الصين يجب أن تهمنا أكثر
في اليوم الرابع والعشرين من شهر أكتوبر، أي فى اليوم الأول لانعقاده قرر المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني إضافة «فكر شي جينبينج عن الاشتراكية بصفات صينية لعهد جديد» إلى مجموعة المبادئ الأساسية والمعتقدات التاريخية التى تقوم عليها فلسفة الحزب. المعنى كبير والمغزى عميق.
صدور قرار عن أهم مؤتمر يعقده أهم حزب سياسى فى العالم هو فى حد ذاته تطور هام. أما وأن يصدر فى اليوم الأول فمعناه أن كل ما عرضه ويعرضه الرئيس على المؤتمر كإنجازات حققها فى عهده الأول ومشروعات ينوى تنفيذها فى عهده الثانى فجميعها صارت فى حكم الفكر المحصن حصانة لم يتمتع بها من قبل سوى فكر الرئيس ماو تسى تونج وفكر خليفته الرئيس دنج شاو بينج. واقع الأمر أن الرئيس دنج خليفة الرئيس ماو لم يحظ بالشرف الذى حظى به الرئيس شى، وهو تشريفه وهو حى يرزق بإعلان فكره جزءا من المبادئ الرئيسة للحزب، إنما بعد خروجه من السلطة. بمعنى آخر يصبح الرئيس شى أحد اثنين فى طابور الخالدين بسلطان لم يتوافر لأى من الرؤساء الذين جاءوا إلى الحكم بعد وفاة الرئيس ماو. فى الوقت نفسه وبهذا التمجيد أصبح فكر الرئيس شى جينيبنج فى الاشتراكية يأتى الرابع بعد كارل ماركس وفلاديمير لينين وماوتسى تونج. هو الآن فى حكم المرجعية الأيديولوجية للنخبة الحاكمة فى الصين مثله مثل الرئيس ماو.
***
هذا التطور يعرف قدره وأهميته السياسية حق المعرفة أعضاء الحزب الشيوعى الصينى وكبار البيروقراطيين وقادة الجيش والخبراء الأجانب فى الشئون الصينية ومخططو السياسات الخارجية فى الدول الكبرى، هؤلاء جميعا يجمعهم الآن الاهتمام المشترك بدولة على مشارف العظمة ورئيس لها يتمتع بسلطات تكاد تكون غير محدودة، بل أسطورية فى بعض جوانبها، يقود حزبا سياسيا تجاوز عدد أعضائه رقم 89 مليونا وشعبا بنسبة ربع سكان الأرض ويحظى بنفوذ داخلى غير مسبوق، على الأقل منذ وفاة الرئيس ماو. هذا النفوذ لن يأخذ وقتا طويلا قبل أن ينعكس نفوذا إقليميا ثم دوليا.
***
أتصور أن المعنيين بصنع السياسة الخارجية فى دول عربية يجمع بينها القلق على مستقبلها سوف يبذلون جهدا أكبر لتقدير أهمية التطورات الجارية فى الصين وانعكاساتها على خططها ورؤاها. نتكلم كعرب، كثيرا عن الصين ولا نفعل معها أو بها شيئا مهما. تزورها الوفود وفى أحسن الأحوال يعود أعضاؤها منبهرين، وفى أسوأ الأحوال يعود كبار المسئولين حاملين حسدا وغيرة واقتناعا زائفا بأنه بالقمع وحده تتحقق المعجزات، ينسون كل شىء آخر ويعودون إلى أحضان أصدقائهم الغربيين. حاولت كثيرا معرفة سبب النفور وفشلت. كنت صغيرا حين بث فى عقلى المعلمون والأهل ثقافة الانبهار باليابان، وكنت شابا حين قوبل بالاستهجان من زملائى ابتهاجى بقرار نقلى للعمل فى الصين فى مرحلة لعلها من بين الأصعب فى تاريخ الشعب الصينى بل وتاريخ أى شعب. نهضت الصين وظلت الطبقات الحاكمة والمتعلمة فى بلادنا تعتبر الصين دولة، مثلنا، متخلفة. تنتج سلعا رخيصة. لن تنتج أفلاما كأفلام هوليوود ولا حتى بوليوود. لم تبدع موسيقى على النمط الكلاسيكى الأوروبى.
***
دولة إن هى حقا أبدعت فقد أبدعت فى التقليد. هنا يجب علينا أن نتوقف مرة أخرى أمام إعلان المؤتمر التاسع عشر تبنيه إنجازات وتعهدات الرئيس شى باعتبارها فكرا اشتراكيا بصفات صينية. هذا الإعلان لم يأت من فراغ. أذكر أن الرئيس شى طرح عبارات مماثلة فى مناسبات ودول عديدة زارها خلال عهده الأول، أهمها كان الطرح فى مؤتمر دافوس حين وعد بعولمة تصوغها الصين وتقودها. تتفادى فى إدارتها سلبيات ونقاص العولمة الرأسمالية الأمريكية. عولمة تتصف بصفات صينية. أعرف أن المسئولين فى الحزب الشيوعى الصينى عن قطاع السياسة الخارجية الصينية قضوا السنوات الأخيرة يجرون التجارب على هذه الفكرة، فكرة العولمة بصفات صينية، أعرف أيضا أن الحزب لم يتبنها جزءا من فكر الرئيس شى ولم يحلها كسياسة عامة إلى بيروقراطية الدولة للتنفيذ إلا بعد أن اطمأن إلى صلاحها ونجاعتها عبر التجريب فى ثلاثة مواقع على الأقل. جربوها فى باكستان فى مشروع ميناء جوادار وجربوها فى مشروع خط سكة حديد شرق أفريقيا وجربوها فى مشروع إنشاء أول قاعدة خارجية متعددة الأغراض فى جيبوتى.
***
دبلوماسيونا وصانعو سياساتنا الخارجية لا بد أنهم استعدوا بالخطط والأفكار للحظة الالتقاء بجانب أو آخر من جوانب خطة الصين فى السنوات القادمة ولا أقول خطتها طويلة الأمد للعقود القادمة كما جاءت لمحات عنها فى كلمات قادة الحزب فى المؤتمر. هنا لا أشير إلى الاستثمارات وصفقات الإعمار العملاقة وحتى الصغرى وشبكات نقل داخلية وشبكات تربطنا بأفريقيا وآسيا وتمتد غربا على الساحل حتى طنجة، فهذه تضم بعضها ملفات يحملها أعضاء الوفود معهم فى رحلاتهم الروتينية إلى الصين، و يعودون بها وأغلبها لم يجر تحديثه منذ سنوات وبعضها لم يفتح. إنما أشير إلى أمور وقضايا تبدو للكثيرين بعيدة أو غير جوهرية. كانت بالفعل بعيدة عندما كانت الصين ترتقى سلم القيادة والنفوذ الدولى بتدرج وحرص شديدين، وكانت بالفعل غير جوهرية عندما كانت مصائرنا معلقة بمصير دول الغرب ولا مكان فى قلوبنا وعقولنا للصين أو لغيرها، وعندما انكفأنا على أنفسنا لعقدين أو أكثر فقدنا فيها معظم أرصدتنا الخارجية الناعم منها والصلب. لا أشير إلى الماضى أو حتى إلى واقعنا الراهن بين دول العالم، وإنما أشير إلى مستقبل مصر فى الشرق الأوسط، مجالها الحيوى بالمعنى الطيب لهذا التعبير، وأشير فى الوقت نفسه إلى الدور الذى تستعد الصين للقيام به فى هذا الإقليم. يعرفون فى بكين أن دولا عظمى وإمبراطوريات احترقت أطرافها فى الشرق الأوسط أو بدأ فيه انحسارها. لن تتدخل إلا بعد أن تهدأ النيران المشتعلة وتخمد شهوة القتل والتخريب وينتهى عصر الكنوز والثروات الطائرة. أظن أنها لن تلعب فيه منفردة ولن تدخله بدون الاستعانة بقوى إقليمية نافذة ومؤثرة. أرشح مصر شريكا أصيلا ومستقلا. يدفعنى أمل أن تكون مصر قد تخلصت من قيود داخلية تحد من قوة اندفاعها وتحللت من قيود وتحالفات خارجية تشتت أفكارها وتبعثر طاقتها وتشدها شدا نحو لعب أدوار ثانوية.
***
تستطيع سياستنا الخارجية أن تكون الواسطة لنقل أبلغ الدروس. إحدى أهم مشكلات بلادنا صعوبة تجديد النخبة الحاكمة بدون اللجوء إلى العنف. استطاع الرئيس شى خلال عهده الأول، أى خلال خمس سنوات، التحقيق مع أكثر من مليون قضية فساد فى مستويات السلطة. بهذا المعنى يستطيع الرئيس إحداث تغييرات دورية فى تركيبة النخبة الإدارية ونخب الحكم وفى الوقت نفسه تطهير أجهزة الدولة من الفساد. أضف إلى ذلك أن قواعد عمل الحزب تقضى بضرورة التغيير الدائم فى شغل الوظائف القيادية. الرئيس يقضى فى الحكم دورتين يتعين عليه فى نهاية المرحلة الأولى اختيار خليفته الذى سيقضى معه دورة كاملة. هكذا تتحقق الاستمرارية فى الخبرة فى الشئون الدولية فلا يتولاها من لم يمارسها قولا وفعلا قبل أن يحمل مسئوليتها.
***
يتعهد الرئيس شى جينيبنج بأن سياسته الخارجية سوف تنحاز إلى جانب الفقراء والشعوب المظلومة. تعهد أيضا بأن الصين سوف تسعى لبناء نظام دولى جديد يحترم مبادئ العدالة وعدم التدخل. يفهمون فى الصين مبدأ النظام الدولى العادل بأنه النظام الذى تتوازن فيه قوة الدول العظمى، ويسعى لإزالة الفقر. خوفنا الوحيد نابع من أن الصين قوة هائلة تقف الآن وستقف لوقت غير قصير منحازة ضد حقوق الإنسان السياسية والأخلاقية. بمعنى آخر سوف تجد فى الشرق الأوسط من يرحب بها من نخب الحكم على اختلاف مشارفها ومن يعاملها من ممثلى الشعوب وبخاصة الأجيال الشابة ببرود إن لم يكن بعداء وشكوك وكراهية.
***
قيل فى المقارنة بين الرئيس ماو تسى تونج والرئيس شى وفى مجال التعليق على خطاب الأخير فى المؤتمر التاسع عشر للحزب، قيل إن الرئيس ماو كان لديه الطموح لقيادة العالم ولم تكن لديه الإمكانات، أما الرئيس شى فلديه الإمكانات اللازمة لملء مقعد القيادة الدولية، وهو شبه فارغ الآن، ولكن لا يوجد لديه الطموح. أعتقد، بعد مراجعتى لخطاب الرئيس الصينى واطلاعى على بعض أوراق المؤتمر وآراء المتخصصين، أن الصين جاهزة بالطموح وهى فى انتظار الحدث المناسب.
*عن «الشروق» المصرية
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني