عن نيتها لسحب الوحدة وعودتها إلى بلادها.
جل ما تخشاه "اسرائيل" ان يؤدي انسحاب قوات الامم المتحدة، أو بعض وحداتها، إلى عدم استقرار الأوضاع السياسية السائدة في هضبة الجولان، اسوة بالحدود المشتركة مع لبنان. الامر الذي يرجح من احتمالات قيامها بعمل عسكري.
قلة من المعنيين "الاسرائيليين" يخففون من وطأة وجدية التهديدات السورية، سيما الواردة على لسان وزير الاعلام السوري باطلاق قذائف صاروخية على مراكز التجمعات السكانية، بانها لا تعدو عاصفة صيف سرعان ما تتبدى. اما الحقائق والتدابير المتخذه تشير غير ذلك، في ضوء تصريحات متتالية لمن هم في قمة هرم القيادات العسكرية بأن "المستوطنين سيواجهون تحديات غير مسبوقة."
ما يعزز تنامي التوتر في الاتجاهين جاء عبر تصريحات متكررة لرئيس هيئة قيادة الاركان، بيني غانتز، في لقاء اجراها بجامعة حيفا حديثا، تم بثه على شبكة التلفزة المحلية، بتحذير سورية من انه "لا يستطيع ولن يسمح لمرتفعات الجولان التحول إلى منطقة مريحة للأسد."
قائد قيادة المنطقة الشمالية في الجيش "الاسرائيلي،" يائير غولان، اشار بوضوح إلى نيته التدخل بغية انشاء منطقة عازلة في الجولان. ان "احد التدابير التي ليس بوسعنا التغاضي عنها يكمن في انشاء منطقة عازلة دفاعية على الجانب الآخر" من خط وقف اطلاق النار، على غرار المنطقة العازلة سابقا في الجنوب اللبناني، موضحا ان اقامتها سيتم "عبر طرف سوري محأور ممن تتوفر لديه النية للتعأون معنا ضد العناصر الاخرى التي تشكل تهديدا لهم ايضا." وقفز غولان عن الخسائر البشرية العالية التي تكبدتها "اسرائيل" في اعتداءاتها على لبنان وخسارتها مراهنتها على توفير الاستقرار عبر تلك السياسة التي ادت إلى انكفائها عن جنوب لبنان.
الخبراء العسكريون في الجانبين يلخصون استراتيجية المواجهة بان الجانب "الاسرائيلي" سيعتمد على سلاح الجو بشكل مكثف، والجانب السوري سيستند إلى حرب استنزاف عمادها اطلاق الصواريخ بكثافة مما يستلزم الرد المضاد يؤدي إلى استدراج واستنزاف القوات المعادية، وربما توسيع رقعة الاشتباك التي قد تخرج عن سيطرة الطرفين عن الحد من نطاقها. كما من شأن اي توغل "اسرائيلي" في الاراضي السورية، كما تعود سابقا في لبنان، لن يكون نزهة وسيترتب عليه مخاطر هائلة للطرفين، وسيؤدي إلى استنهاض الحمية الوطنية السورية للدفاع عن الوطن، وربما تقويض حدة الازمة الداخلية وتوحيد بعض القوى المتضادة سابقا للرد على الاعتداء. كما لا ينبغي اهمال الضغط الشعبي الهائل المتوقع في كل من الاردن ومصر ومطالبته بالغاء الاتفاقيات المبرمة مع "اسرائيل،" والتي بدورها ستواجه مزيد من العزلة الدولية كطرف معتدي.

في السياق عينه ومن المسلم به ان "اسرائيل" لن تقدم على عمل عدواني ضد سورية دون الحصول على مباركة أو موافقة اميركية، سيما وان ادارة الرئيس أوباما بدأت تترنح من وطأة الفضائح السياسية التي تلاحقها داخليا، وقد تنظر لايجاد مخرج لحرف الانظار عن أزماتها الداخلية بالتوجه نحو ساحة خارجية. الامر الذي تجد تجلياته في السياسات الأميركية، لا سيما في حرب تشرين لعام 1973 حين وضع الرئيس المحاصر ريتشارد نيكسون القوات الأميركية على درجة عالية من التهيؤ والاستعداد لمواجهة تحركات الاتحاد السوفياتي، كما قيل، لصرف الانظار عن فضيحة ووترغيت التي باتت تطوقه من كل جانب.
بعض المصادر الاستخباراتية الأميركية تشير إلى "انشاء حزب الله مراكز للتدريب على حرب العصابات بالقرب من العاصمة السورية دمشق مهمتها استهداف الشق الإسرائيلي من هضبة الجولان." وأوضحت اسبوعية "دبليو ان دي بوليتيكس" الأميركية ان معسكرات التدريب "تضم مجموعات فلسطينية واخرى من القوات الخاصة السورية تنتظر الضوء الاخضر من الرئيس بشار الاسد لتنفيذ مهامها في القريب العاجل."
ارتبطت معركة حطين وللأبد بتحرير مدينة القدس (1187) من الاحتلالات الأوروبية الاجنبية، بعد طول تمزق وشرذمة وتشظي وتآمر الإخوة الأعداء؛ وتكرس الانتصار بعد نكستين متتاليتين وتوحيد وجهة البوصلة النضالية نحوها. إعلان سورية بفتح جبهة الجولان أمام المقاومة المسلحة، فضلا عن خيار الدولة السورية بانها أضحت دولة مقاومة وليست داعمة لها فحسب، يواكبه انتصارات ميدانية حاسمة وذات أبعاد استراتيجية على القوى المعتدية، من شأنه تعديل البوصلة النضالية مجددا ووضع نهاية طريق الهزائم والتشرذم وتبديد الثروات الطبيعية والإنسانية خدمة لأطراف خارجية متعددة.