تلك الفئران التي تقرض قواعد السفينة!
هل نحن أمام عُصبة منظّمة تسعى إلى إحداث انقلاب فكري وثقافي كامل ، يطول العقيدة الوطنية والخصوصّية الوطنية، والتاريخ الوطني والقومي ، بادئة بإشعال النار في أخصب مراحل هذا التاريخ ورموزه الكبرى، وزر رماد حرائقها في عيون الناس عبر هذه الشاشات المشتراة المباعة، لنشر حالة عامة من عدم اليقين، تنتهى بالإصابة بعمى استراتيجي؟
أظن أن شيئاّ من ذلك يحدث، وأنه لا يجرى بالهوى الذاتى ، ولا بالبحث عن الشهرة ، ولا يستهدف كسب مشاهدين جدد لساحات إعلامية بائسة وجهولة ، ولا أظنه – أيضاً – من قبيل إشغال الناس بعيداً عن إحتقان ظروفهم اليومية والمعيشية ، بافتعال قضايا تشبه البالونات الكبيرة الملونة المملؤة بغازات سامة ، لتخطف الأبصار ثم تنفجر فى الصدور ، ذلك أمراً كذلك يبدو بعيداً عن سلطة العقل ، لأنه يعبّر عن تكتيك مضاد للإستراتيجية الوطنية ، فإذا كانت هذه الإستراتيجية هى إستراتيجية بناء ، فهذا تكتيك هدم ، وإذا كانت إستراتيجية تحرير واستقلال ، فهذا تكتيك استعمار وتبعيّة ، وإذا كانت إستراتيجية توحّد و تعبئة ، فهذا تكتيك إنقسام واحتراب ، ولا أظن أن عقلاّ وطنياً أيا كانت مداركه وثقافته يمكن أن يهبط إلى هذا الدرك الأسفل من غياب النزعة الوطنية العامة ، بل والدعوة من فوق منابر الإعلام إلى استئصالها من عقول الناس ومن أفئدتهم .
ولا أظن كذلك أن عقلاً وطنياً يمتلك أفقاً من المعرفة بالتخطيط الإستراتيجى ، يمكنه أن يضع التكتيك فى تناقض مع الإستراتيجية ، لأن وظيفة التكتيك هى أن يضع نفسه فى خدمة الإستراتيجية ، لا أن يدمّر الإستراتيجية ، بأن يضعها فى خدمته ذاتياً أو لحظياً.
نحن – إذن – بصدد قوى بعينها تدفع بطاقة مضاعفة عبر وسائل إعلام متعددة ، إلى إحداث انقلاب فكرى وثقافى كامل ، أصبحت وأصبح خطابها يشكّل ظاهرة واضحة ، ولا تستطيع أن تجد تفسيراً موضوعياً لذلك خارج إطار إتساع وتعمّق ظاهرة ( الإختراق ) الأجنبى .
لقد كنت أول من إستخدم تعبير ( الإختراق ) فى مواجهة ظاهرة التمويل الأجنبى فى مصر قبل ثمانية عشر عاماً ، من خلال حملة اتسعت لسلسلة مطولّة من المقالات ، وقد طال وقتها كبريات الصحف القومية بما فيها مراكز دراسات سياسية وإستراتيجية مرموقة ، ثم غدت الحملة وصاحبها فى مهب عاصفة عاتية ، لولا تفهم وطنى عميق من جانب رئيس المخابرات العامة ، ووزير الداخلية آن ذاك .
لكننا كنا نتحدث عن منصات ( إختراق ) ضيّقة الجبهة ، محدودة الفاعلية ، تمارس دورها من خلال أبحاث ممّولة خارجياً فى مجال استطلاعات الرأى العام ، هدفها الخفىّ أن ترسم خرائط عن الأوضاع الداخلية ، وتقدمها للخارج ، كى يعبأ بمادتها المتفجّرة مدفعيته الثقيلة الموجهة إلى السلطات فى الداخل ، ولم يكن تأليب الرأى العام فى مصر ، ولا فى العقيدة الوطنية ، ولا تحقير التاريخ الوطنى قابلاً لأن يوقّع بتبجح كامل على لوحة التنشين كما يحدث الآن ، فلم يكن بمقدور أحد أن يطلق على محارب وطنى عظيم الدور فى مرحلة اليقظة الوطنية المصرية ، هو أحمد عرابى ، وصف فأر ، لا فى قاع صحيفة ، ولا على هامش منتدى ... ولم يكن ممكناً لمريض عقلى ونفسى أن يغمس علم صلاح الدين الأيوبى وصاحبه ، فى حمأة من الطين ، وبركة أسنة من الأوساخ ، ولم يكن ممكناً للعقل العام أن يتصور أن بمقدور شخص مهما كان ، أن يفتح نافذة إعلامية أيا كانت ، ويطل على الناس ليقنعهم أن حديث الإسراء والمعراج كما ورد فى القرآن الكريم هو حديث أفك ، لان النبي محمد (ص) لم يغادر الطريق الرابط بين مكة والطائف ، فحتى أريل شارون نفسه لم يستطع أن يجحد رواية الإسراء القرآنية ، وكل ما ذكره بشأن الرواية الصهيونية المضادة ، صاغه في قالب متهكم ، قائلاً : " ان الخلاف حول القدس إنما هو خلاف على المكان الذى أوقف فيه النبى محمد دابته " .
غير أننى فى هذا السياق سوف أكتفى الآن بتسجيل ما أحسبه نقاطاً جوهرية على النحو التالى :
أولاً : أننا لسنا بصدد معركة فكرية لترسيخ حرية الفكر والمعتقد فى بلادنا ، لكى نتصّدى لها ، فكراً بفكر ، وقولاً بقول ، وإنما أمام هجوم مضاد منظّم ، تُفتح له أوسع الأبواب والنوافذ ، ليحقن الرأى العام المصرى ، بجراثيم فتّاكة ، تم تجهيزها فى مختبرات أجنبية معادية ، وهى فى حد ذاتها أهم أسلحة حروب الوعى وحروب المعتقد ، فمهمتها تدمير جهاز المناعة الوطنية ، والحل فى مواجهتها ليس الإشتباك او المناقشة ، وإنما العزل والممانعة ، فليس مقبولاً ولا معقولاً أن يُفرض على الجسد الوطنى ، أن تُحقن خلايا عقله بهذه الجراثيم وهو جالس فى الهواء الطلق تحت سماء الدولة ، ثم ُتترك كل خلية فيه لكى تقاوم العدوى ، منفردة فى غرف الصمت المنعزلة .
ثانياً : من هؤلاء الذين يريدون أن يعيدوا تعريف التاريخ الوطنى ، ليعيدوا بالتالي تعريف العقيدة الوطنية ؟ وما هو الهدف ؟!
أولاً : لا ريب أن الهدف المباشر هو خلق قطيعة معرفية مع حقائق التاريخ ، بمعاركة وتجاربه ودروسه ، بعد ذمّه وتحقيره وتدنيسه ، وهى الحقائق الأساسية التى تشكّل فى العقل العام ، ما يطلق عليه الوعى التاريخى ، وهذا الوعى التاريخى ، هو أهم محددات الذاكرة التاريخية ، ومن ثم الذاكرة الإستراتيجية ، ومن ثم الثقافة الإستراتيجية لأى شعب من الشعوب فى وقت من الأوقات ، وبالتالى فإن السعى إلى إعادة تعريف العقيدة الوطنية على هذا النحو، هو الطريق الطبيعة إلى تجريف ونفى الثقافة الإستراتيجية ، وهو ما يسمح بتحويل المحرّمات الوطنية ، أيا كانت إلى صيغ صالحة للقبول العام ، مثل قدسية التراب الوطنى ، أو وحدته.
لذلك ينبغى أن يكون واضحاً ، أن إعادة تعريف العقيدة الوطنية ، لا يدخل فى صلاحية فرد أو نفر أو جماعة أو حكومة أو سلطة .
ثالثاً : " إن تحقير وذمّ وتجريم أبطال تاريخين كبار ، خاضوا معارك شرسة ضد الاحتلال والتبعية ، وإنخرطوا فى إستراتيجية التحرير والإستقلال الوطنى ، دون أن يصعرّوا خدودهم لمحتل أو غاصب ، أو قوى عسكرية أجنبية ، إنما يعنى الترويج لإستراتيجية الإستسلام والرضوخ ، أو على وجه التحديد ، طلب السلامة بتقديم تنازلات مجحفة ، بعيداً عن المنازلة .
وهكذا ينبغى بث قناعة زائفة ، بأن مقاومة عرابى العظيم هى التى جلبت الإحتلال البريطانى لمصر ، وأن إستراتيجية عبد الناصر فى التحرير والإستقلال هى التى أنجبت هزيمة 1967 ، وأن حروب صلاح الدين لتحرير القدس وانتصاراته ، لم تكن غير هزائم بحكم أن عوائدها قد تبددت بعد سنوات من رحيله.
وهكذا – أيضاً – يمكننا أن نعيد إحياء الخديوى فى التاريخ ليعيد دفن عرابى ، ويقف على قبره شاهداً، على أنه هو القدوة السياسية الصالحة والنموذج الذى يحتذى به ، وأن نعيد إحياء فاروق ، ليعيد دفن عبد الناصر ، ويقف على قبره شاهداً على أنه هو القيادة الأمينة على المصالح الوطنية والنموذج الديمقراطى الصحيح ، والمشكلة فى ذلك أنه إذا استمر تحريك هذه السلسلة على هذا النحو من ناحيتيها فى التاريخ ، فإننا سنعيد إخراج اخراج كل الخونة والتابعين والعملاء ، و نضعهم شواهد فوق قبور كل المحاربين والمحررين والوطنيين ، ثم نصنع من شواهدهم تمثالاً كبيراً يمجد الاستسلام والإنحناء المذل ، والتبعية الذميمة .
رابعاً : إذا أدنا كل القادة العظام المحاربين والمحررين والمقاومين عبر التاريخ فما هو مردود ذلك على الروح المعنوية للشعب تجاه قواته المسلحة ، وهى صاحبة الدور التاريخى المشهود فى كل مواجهة ومنازلة وحرب تحرير ، ومعظم هؤلاء القادة قد خرجوا من مدرستها الوطنية العظيمة ، ثم أن السؤال بعذ ذلك يبدو مشروعاً ، من الذى يريد أن يرخى أصابع جنودنا الأبطال على زناد البنادق وهم يواجهون حرباً شرسة ، مقدمتها جيوش من الإرهابيين ، ومؤخرتها فى عواصم عربية وإقليمية ، إذا تم إقناعهم ان تاريخهم فاسد ، وأنهم ينتسبون إلى أمه صنعت مجداً من الأكاذيب ، وقادة ومقاتلين تبين أنهم من ورق ، وأن الإستسلام كان هو البطولة الفذّة فى التاريخ ، بينما كانت المقاومة هى الهزيمة النكراء .
خامساً : أخشى أن أقول أنه إذا تم السماح لهذه الفئران بأن تواصل نشر جراثيمها فى الفضاء الوطنى ، فإنه يعنى أنه يتم فى الوقت ذاته ، السماح بالحكم على ثورة 30 يونيو بأنها الثورة الوطنية الوحيدة ، التى لم تستطع أن تضع نفسها فى الموضع الصحيح ، وفى الموضع الذى تستحق ، فوق إحداثيات التاريخ الوطنى .
سادساً : إن هذه الحرب الفكرية المضادة ، لا تخص التاريخ ، وإنما تخص الحاضر والمستقبل ، حتى وإن بدا أن التاريخ هو مسرحها ، أما فرسانها من الفئران المريضة فهم على شاكلتها ، ليسوا سوى قطعة حيّة من الجبن ، فهم لا يطلقون النار إلا على الأموات!
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني