الحكومة الهزيلة تسمح لكوكا كولا باستغلال البلاد
تختفي المياه في سان فيليبي إكاتيبيك، وهي بلدة صغيرة للسكان الأصليين، تقع جنوب المكسيك على بعد ثلاثة أميال من مدينة تشياباس.
تعريب: هاجر تمام
وقال خوان أوربانو، الذي أنهى لتوه فترة ولاية مدتها ثلاثة أعوام كرئيس لبلدية الإقليم: «لقد بدأت الآبار تجف في السنوات الأربعة الماضية. يمشي بعض الناس مدّة ساعتين بشكل يومي للحصول على المياه، ويضطر الآخرون إلى شرائها».
فأين تذهب كلّ المياه؟
يقع معمل تعبئة كوكا كولا الذي تديره الشركة المكسيكيّة "فيمزا FEMSA" بين سان فيليبي وسان كريستوبال. استهلك المعمل أكثر من 1.08 مليون لتر من المياه يومياً عام 2016.
يشرح أوربانو البالغ من العمر 57 عاماً عن كيفيّة قيام النمو المديني لسان كريستوبال بنهش الأراضي الزراعيّة في سان فيليبي. أوربانو هو واحد من مجموعة آخذة بالتقلص من المزارعين الذين يزرعون الذرة والفاصوليا واليقطين في أراضي تعود تقاليد الزراعة فيها لأجيال.
تشكّل بلدة سان فيليبي واحدة من آلاف البلدات على طول المكسيك، والتي تستهلك فيها الشركات المياه على حساب الحاجات المحلية. ويقوم محامو هذه الشركات بكبح المطالبة بإيقافها بناء على تسببها بمجموعة من العواقب على الصحة العامّة.
الحكومة تخذل الحقّ الدستوري:
لدى تشياباس أعلى نسب موارد مائية متجددة للفرد في كامل المكسيك، ومع ذلك فإنّ مياه الصنبور هنا نادراً ما تكون آمنة للشرب. وفي مناطق تشياباس الريفيّة، فإنّ هناك واحداً من بين كلّ ثلاثة أشخاص لا تصل الماء إلى منزله. يشرح أوربانو كيف تصاب الأسر في سان فيليبي بالمرض جرّاء شرب مياه الآبار الملوثة.
يقول أوربانو: "لقد كنّا نقدم الطلبات للحكومة من أجل حفر بئر عميقة في البلدة لمدّة 12 عاماً. لقد قصدنا البلدية وإلى الحكومة المحليّة وإلى الحكومة الفدراليّة، ولا أحد منهم قام بشيء".
وتقضي المادة 115 من الدستور المكسيكي بأنّ تقوم جميع البلديات بتوفير المياه الصالحة للشرب والاستحمام، بالإضافة إلى شبكات الصرف الصحي وأنظمة معالجة المياه. ورغم مسؤوليّة الحكومة، فإنّ معظم المكسيكيين لا يحصلون على مياه الشرب الآمنة في منازلهم. تشتري كلّ عائلة مكسيكيّة بشكل وسطي قرابة 1500 لتر من المياه المعبأة في زجاجات بلاستيكيّة بشكل سنوي.
يقول أنتونيو غارسيا، وهو عالم وباحث زراعي في جامعة تشابينغو في سان كريستوبال، بأنّ لمشكلة المياه جذور تاريخيّة. ويضيف وهو في مكتبه المطل على جبل هوتيبيك الذي تستخرج كوكا كولا مياهه: "لقد شهدت المدينة نمواً كبيراً منذ السبعينيات. لكن لم يكن هناك تخطيط مديني في كريستوبال، وهذا أدّى بالسياسات العامّة إلى مفاقمة المشكلة لكونها لا تولي اهتماماً للسكان الأصليين في الدولة".
ويصبح التنظيم العشوائي للمكان بادياً عند النظر إلى جغرافيته. فالوادي قد ملأته المنازل، وقد بدأت الأحياء الجديدة تصعد بالتدريج ناحية التلال المحيطة. يوضّح غارسيا بأنّ المياه الجوفية لم تعد كافية لسدّ حاجات المدينة، وبأنّ جبل هويتيبك هو خزان المياه الجوفية الأهم.
إنّ المشكلة المتوطنة الآن في سان كريستوبال هي السالمونيلا. لقد وجدت دراسة أجرتها جامعة إيكوسور بأنّ المياه المحليّة تحوي على نسب عالية من البكتيريا المسببة للأمراض، ومن بينها القولونيات، ممّا يجعلها غير آمنة للاستهلاك.
ويقول غارسيا بأنّ نقص المياه وتلوثها يزداد سوءاً مع تغيّر المناخ. فلم يعد موسم الأمطار الذي يمتد من أيّار إلى تشرين الأول متماسكاً كما كان في الماضي. ليست بلدة سان فيليبي هي الوحيدة التي تجفّ الآبار فيها، فبلدات أخرى قريبة من معمل كوكا كولا، مثل لوس ألكانفورس، تعاني بدورها من نقص المياه. لقد طلب قادة بلدة تيوبيسكا، والتي تبعد حوالي ثلاثين كيلومتراً عن سان كريستوبال، من غارسيا مساعدتهم حين جفّت الآبار لديهم هذا العام.
لقد ضرب زلزال بقوّة 8.2 درجة ساحل تشياباس في ليلة 7 أيلول، ولقي أكثر من 90 شخصاً مصرعهم في تشياباس وأواكساكا وتاباسكو. وبينما لم تكن سان كريستوبال من المدن التي تضررت بشدّة من الزلزال، فقد مات ثلاثة أشخاص من الأحياء غير المنظمة في شمال المدينة، ولا تزال آثار الزلزال على الهياكل الأساسية للمياه قيد التقييم.
يقول غارسيا بأنّ العديد من الأنابيب قد تكسرت، وهذا أدّى إلى توقف وصول المياه: "لقد آذى الزلزال بكل تأكيد التجويفات في الطبقة الخازنة للمياه تحت الأرض، وهو ما سيؤثر على إعادة تغذية طبقة المياه الجوفية في المستقبل. لكن دراسة لتقييم هذه الأضرار بدقة ستكون مكلفة، ونحن لا نملك المعلومات الكافية الآن".
كوكا كولا في هضاب تشياباس:
بينما تكافح المجتمعات المحلية لتأمين المياه، لا تواجه شركة كوكا كولا أيّ نقص في المياه. افتتح مصنع التعبئة في عام 1994، وهو ذات العام الذي سلطت به انتفاضة زاباتيستا الضوء العالمي على تشياباس. بينما تمّ تنظيم زاباتيستا في الجبال المحيطة بسان كريستوبال، فقد بدأت شركة "فيمزا" بضخّ الماء من جبل هوتيبيك. لقد جددت لهم لجنة المياه الوطنية الرخصة عام 2005، وبات لدى فيمزا اليوم بئران.
لقد استفادت شركة فيمزا من التنظيم الحكومي الهزيل في المكسيك، ومن الباب الخلفي المفتوح على مصراعيه بين الحكومة والشركات، لتصبح أهم شركة تعبئة كوكا كولا في جميع أنحاء العالم. وقد كان فيسنتي فوكس رئيساً لشركة كوكا كولا فيمزا المكسيكيّة قبل أن يتم انتخابه كرئيس للمكسيك عام 2000.
وتصرّح فيمزا بأنّها تستخدم 56.9 مليار لتر من المياه سنوياً في عملياتها عبر أمريكا اللاتينيّة. وتملك الشركة 40 تصريحاً للمياه في المكسيك.
نشرت منظمات المجتمع المدني تقريراً عن انتهاكات حقّ الإنسان في الحصول على مياه صالحة للشرب ومياه الصرف الصحي في المكسيك هذا العام، وهو التقرير الذي أعلن بأنّ كوكا كولا وبيبسيكو ودانون تستغلّ موارد المياه في المكسيك بشكل غير عادل. ويذكر التقرير بأنّ رسوم المياه التي تدفعها الشركات "سخيفة كليّة بالمقارنة مع الأرباح التي تجنيها من هذه المياه". لقد أعلن التقرير أنّ فيمزا تدفع 2600 بيزو (146 دولار) عن كلّ تصريح مياه لها في المكسيك.
تموّل شركة فيمزا مشاريع إعادة تشجير ومجمعات مائيّة، والتي تقول الشركة بأنّها "تعيد ملئ" ذات الكمية التي تستخدمها في إنتاج كوكا كولا. لقد صرّح ممثل فيمزا في العاصمة بأنّ برنامج التشجير في تشياباس قد زرع أكثر من 129 ألف شجرة.
ومع ذلك، فلم تعد مستوعبات المياه والتشجير في أجزاء أخرى من الدولة ملئ مياه الآبار في سان فيليبي. يرى غارسيا رابطاً مباشراً بين آبار مصنع التعبئة العميقة، وبين نقص المياه في النواحي القريبة. يقول: "تخيّل أنّ كلّ بئر هو قصبة مصّ مغروسة في الأرض. إن كانت قصبة كوكا كولا أكبر بكثير من القصبات التي تملكها البلدات، فتسجفّ آبارهم في نهاية المطاف". إنّ أعمق بئر في سان فيليبي يصل إلى عمق 25 متر، بينما يصل عمق آبار فيمزا إلى 130 متر.
يقول أوربانو بأنّ لا أحد من ممثلي فيمزا قد أتى إلى بلدته لمعالجة مشكلة المياه. بينما أعلن ممثل فيمزا عن أنّ المصنع في سان كريستوبال ينتج ما بين 5 إلى 7% من الكوكا كولا المستهلكة في المكسيك، فقد رفض تحديد المبالغ التي تدفعها الشركة مقابل الاستخراج في سان كريستوبال.
وقد صرّح فرع لجنة المياه الوطنية في تشياباس بأنّ رخص الشركة تسمح لها بأن تستخرج من البئرين 499.918 متر مكعب من المياه سنوياً، أو ما يعادل 499.9 مليون لتر. وقد استهلكت الشركة في عام 2016 78.8% من الكمية المسموح بها.
لقد جذب الوضع المائي في تشياباس الاهتمام العالمي. لقد زار ليو هيلر، مقرر اللجنة الخاصة للأمم المتحدة المعنيّة بحقّ الإنسان في مياه الشرب والصرف الصحي، تشياباس هذا العام. وقد قال في مؤتمر صحفي عقد في 12 أيّار بأنّه جمع ما يكفي من الأدلّة على أنّ المكسيك تخرق حقوق الإنسان بمياه الشرب والصرف الصحي.
ويتضمن تقرير منظمات المجتمع المدني بشأن انتهاكات حق الإنسان في مياه الشرب والصرف الصحي في المكسيك عشرات الدراسات لإثبات القيام بمنح الأولوية للشركات كي تستخدم المياه على حساب حقّ الإنسان به. ويبيّن التقرير أيضاً كيف أن أفقر المكسيكيين هم من يحصلون على أقل قدر من خدمات مياه الشرب والصرف الصحي.
النشطاء يطلبون المزيد من المياه، والتقليل من الكوكا:
بعيداً عن عطش كوكا كولا الذي لا يشبع من المياه الجوفية المكسيكيّة، فقد دعا المدافعون إلى النظر بشكل عاجل في دور الشركة في الأزمة الصحيّة في البلاد.
لقد وجد الطبيب ماركوس أرانا، وهو الذي عمل لعقود في تشياباس، بأنّ مسألة الحصول على المياه كانت في جوهر مشاكل الصحّة العامّة في مجتمعات السكان الأصليين في الدولة: "لو استطاعت المجتمعات المحلية الحصول على المياه النظيفة، فإنّ العديد من المشاكل الصحيّة في تشياباس سوف تتحسن".
أضاف: "يمكن في الكثير من الحالات أن يحصل الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية على الغذاء اللازم، ولكن بسبب المياه القذرة فإنّ مشاكل الجهاز الهضمي لديهم تتطوّر ولا يمكنهم الأكل أو امتصاص المواد المغذية كما يجب". كما أنّه أشار بشكل يتسق مع أمر قاله أوربانو، وهو أنّ المشروبات الغازية مثل كوكا كولا هي أزهد ثمناً من المياه المعبأة، ولهذا فقد حلّت محلها في بعض الأماكن.
في هذه الأثناء، تحاجج منظمات صحيّة، مثل منظمة "سلطة المستهلك El poder del consumidor" المتموضعة في مكسيكو سيتي، بأنّ استهلاك المشروبات الغازية يسهم في معدلات السكري والبدانة العالية في المكسيك. ووفقاً لمسح "الصحّة والغذاء الوطني" عام 2012، فإنّ السكري هو السبب الرئيسي للموت في المكسيك، وهو يؤثر على 13 مليون شخص. وجدت دراسة أخرى بأنّه يمكن وصل واحدٍ من كلّ ستّ حالات سكري بشكل مباشر باستهلاك المشروبات الغازيّة.
وبالاستجابة لذلك، فقد أطلقت "سلطة المستهلك" بالتعاون مع "أرانا" حملة لفرض ضريبة على المشروبات الغازية في المكسيك. ورغم أنّ الأمر يخالف التوقعات، فقد نجحوا في ذلك وتمّ فرض الضريبة في كانون الثاني 2014. لكنّ الضريبة كانت أقل ممّا أوصى به الناشطون، فهي تعادل 10% من تكلفة المشروبات، أو بالكاد بيزو واحد لكل ليتر.
وانخفضت مبيعات المشروبات الغازية إثر صدور الضريبة بنسبة 5.5% في عام 2014، و9.7% في عام 2015. وقد تبعت المكسيك مدناً عدّة مدنٍ أمريكية مثل فيلادلفيا وسان فرانسيسكو.
ومع ذلك، فإنّ هذا لم يهز شركات المشروبات الغازية. تقول اختصاصيّة التغذية في "سلطة المستهلك" فيوريلا اسبينوزا بأنّ الشركات قد أطلقت حملات تسويقية جديدة للتعامل مع الضرائب وللتأثير في الرأي العام. إضافة لذلك، فإنّ شركات المشروبات الغازية هي من تعبئ المياه المعلبة، وقد ارتفعت مبيعاتها بشكل كبير.
تقول اسبينوزا: "لن تحلّ الضرائب وحدها المشكلة. يجب أن تكون الاستراتيجيّة طويلة الأمد هي زيادة فرص الحصول على مياه شرب آمنة وإنشاء المزيد من مناهل الشرب".
وتعلن الحكومة الفدرالية بأنّ أموال الضريبة استخدمت لتمويل إنشاء 11 ألف منهل شرب في المدارس. ويدفع الناشطون من أجل استخدام المال المتبقي في تمويل البرامج الصحية في المجتمعات منخفضة الدخل والتي أثرت فيها زيادة الأسعار بشكل أكبر من الجميع.
ويشير اسبينوسا إلى أنّه في بعض الحالات، لا تفرض الشركات الضريبة المفروضة. لقد وجدت دراسة أقيمت عام 2016 بأنّ أسعار المشروبات الغازية في ريف المكسيك لم تزد إلّا بنسبة 0.73 بيسو للتر، بدلاً من 1 بيسو للتر المفروضة بحكم القانون. تشير هذه النتائج بأنّ لشركات المشروبات الغازية القدرة على إبقاء أسعار منتجاتها منخفضة بالتلاعب بالضريبة.
يجب الانتظار وترقب الآثار طويلة الأمد للضريبة، لكنّ الدراسة توقعت أنّها ستمنع وقوع ما بين 86 إلى 189 ألف حالة إصابة بالمرض السكري.
وفي حين أنّا الحجج الصحية قد أبقت على كوكا كولا في موقف دفاعي في الكونغرس المكسيكي، فإنّ استهلاك الشركة اللا محدود لمياه تشياباس الجوفية يلاقي المعارضة المحلية.
غضب محلي على كوكا كولا:
عبأت المنظمات غير الربحية المحلية والقريبة في نيسان احتجاجاً على معمل تعبئة كوكا كولا في سان كريستوبال. وقد شجب 1500 متظاهر استهلاك كوكا كولا للمياه وآثارها الصحيّة.
يقول أرانا بأنّ الضغط المستمر من قبل المواطنين يأتي أكله. فقد كانت كوكا كولا تملك في السابق لوحات إعلانية في المناطق المحيطة بسان كريستوبال، تظهر نساء ورجال بالزي التقليدي وهم يشربون الكوكا كولا. لقد اضطروا لسحب هذه اللوحات الآن.
يقول أرانا: "إنّهم يغيرون استراتيجيتهم، فهم قلقين من الانتقادات".
أمّا في سان فيليبي، فيشكّ أوربانو بأنّ الحكومة المكسيكية ستقدم العون لبلدتهم لحلّ مشكلة المياه. سيقوم عوضاً عن ذلك قادة البلدات المتضررة بالذهاب إلى المؤتمر الوطني للسكان الأصليين من أجل تسليط الضوء على معاناتهم أثناء الانتخابات الرئاسيّة العام المقبل.