نحن والصراع الطبقي
درجت العادة عندما تتولى سلطة مقاليد الحكم ( بغض النظر بانقلاب عسكري أم عن طريق صندوق الاقتراع) أن تعلن عن الملامح العريضة لسياستها الخارجية والداخلية. وكان تاريخيا كافيا لنا أن وجدنا ترحيبا سوفياتيا (أي دول الاتحاد السوفياتي) بالسلطة الجديدة وهجوما من أمريكا أن نفهم ضمنا أن هذه السلطة ذات توجه اشتراكي منحاز للطبقة العاملة والفلاحين والكادحين.
تجربة اليمن الديمقراطي أواخر سبعينات القرن المنصرم كانت تجربة رائدة ومميزة في عالمنا العربي وضعت نصب أعينها تنفيذ شعار " من أجل تحقيق الوحدة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية" وتكالبت عليها كافة القوى الداخلية والعربية والاقليمية فأجهضتها لكن على الأقل تركت هذه التجربة بصماتها في " اليمن الجنوبي وقتها" وفي اليمن الموّحد لاحقا.
تجربة أفغانستان في ذات الحقبة في عهد الرئيس الأفغاني نور الدين محمد تركي ايضا أجهضت لكنها تركت بصمتها لدرجة أن كثير من أبناء الشعب الأفغاني يترحم على تلك الحقبة.
وقبلها تجربة الزعيم جمال عبد الناصر وتوجهاته الريادية لنصرة الطبقة العاملة والفلاحين المصريين. وتجربة سلفادرو اللندي في تشيلي وغيرها من التجارب المضيئة.
في حالتنا، عندما بسطت السلطة الفلسطينية نفوذها مطلع التسعينات، انبهرنا جميعا بوجود سلطة وطنية فلسطينية، ولم نفكر حتى في الملامح العريضة التي تجيب على السؤال الكبير " ما هو الكيان الوطني الذي نريده"؟
هل كنا بعد هذه السنوات الطويلة من النضال الوطني التحرري المعمدة بدماء الشهداء وآلاف الاسرى والجرحى وذوي الاعاقة واللاجئين والمنازل المدمرة نريد دولة أو كيانا تجني فيه البرجوازية الفلسطينية ثمرة هذا النضال أم كنا نريد هذا الكيان للكادحين؟
ولسذاجتنا، وربما لرغبتنا الشديدة في التخلص من الاحتلال ( ولم يحصل ذلك الى الان) ركبنا قطار "أوسلو" وصفقنا دون وعي لاقتصادنا التابع وولجنا أكثر فأكثر في هذه التبعية، ولهثنا وراء البرجوازية الفلسطينية التي فضلت أن تزدهر استثماراتها في قطاع الخدمات وبضمنه البنوك على حساب قطاع الانتاج، فتغطرست وتمادت وأصبح كل منها دولة في داخل كياننا، لا تحترم المواطن الفلسطيني بل وتذله، ولعل تعاملنا مع شركات الاتصالات والبنوك والكهرباء والمياه وجميعها شركات مساهمة خاصة أو عامة يشعرنا يوميا بالمذلة وعدم احترامها للمواطن وخصوصيته وراحته بل ويمتصون حتى القروش القليلة التي تبقت في جيوب المواطنين تحت مسميات عديدة وبضمنها الحملات الوهمية التي تمنح جوائز محدودة.
صفقنا وصفقنا وركبنا قطار "أوسلو" جميعا حتى من عارضها سرا وعلانية وجد نفسه منخرطا فيها ومستمتعا باهتزازات القطار الذي يقودنا الى حالة السبات العميق تماما كما كانت امهاتنا تهز أسرّتنا لكن بفارق شاسع بين الحالتين فالأم كانت تنشد لنا الراحة واهتزازات "أوسلو" كانت وما زالت تريدنا عراة حفاة نقتات فتات ونتحمل غطرسة رأس المال الفلسطيني وشركاته الخدماتية بمختلف مسمياتها واحتكاراتها.
غابت الفصائل الفلسطينية التي على الأقل كانت في برامجها تؤكد أنها كرست نفسها للدفاع عن العمال والفلاحين والكادحين. وبغيابها غاب العمل النقابي، وجرى تهميش النقابات العمالية وتحويل كادرها النقابي الى موظفين ليس أكثر، غابت النقابات المهنية وتحولت الى سيف مسلط على المهنيين، غابت الرؤى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية. ونشأت طبقة جديدة هي طبقة موظفي المؤسسات الأهلية الفلسطينية تحت مسميات النزاهة والشفافية.
ازدادت البطالة الصريحة والمقنعة، أقفلت الأبواب أمام جموع الخريجين والكفاءات، تفاقمت المشاكل النفسية والاجتماعية وازداد الانحدار لدرجة أن قرية محاصرة من الاحتلال وعلى مقربة منها كانت تصدح موسيقى وأغاني يؤمها ما يزيد عن العشرين الف فلسطيني ربما " يرتشفون القبلة من حد السكاكين" أو يمارسون طقوس " استراحة محارب" يأخذ رأس المال الفلسطيني تلك القروش القليلة مما تبقى في جيوبهم.
ولا ننسى "رأسمالية الدولة الاحتكارية" حيث تجري السيطرة على أبرز السلع الرئيسية وربما يكون ذلك جيدا فيما لو كانت هناك رؤيا لكيفية انفاق هذه العوائد على الوجه الصحيح.
كل ذلك، سبب ويسبب وسيسبب حالة من الغليان على صفيح نار هادئة، تبرز أحيانا فعالياتها الاحتجاجية هنا وهناك فيتم التصدي لها، لكن ذلك لا يعني اطفاء النيران التي تسبب حالة الغليان.
ذلك يقودنا الى نتيجة حتمية بدأنا نلاحظ اولى ملامحها المتمثلة في تزايد الفرز الطبقي داخل المجتمع الفلسطيني، ومع هذا التزايد سيكون هناك من دون أدنى شك تزايدا للصراع الطبقي الذي سيحتدم يوما بعد يوم أيضا على صفيح نار هادئة. كما وسوف تتمرد الطبقة الوسطى جنبا الى جنب مع العمال والكادحين والفلاحين.
وما يؤخر كل ذلك هو وعي الكادح الفلسطيني أن أولوية المواجهة هي مع الاحتلال ويجب أن تتركز هناك، وأن لا مجال مطلقا في المرحلة الحالية لأي تحرك في وجه غطرسة رأس المال الفلسطيني كي لا يصار الى حرف البوصلة عن مواجهة الاحتلال وكي لا "يشرد رأس المال" اذا أن النظريات الاقتصادية تقول أن رأس المال دوما "جبان"، بمعنى أن الكادح الفلسطيني الذي يعي جدلية العلاقة ما بين الوطني التحرري والطبقي آثر السكوت فاستفاد رأس المال الفلسطيني المتغرطس من هذا السكوت لكن ذلك لن يدوم كما غنّت أم كلثوم " انما للصبر حدود".
الى أين أريد أن أصل في هلوستي هذه .. حقيقة لا أعرف .. لكن امشوا أيها الأحبة في الشوارع والآزقة واستمعوا الى ما يقوله أبناء شعبنا من البرجوازية المتوسطة الى الصغيرة الى الكادحين والعمال والطلاب والفلاحين وحتى العاملين في مختلف المؤسسات الرسمية بشقيها المدني والأمني لتستشعروا الغصة التي بلغت الحلقوم والغليان على صفيح نار هادئة والتناقضات الكبيرة التي تتسع يوما بعد يوما في النسيج الاجتماعي الفلسطيني.
عن وكالة «وطن» الفلسطينية
تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء» لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني