ماذا حدث للمصريين بعد عام من التعويم؟
انقضى عام على حدث من أهم الأحداث الاقتصادية التى شهدتها مصر خلال العقود الماضية، حيث أقدمت السلطة الحاكمة على تعويم الجنيه فى سبيل الحصول على قرض 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولى؛ لعلاج الخلل المزمن فى موازنتها المالية، وما نتج عن ذلك من تداعيات كان أهمها الارتفاع المتتالى لكل الأسعار، وخاصة مع إقدام الحكومة على زيادة أسعار المنتجات البترولية والكهرباء والمياه.
وفى المجتمعات الرشيدة لا بد من دراسة آثار هذه السياسات ومدى صحة التوقعات عن النتائج المستهدفة من هذه السياسات، وليس مجرد إطلاق التصريحات عن تأخر هذه القرارات ثم عن نجاح الإصلاح الاقتصادى الذى تطلب هذه القرارات، وسنحاول أن نرصد آثار هذا التعويم على المواطن.
الأثر المباشر لتعويم الجنيه كان بالطبع انخفاض قيمة الجنيه وتدهور القدرة الشرائية له حيث احتاج المواطن لأكثر من الضعف للنقود لكى يشترى نفس ما كان يشتريه قبل التعويم، وبالتالى حدث خلل كبير فى العلاقة بين الدخل والأسعار، حيث انهار النظام الذى كان يربط بين الأجور والأسعار حيث يتحدد الأجر وفقا للمستوى العام للأسعار وحجم الدعم الذى يحصل عليه المواطن، وهو ما أدى إلى انخفاض مستوى المعيشة لكل المواطنين، وهو ما أدى إلى ما يلى:
أولا: بالرغم من تأثر الجميع بهذا الغلاء فإن القدرة على مواجهته تختلف من طبقة لأخرى تبعا لنفوذها وما تمتلكه من ثروة، حيث ازداد انقسام المجتمع تبعا للفقر والغنى، ومع زيادة نسبة الفقراء اختلفت طبيعة تعامل كل فئة تجاه طوفان ارتفاع الأسعار؛ فالفقراء بكل مستويات الفقر لم يجدوا أمامهم سوى الترشيد وخفض الاستهلاك، أما الطبقة الغنية وهى لا تمثل أكثر من 1% من السكان فلها نمط حياتها الذى تحاول فيه أن تقلد سلوكيات مجتمعات الرفاهية، وبالتالى لها نوعيات المنتجات التى تستهلكها وهى فى أغلبيتها مستوردة، وتتعالى على المنتجات المصرية، وبالتالى فمع تعويم الجنيه وزيادة أسعار المنتجات المستوردة، فإنها تستمر فى نمط استهلاكها وقد تعتبر هذا نوعا من التفاخر والتظاهر وبيان أنها على درجة من الغنى بحيث لم يؤثر فيها الغلاء، وللتدليل على ذلك اقرأ عن حفلات الغناء على الشواطئ الخاصة فى الساحل الشمالى وأسعار تذاكرها، واذهب إلى المولات التجارية لتشاهد حركة البيع لهذه الفئة وما زالت الشوارع تعج بالسيارات رغم ارتفاع سعر البنزين مرتين، وبالتالى فهى قد تشتكى من عدم توافر سلعة مستوردة ولكنها قادرة على الدفع لشراء احتياجاتها، وهكذا فهى لا تحتاج إلى ترشيد الاستهلاك بل تشتكى على سبيل التفاخر أن كيلو اللحم أصبح سعره 200 جنيه.
هذه الفئة الغنية قد حصلت على ثروتها من التجارة واحتكار الأسواق ولها من النفوذ بحيث تفرض أسعارها وتتهرب من دفع ضرائبها، ففى تصريح لرئيسة مصلحة الضرائب العقارية أن أكبر ممول للضريبة العقارية سدد 40 ألف جنيه عن العقارات المملوكة له والتى تقترب قيمتها من 30 مليون جنيه، وبما أن تصريحات مسئولى صندوق النقد الدولى تتقبلها الحكومة وترى أنها عين الصواب، فعليها أن تقرأ تصريح رئيس بعثة الصندوق إلى مصر بأن مصر من أقل الدول فى معدلات الضرائب مقارنة بدول أخرى، وأن المطلوب بحث سبل زيادة الموارد الضريبية لتوفير التمويل لبرامج الحماية الاجتماعية.
***
ثانيا: أكثر الفئات تضررا من الغلاء أصحاب الدخول الثابتة كالموظفين وأصحاب المعاشات، وهؤلاء لم يستفيدوا عمليا من زيادة الدخول التى قررتها الحكومة من حيث زيادة المقررات التموينية ومنح العلاوات، حيث التهم الغلاء المستمر أثر هذه الزيادة، بينما كبار المنتجين والتجار هم الذين استفادوا من هذا الغلاء، وبالرغم من الحديث عن نقص الطلب فإنه لا توجد إحصائيات دقيقة عن حجم الطلب وتوزيعه على الفئات المختلفة، وفى علم الاقتصاد هناك ما يسمى بمرونة الطلب المنخفضة على السلع الضرورية بحيث يقل الطلب بنسبة صغيرة مع ارتفاع الأسعار لعدم قدرة المستهلك على التخلى عن هذه السلعة، وبالتالى تكون المحصلة أن يستفيد البائع من زيادة الأسعار رغم انخفاض الطلب.
ثالثا: وقع المواطن المصرى المطحون بين شقى الرحى، فالحكومة من ناحية تزيد أسعار الخدمات والسلع البترولية وتؤدى سياساتها إلى خلق أزمات فى السلع الأساسية (السكر والأرز مثلا)، ومن ناحية أخرى يفرض المنتجون الكبار زيادات مستمرة فى أسعار السلع التى يتعايش عليها المواطن، ونتيجة لهذه الضغوط التى يتعرض لها المواطن الفقير فلقد انعكس ذلك على التغيرات فى أنماط الاستهلاك، حيث التحول إلى السلع الأقل سعرا وكل حسب قدراته، فهناك من تحول لاستهلاك هياكل الطيور بدلا من شراء دجاجة، وارتفع الاستهلاك من النشويات والبقول بديلا للبروتين الحيوانى وخاصة مع ارتفاع أسعار الأسماك، وهو ما يؤدى إلى ضعف الصحة العامة وانتشار ظاهرة التقزم بين الأطفال (لاحظ اتجاه أطوال غالبية المصريين إلى قصر القامة) ونتيجة لانخفاض القيمة الشرائية للنقود انخفضت كمية سلع الغذاء والحرص على بواقى الطعام وقد يكون هذا أحد السلوكيات السليمة والتى عرفناها نتيجة ضيق ذات اليد.
***
رابعا: وفى غير المأكل أدى انخفاض القوة الشرائية للدخل النقدى إلى خفض الاستهلاك من كل السلع والخدمات مثل الملابس والترفيه، ما أدى إلى شيوع حالة من القنوط والكآبة بين المصريين، تلاحظها فى تكشيرة الوجوه وسرعة الانفعال والرد العنيف على الآخرين، فلم نعد نحتمل بعضنا بعضا، والحديث الوحيد على لسان الجميع هو كيف يوفر أدنى الاحتياجات فى ظل هذا الغلاء الذى لا ينتهى.
خامسا: كذلك تغيرت أحوال الطبقة الوسطى التى كانت تسعى من خلالها إلى بعض السلوكيات المميزة لكى تكون فى وضع اجتماعى أفضل نسبيا، وهو ما نسميه بالحراك الاجتماعى؛ حيث تحاول أن تلحق بالشريحة الأعلى من خلال إلحاق أبنائها بمدارس اللغات وشراء سيارة وغير ذلك من مظاهر التميز الاجتماعى، ولكنها لم تعد قادرة على ذلك، ووجدنا الكثيرين يحاولون نقل أبنائهم إلى مدارس تجريبية تابعة لوزارة التعليم، بل وجدنا طلاب الجامعة الأمريكية يتظاهرون ويهتفون أن (أباءهم مش حرامية) نتيجة ارتفاع المصروفات، فإذا كان هؤلاء الذين يدفعون عشرات الآلاف يتظاهرون لعدم قدرتهم على دفع الزيادات نتيجة زيادة سعر الدولار، فماذا يكون حال من هم أقل منهم دخلا.
سادسا: وعلى هذا المنوال نجد التغيرات فى جميع أنماط الاستهلاك، حتى الصحة فمن كان يذهب إلى طبيب عند شعوره بأية أعراض مرضية، أخذ يبحث عن دواء لمجرب بدلا من الذهاب لطبيب ودفع قيمة الكشف التى ارتفعت هى الأخرى، كما زاد الضغط على الجمعيات الخيرية لطلب العلاج والدواء، وبالطبع فلا يمكن أن تستطيع الجهود الخيرية مواجهة الطلب المتزايد عليها، ونتيجة كثرة اللاجئين إلى الجمعيات الخيرية ولكى يحظى الفقير بالحصول على طلبه رأينا شيوع المسكنة والمذلة عند الطلب وهى من أخطر المظاهر فى تكوين المجتمع، وأعتقد أننا جميعا نلاحظ زيادة أعداد المتسولين فى الشوارع ودخول فئة جديدة لميدان التسول فى المساجد مما يطلق عليهم (عزيز قوم ذل).
***
سابعا: ويظل السؤال ماذا يفعل المواطن عندما ترتفع الأسعار ولا يستطيع دخله مواجهة هذه الزيادة، الوسيلة الأولى التى سيحاولها هى محاولة زيادة دخله بأية وسيلة، ووجدنا أن كل من يقدم خدمة قام بزيادة ما يريد من نقود مقابل ما يقدمه من خدمة، بداية بالطبيب والمحامى وانتهاء بالعمالة والحرفيين، وهناك فئات مثل القضاء والأمن نقرأ عن زيادات فى المكافآت والبدلات دون معرفة التفاصيل، وبالتالى يزداد تشوه هيكل الأجور فى المجتمع، كما أدى التعويم وارتفاع الأسعار إلى المزيد من الفساد المكشوف، ولم يعد أحد يستحى من ذلك ما دام قادرا على الحصول عليها، والكل لديه المبرر بزيادة الأسعار، ومن مظاهر الفساد التى تفشت حالات غش الغذاء، ومثالا لذلك الكشف المستمر على جريمة بيع لحوم الحمير استغلالا لعدم قدرة المواطن على دفع سعر مرتفع فيقدمون له سلعة فاسدة أو مغشوشة بسعر يستطيع دفعه.
ثامنا: من نتائج التعويم وزيادة الأسعار وعدم قدرة الدخول على توفير الاحتياجات، الزيادة فى عمليات بيع الأعضاء، وأصبحت هناك تجارة وسوق تزداد اتساعا لذلك، غير عصابات التسفير للخارج وخطف الأطفال وغير ذلك من جرائم تزداد نتيجة الفقر وسوء الأحوال المعيشية.
وهكذا نجد أن التعويم قد أدى لتزايد صعوبة الأحوال المعيشية، وما نتج عن ذلك من تفشى ظواهر العنف والفساد والتسول، فإذا لم تنتبه الدولة للآثار السلبية لتعويم العملة على سلوكيات المواطنين ويظل المسئولون يرددون الشكر والتقدير للمصريين الذين يتحملون ارتفاع الأسعار، بينما القاع يغلى ومظاهر الانفلات السلوكى تتزايد، مما يؤدى فى النهاية للمزيد من الأزمات التى لا يعرف إلا الله إلى أين تذهب بنا.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني