الانتخابات الأرجنتينيّة: اليسار الراديكالي يقدّم البديل الوحيد
تشير الانتخابات النصفيّة في الأرجنتين في جولتها الأولى إلى الاستقطاب المتزايد في البلاد. عزز الائتلاف اليميني بقيادة الرئيس ماكري موقعه بهزيمته "البيرونيين" في كلّ مقاطعة. وجّه اليسار في الوقت ذاته إلى الناخبين من طبقة العمّال الذين هجروا بشكل متزايد الحركة "البيرونيّة" إلى برنامج راديكالي مبنيّ على تقليل عدد ساعات العمل وربط الأجور بكلفة المعيشة.
تعريب وإعداد: عروة درويش
وراء التقدم غير المتوقع لليمين:
صوّت الأرجنتينيون في الجولة الأولى من الانتخابات النصفية، وهي أول انتخابات منذ أصبح الملياردير ورجل الأعمال الكبير ماوريسيو ماكري رئيساً قبل عام ونصف. لقد كان عرضاً قوياً غير متوقع لتحالف ماكري اليميني (كامبيموس – دعونا نغيّر) ولحلفائه من المرشحين عبر البلاد. لقد تفوّق اليمين في كلّ مقاطعة كبيرة على يسار الوسط، أي على تحالف "وحدة المواطنين" المرتبط بالرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر. لقد كان نجاح اليمين مفاجئاً حقّاً في المقاطعات الداخلية في البلاد التي كانت البيرونية مهيمنة فيها تقليدياً.
ولكي نفهم تقدم اليمين فإنّ علينا أن نتفحص الإخفاقات الكثيرة لكريستينا كيرشنر وزوجها الراحل نيستور الذي سبقها كرئيس يهدف للفوز بمكاسب كبيرة للفقراء والعاملين في الأرجنتين. أثناء حكومة كيرشنر التي استمرّت 12 عاماً، وعلى الرغم من الخطاب حول حقوق الإنسان والتقدمي، فقد نفذت الحكومة برامج تقشفية جديدة وأرسلت الشرطة لقمع العمّال المضربين. لم تكن برامج كيرشنر الاجتماعية المتواضعة، مثل المبالغ النقدية للعاطلين عن العمل، كافية لمقارعة التضخم المتزايد جداً والأزمة الاقتصادية العميقة التي بدأت عام 2014. تركت كيرشنر الرئاسة وسط معدل فقر يبلغ حوالي 30%.
وقد فشل تيّار كيرشنر كمعارض لحكم ماكري أيضاً في تشكيل تحدٍ مجدٍ لبرنامج الحكومة النيوليبرالي الجديد. لم يحشد ملايين العمال الذين تعاطفوا مع "البيرونية" في الشوارع ولم يدعو النقابات لبدء معركة لإنهاك اليمين. وفي هذا السياق، وفي خضم الأزمة الاقتصادية العميقة، بدأت البيرونية تفقد شرعيتها. لقد أدّت الأزمة المستمرّة منذ ثلاثة أعوام إلى تقلّص قطاعات الطبقة الوسطى وعصرها ليتحوّل العديد من الذين كانوا يصوتون "للبيرونيين" في الماضي عنهم. الطبقة الوسطى هي من شكّلت قاعدة حركة ماكري اليمينيّة.
ماكري يضع عوائق جديدة أمام العمّال:
لقد طبّق ماكري منذ توليه منصبه الإجراءات التقشفية بشكل أكبر. لقد قاد الرئيس والسياسيون المتحالفون معه الهجوم على الطبقة العاملة والفقراء في محاولة تحميلهم وزر الأزمة الرأسمالية الحاليّة. لقد تمّ تسريح 200 ألف عامل في حقبة ماكري حتّى الآن في جميع أنحاء البلاد. لقد بلغ معدل البطالة الرسمي 9.2% في الربع الأول من عام 2017، مع عدم احتساب عدد كبير من العمّال في هذه النسبة ممّن يئسوا من إيجاد عمل.
كما شهد العمّال على رأس عملهم تراجعات كبيرة في مستويات معيشتهم في ظلّ حكم ماكري. فمع ارتفاع نفقات المعيشة، انخفضت أجور العمّال الحقيقية بنسبة 6.5% عام 2016. يقدّر بأنّ ما يقرب من 50% من العاملين بأجر قد جنوا أقل من ثمانية آلاف بيزو (450 دولار) شهرياً في العام الفائت، وهو ما يشكّل 40% من كلفة المعيشة في البلاد (تقدّر كلفة المعيشة ب 1.130 دولار شهرياً). وقد استخدم أصحاب العمل أثناء ذلك الأزمة كعذر لتمديد أيام العمل وخفض الرواتب وتكثيف سرعة الإنتاج. وقد انتشرت ممارسات كالعقود المؤقتة والاستعانة بمصادر خارجية والعمالة غير المسجلة. يعمل أكثر من ستّة ملايين أرجنتيني الآن "دون تسجيل"، حيث لا عقود لهم ولا حماية ويتعرضون لكلّ أنواع الإساءة التي يرتكبها أصحاب الأعمال بحقهم.
موقف راديكالي:
ردّاً على الأزمة الحالية، اقترحت جبهة اليسار والعمال "frente de Izquierda y de los Trabajadores" – وهي ائتلاف انتخابي مكوّن من ثلاثة أحزابٍ اشتراكية – المطالبة بتخفيض يوم العمل إلى ست ساعات دون أيّ تخفيض في الراتب. ودعوا في الوقت نفسه إلى تقسيم ساعات العمل المتاحة بين جميع العمال، الموجودين على رأس عملهم والعاطلين عن العمل. ويتولّى هذا الأمر حلّ مشكلة البطالة المتزايدة وأيام العمل الأطول بالنسبة للعاملين على رأس عملهم. وقد جيّش مرشحو جبهة اليسار الناس من أجل تحقيق هذا الأمر في المصانع وأماكن العمل والمداس الثانوية والجامعات. كما تمّ إبرازه بشكل دائم في مواقع الحملة التي تدار على التلفاز والتي تمّت مشاركتها بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد عبّر الشعار بوضوح عن مئات آلاف العمال والشباب. لقد فازت "جبهة اليسار" التي تضم حزب العمال الاشتراكي وحزب العمّال واليسار الاشتراكي بقرابة 4% من مجموع الأصوات الكلي. وعند أخذ بقيّة الأحزاب والائتلافات اليسارية في الحسبان، فإنّ 7% من الناخبين قد صوتوا لصالح اليسار. ربحت الجبهة لوحدها في مقاطعات مثل ميندوزا وسانتا كروز وخوخوي ما يتراوح بين 8% إلى 12.5% من الأصوات الكليّة.
لا يمكن لغير حكومة عمّالية أن تقدّم مخرجاً من الأزمة. إنّها تظهر بأنّ الرأسماليّة غير قادرة على تخطي تناقضاتها. إنّها تحتاج، كما أشار ماركس، إلى جيش دائم من العاطلين عن العمل. أمّا الاقتصاد المخطط من ناحية أخرى سيكون قادراً على توفير فرص العمل لجميع العمّال بأجور يصلح للعيش، مع توفير كامل احتياجات أولئك غير القادرين على العمل، مثل المتقاعدين والمعوقين والأطفال ومقدمي الرعاية ...الخ.
إنّ قانون تحديد فترة العمل بثماني ساعات ساري في الأرجنتين منذ 1929. بمعنى آخر: لم يشهد العمال في الـ88 عام الماضية، رغم كلّ التقدم التكنولوجي الذي حدث خلال هذه الأعوام، أي انخفاض في وقت العمل. إضافة إلى أنّ العمال يعملون في العديد من المجالات لفترة أطول بكثير من 40 ساعة في الأسبوع. تتراوح من 43.8 ساعات أسبوعياً في قطّاع الصناعات التحويلية، و51.7 ساعة أسبوعياً في قطّاع النقل، و57.6 ساعات أسبوعياً في قطّاع المناجم. يشكّل عمّال مترو بوينس آيروس استثناءً من هذه الموضة، فقد فازوا بالعمل 6 ساعات يومياً بعد نضال شجاع وصعب في 2004. وتحاول إدارة مترو الأنفاق رغم ذلك أن تعكس هذه المكاسب عبر الاستخدام الواسع لعمّالة متعاقدة من الباطن.
القوة السياسية الوحيدة للعمّال:
يعرف مرشحو جبهة اليسار الظروف التي تواجه المنتمين للطبقة العاملة بشكل مباشر. إنّهم ليسوا أثرياء وممتهني السياسة الموجودين في تحالف "كامبيموس" أو "وحدة المواطنين" وبقيّة أحزاب الطبقة الحاكمة. ففي كلّ سباق انتخابي في البلاد كان المرشحون هم من العمّال والمدرسين والناشطين. في مقاطعة خوخوي: قاد أليخاندرو فيلكو المرشحين، وهو عامل نفايات عضو في حزب العمّال الاشتراكي منذ وقت طويل. في نيوكن: ترشّح راوول غودوي عن الائتلاف، وهو عامل مناضل في مصنع زانون للنسيج المسيطر عليه من قبل العمّال. في ميندوزا: تمثّل جبهة اليسار المدرّسة السابقة نويليا باربيتو كعضوة في مجلس الشيوخ التشريعي في المقاطعة.
كما أنّ العمل النضالي لهؤلاء لا يقتصر على موسم الانتخابات. لقد كان أعضاء الأحزاب التي تشكّل جبهة اليسار من بين عمّال شركة "بيبسيكو" ومؤيديهم الذين قادوا كفاحاً شجاعاً هذا الصيف ضدّ إغلاق المصنع. لقد وصل العمّال إلى المصنع في وقت مبكر من صباح يوم الأربعاء في حزيران الماضي، ليتفاجأوا بأنّه تمّ إغلاقه بين عشيّة وضحاها محولاً عمّاله البالغ عددهم 600 إلى عاطلين. الذي ميّز عمّال بيبسيكو عن غيرهم ممّن تعرضوا لحالات مماثلة هو أنّهم قرروا أن يقاتلوا. احتلوا المصنع وواجهوا حتّى الشرطة من أجل الدفاع عن أعمالهم. لقد تعرّض عمّال بيبسيكو مثل ملايين الأرجنتينيين لسياسة إدارة ماكري التي حاولت تحميل العمّال وزر الأزمة، أثناء ضمانها للرأسماليين، ومن بينهم الشركات المتعددة الجنسيات مثل بيبسيكو، مواصلة جني الأرباح خلال الانكماش الاقتصادي. لقد ترشّح العديد من العمّال عن الجبهة من أجل الانتخابات البلدية.
كما لعب المرشحون اليساريون أيضاً دوراً محورياً في قيادة مظاهرات ضخمة ضدّ الاختفاء المخزي للناشط الشاب سانتياغو مالدونادو الذي حدث قبل أسبوعين من الانتخابات. كان مالدونادو في وقت اختفائه يناضل مع شعب مابوتشي الأصلي ضدّ إخلائهم من أراضي أسلافهم التي تريد شركة بينيتون متعددة الجنسيات الاستيلاء عليها مع حرس الحدود.
وكما صاغ باربيتو الأمر، فإنّ حملة جبهة اليسار تهدف "إلى إيصال صوت من لا صوت لهم إلى السلطة التشريعية، وإلى الإعلان بشكل علني عن صعوبة حياة ملايين الذين استهدفتهم إجراءات التقشف، وإلى التحدّث باسم الشباب الذين يسرق مستقبلهم عنهم، ومن أجل العوائل التي تركت في الشوارع بسبب تسريح العمّال".
أمثولة للعالم:
تشير ظاهرة ماكري إلى محاولة تعميق الاختراق الإمبريالي للأرجنتين. رغم أنّ حكومة كيرتشنر لم تقدم تغييراً حقيقياً، إلا أنّ التوتّر بينها وبين الدول الإمبريالية استمرّ في مناسبات مختلفة: مثل الصراعات حول "صناديق التمويل البخسة" الخاصّة بعودة جزر مالفيناس. أمّا ماكري فكان بدوره أكثر تصالحاً مع القوى الكبرى، وينفذ بكل طيبة التعديل الهيكلي الذي يطالب به صندوق
ويقوم على نحو طيب بتنفيذ التكييف الهيكلي الذي يطالب به صندوق النقد الدولي وغيره من مؤسسات رأس المال الأجنبي. ولذلك وليس من قبيل المصادفة أنه تلقى تهاني ترامب من البيت الأبيض على نجاح ائتلافه في الانتخابات. وقد أشاد نائب الرئيس مايك بينس "بجدول أعمال الإصلاح الجريء" الذي قدّمه ماكري وقال بأنّه في ظلّ الإدارة النيوليبرالية الجديدة "فإنّ الأرجنتين تعدّ بطرق كثيرة مصدر إلهام عبر نصف الكرة الأرضية هذا، وكذلك في أنحاء العالم جميعها".
إنّ بينس محق في أنّ للأرجنتين أن تكون مصدر إلهام في جميع أنحاء العالم، ولكن لن تكون "الإصلاحات" التي تسبب البؤس للملايين والثروة الفاحشة للمستثمرين الأجانب ومتعددي الجنسيات هي السبب. بل ستكون روح كفاح الطبقة العاملة الأرجنتينية والشعوب المضطهدة هي السبب. بدءاً من مناضلي مصانع بيبسيكو ووصولاً إلى مناضلي أراضي التشوبوت، هؤلاء هم من سيلهمون زملائهم العمّال في جميع أنحاء العالم.
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني