فلنتعلم من كوبا وليس من جارتها الشمالية
نفكّر عندما نشاهد كارثة طبيعيّة في مكان ما فيما علينا أن نفعله في حال حدث ذات الشيء في مدننا. وعندما نرغب بالاستفادة من تراكم الخبرات البشرية في مجال التطور والتخطيط المديني، والاستعداد لمواجهة الكوارث الطبيعية، فإنّنا ربّما نفكر على الفور بالولايات المتحدة كأنموذج نحتذيه. لكن ماذا لو علمنا بأنّ كوبا، وهي الدولة الأضعف موارداً، تستطيع مواجهة الكوارث الطبيعية العاتية بفاعلية أكبر بكثير؟ يعود ذلك ببساطة إلى بنية الدولة الكوبية التي تساوي بين الناس في الخدمات دون اعتبار لثروتهم، وإلى الخطط المركزية التي يمكن للدولة أن تعتمدها من أجل مواجهة هكذا مخاطر. يتبيّن لنا ذلك في المقال التالي:
تعريب وإعداد: عروة درويش
بالتزامن مع الصور المرعبة للطوفانات المدمرة وللناس العالقين في الأماكن المتناثرة والجثث الطافية على المياه التي سببها الإعصار هارفي، تناقل السكان المحليون صوراً لمئات من النمل وهم يشكّلون سلسلة متراصة كي تطفو على سطح الماء لتحمي الملكة والبيوض واليافعين.
يتناقض هذا العرض المذهل لتضامن الحشرات مع استجابة الإنسان لإعصار هارفي، والذي بدا بأنّه يجعلنا نؤمن بعدم جدوى مقاومة الإنسان لحكم القدر.
لكن ماذا لو أخبرتكم بأنّ هناك بلداً استطاع النجاة من الأعاصير السبعة عشر الأخيرة مع وفاة خمسة وثلاثين من سكانه فقط؟ ماذا لو كان هذا البلد يتبع نوع التضامن الاجتماعي الذي نحسد النمل عليه؟ وماذا لو كان الناتج الإجمالي المحلي لهذا البلد لا يتخطى جزءاً صغيراً من ناتج الولايات المتحدة؟
هناك بلد بهذه المواصفات: إنّه كوبا.
ففي حين أنّ إعصار ماثيو عام 2016 قد قتل أربعة وأربعين شخصاً في الولايات المتحدة، فإنّه لم يقتل أحداً في كوبا، برغم الدمار الذي تركه في أعقابه. وذات الأمر حدث مع إعصار كاترينا الذي قتل 1800 شخص في الولايات المتحدة. أمّا إعصاري غوستاف وإيك اللذين ضربا كوبا في ذروة شدتهما فقد قتلا سبعة أشخاص، في حين أنّهما قتلا ثلاثين شخصاً بعد أن فقدا معظم قوتهما عند الوصول إلى الولايات المتحدة. قتل الإعصار إيزابيل عام 2003 أمريكيين أكثر من ستّة أعاصير ضربت الكوبيين بين عامي 1996 و2002.
يصبح هذا النمط سائداً مع كلّ إعصار ضرب البلدين، ولا عجب أنّ منظمات مثل الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر والأمم المتحدة قد أشارت مراراً إلى كوبا بوصفها نموذجاً عالمياً للتقليل من المخاطر.
كيف تفعل كوبا هذا؟ ليس بالأمر سرّ عظيم. فقد وضعت الدولة، على إثر عدّة أعاصير قاتلة في القرن العشرين، برنامجاً وطنياً شاملاً من أجل التحضير للكوارث والإجلاء والإغاثة والإنعاش، ليشمل هذا البرنامج جميع المواطنين على المستوى الوطني والمحلي.
فبدلاً من كونها مسألة هامشية يتم نسيانها حتّى قدوم الإعصار التالي، تتعامل كوبا مع الأعاصير باعتبارها كما يجب: مسألة حياة أو موت. ورغم أنّ البعض يجادل بأنّ كوبا استطاعت القيام بذلك لأنّها دولة تعتمد على حكم الحزب الواحد، فالنظر عن قرب إلى برنامج الأعاصير يخبرنا بأنّ هذا النموذج يعتمد على لعب الدولة لدورها بغض النظر عن طريقة حكمها.
وفيما يلي الجوانب الأساسيّة الأربعة التي تميّز البرنامج الكوبي وتجعله فاعلاً:
1.إنّ كوبا تستعد دائما للإعصار التالي:
تفترض كوبا على الدوام بأنّ إعصاراً كبيراً يقترب منها، ولذلك فإنّ لديها مجموعة متنوعة من الكيانات الحكومية المكرسة للتنبؤ بالإعصار القادم والاستعداد له. وتتبع محطاتها الجويّة الثمانية والستين العواصف، ويساندها نظام الإنذار المبكر الموجود لدى نظام الدفاع المدني الوطني، ومخزون الطوارئ الاحتياطي وفرق الإنقاذ.
إنّ هذا بحدّ ذاته لا يضع كوبا بعيداً عن بلدان كالولايات المتحدة، لكن كما أعلنت بعثة مدينة غلافستون في تكساس في 2009: "إنّ التحضير للكارثة في كوبا هو عمل يتم على مدار العام". يفرض القانون على جميع البالغين أن يخضعوا لبرنامج تدريب على الدفاع المدني لتعليمهم كيفيّة المساعدة في الإخلاء. لقد خضع كلّ مواطن كوبي منذ عام 1986، وبغض النظر عن السن، إلى دورة تدريبية لمدّة يومين على الأعاصير تدعى "Ejercicio Meteoro تمرين النيزك" يتم فيها محاكاة عمليات الإجلاء. وقد أدرجت عمليات الاستعداد في المناهج المدرسية لكافة الأعمار.
بالإضافة إلى ذلك، يتم وضع وتحديث خطط الطوارئ على مستوى الوطن والمقاطعات والبلديات والمجتمعات المحلية بشكل سنوي. وكجزء من الخطّة يتم تعيين موقع لجوء لكل كوبي قبل أيّ عاصفة.
يتم في ذات الوقت بثّ معلومات عن الطقس بشكل مستمر على وسائل إعلام الدولة كلّ ستّة ساعات، وتزداد وتيرة البث إلى ثلاثة ساعات عندما تكون العواصف قريبة، ويتمّ إطلاق صافرات الإنذار قبل 72 ساعة من ضرب الإعصار. بعبارة أخرى، حال الطقس حاضرة بشكل مستمر في عقول الكوبيين.
2.تعبئة الجميع:
من الأسباب الرئيسيّة في نجاح النموذج الكوبي، ولا سيما في بلد موارده ضئيلة نسبياً، هو فلسفة التعبئة الكاملة لديه. قد تكون الاستجابة للأعاصير موجهة من الأعلى للأسفل، لكنّ من يقوم بها هم الكوبيون العاديون في مجتمعاتهم المحليّة، وذلك بالاعتماد على التدريب المنتظم الذي يتلقونه.
فكما وجدت منظمة "أوكسفام" في أمريكا في دراسة أجريت عام 2004: "إنّ أهمّ شيء في الاستجابة للكوارث في كوبا هو تعاون الناس بشكل جماعي". إنّ رؤساء المقاطعات والبلديات هم رؤساء الدفاع المدني: يتولون مسؤولية مناطقهم الخاصة، ويجمعون بين إصدار القرار بشكل مركزي وبين تطبيقه بشكل لا مركزي. يدعون للاجتماعات ولمراجعة خطط الطوارئ ويحددون طرق النقل والمعدات المستخدمة ويفوضون الناس بالمهمات وبالواجبات ...الخ.
لكلّ شخص في كوبا دوره: يقوم الأطباء ومدراء المدارس وأعضاء المنظمات الجماعية وغيرهم بمراجعة خطط الطوارئ والتحقق من إجراءات الإجلاء والإمدادات. وكما لاحظ أحد عاملي الإغاثة الأجانب في عام 1996: "الجميع يعرف عمله، وذلك يشمل الأطفال"، مشيراً إلى أنّ جميع القاطنين في مبنى سكني سيعملون على لصق النوافذ وتخزين حصص الإعاشة وطهي الطعام وتقديم المشورة للجيران بشأن كيفيّة حماية ممتلكاتهم. هذا جزء ممّا سماه مبعوثو الأمم المتحدة "ثقافة السلامة".
ويعمل أعضاء المجتمع المحلي على نقل الحيوانات إلى الأراضي المرتفعة وعلى إنقاذ أولئك الذين تقطعت بهم السبل ونقلهم إلى المنازل المضادة للأعاصير. يصبح منزل العائلة الآمن البعيد عن خطر الفيضانات مستقراً للجيران. وفي حالات أخرى يتم تعيين أحد المنازل ليلجأ إليه الجيران، أو إلى مأوى جماعي تجهزه الحكومة (يمكن أن يكون أيّ شيء مثل مدرسة أو كنيسة).
ومن أجل إيصال الناس إلى هذه الأماكن، تستخدم الخطّة أيّ وسيلة نقل يمتلكها السكان من السيارات والشاحنات إلى القوارب وعربات الخيل. ويسمح للمواطنين بإحضار حيواناتهم الأليفة معهم مع وجود أطباء بيطريين متمركزين في مراكز الإجلاء المستعدة لاستقبالهم. تستمرّ المخابز التابعة للبلديات بتوفير الغذاء للملاجئ.
ويستمر تنفيذ هذه الخطّة في مرحلة التعافي. تشكّل المجتمعات المحليّة فرقاً لتقييم الأضرار وبالبدء بعمليات التنظيف. يعمل المواطنون مع بعضهم لتنظيف وإعادة بناء الأبنية وجمع الملابس والمواد اللازمة لذلك. يستمر من فقدوا منازلهم بالعيش في منازل العائلة أو الأصدقاء أو في ملاجئ الدولة حتّى يكون من الآمن عودتهم.
ليس هذا التضامن الأهلي حكراً على الكوبيين. فقد أظهرت المشاهد من البلدان المنكوبة الناس العاديين وهم متلهفون لمدّ يد العون لجيرانهم والاستعداد للتضحية من أجلهم. لكنّ الفرق يكمن في أنّ هذه الطاقات تكون مهدورة إلى حدّ ما عندما تأتي بعد وقوع الكارثة، بينما يجعلها الاستعداد السابق لوقوع الكوارث في كوبا طاقات فاعلة بشكل أكبر.
3.رعاية المجتمعات الضعيفة:
إنّ الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية هي دوماً غير متساوية. ويجعل عدم المساواة في توزيع الثروة في بلدٍ ما التقسيم الطبقي مؤثراً بشكل خاص. لكنّ مجموعة أخرى من العوامل، مثل الجغرافيا والصحّة الشخصية، تساهم كذلك في تحقيق اللامساواة هذه.
تحصي الدولة الكوبيّة مواطنيها الأكثر ضعفاً في مواجهة الكوارث ومناطقهم وممتلكاتهم، سواء بين المجتمعات المحليّة أو بين الأفراد ضمن المجتمع الواحد. تجمع البلديات معلومات تفصيلية عن جميع مواطنيها بشكل سنوي، ابتداءاً من سنّهم ووصولاً إلى أيّ احتياجات خاصّة لهم.
في ذات الوقت يقيّم أعضاء المجتمع المحلي، مثل الأطباء أو ممثلي المنظمات الجماعية، أحيائهم التي يقطنوها. تشرح إحداهن لمنظمة أوكسفام بأنّها تعرف الناس الذين يعيشون في حيّها وتعرف احتياجاتهم، ابتداءاً من المرأة المسنّة على كرسي متحرك إلى المرأة الحامل التي تحتاج للعون.
وعندما يقترب الإعصار يقوم الأعضاء المحليون بالتأكد من كون الأشخاص الضعفاء على مايرام، بينما يقوم أطباء المجتمع المحلي بفحص المرضى للتأكد ممّا إن كانوا يحتاجون للذهاب إلى المشفى كإجراء وقائي.
4.ضمان حماية الممتلكات الشخصية من ضمن مجموعة تدابير فريدة أخرى:
إنّ أحد العناصر الفريدة في النموذج الكوبي هو الجهد لحماية الممتلكات الشخصية للناس العاديين. هذا الأمر مهمّ لأسباب ماليّة وعاطفية بكل تأكيد، لكنّه مهم أيضاً من أجل إقناع الناس بتنفيذ أوامر الإخلاء.
يتمّ إرسال المسؤولين الحكوميين والشرطة والجيش لنقل الأثاث وغيره من الممتلكات الخاصّة إلى أرض مرتفعة أو إلى مكان آخر آمن. تسمح بعض الأقاليم للسكان بوضع أشيائهم الثمينة في صناديق وترسلها بعيداً لتخزينها في مكان آمن. ومن أجل إراحة بال المواطنين، تضمن الحكومة استبدال جميع الممتلكات التي تدمرها الكارثة الطبيعية، وذلك رغم موارد البلد الضئيلة.
هذا مجرّد واحد من مجموعة من التدابير الفريدة التي تتخذها الحكومة الكوبية أثناء الأعاصير. تعطي وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية تعليمات مفصلة عن كيفية تأمين المنازل وأماكن التوجه. ويتم إغلاق الأنابيب الموصلة للغاز وإطفاء الكهرباء عندما تصل الرياح لسرعة معينة، وذلك لمنع الموت جرّاء انفجار الغاز أو الكهرباء. يتم تسريع عمليات الحصاد قبل حدوث الكارثة، بينما يتم تأمين الأشجار الواقعة قرب أسلاك الهاتف والكهرباء.
وبدلاً من إغلاق المستشفيات وغيرها من الخدمات الحيوية، كما هو الحال في كثير من الأحيان في الولايات المتحدة، فإنّ كوبا تبقيها مفتوحة وتؤمنها من أجل توفير الرعاية الطبية وغيرها للشعب المحاصر. وتستمرّ هذه مساعدة الضحايا الطبية لفترة طويلة بعد انتهاء الكارثة، مما يعكس إصرار الحكومة على أنّ الرعاية الصحيّة حقّ من حقوق الإنسان.
إنّ النموذج الكوبي ليس آتياً من العالم الخارجي، بل هو نتاج الإرادة السياسيّة للشعب الكوبي. لقد حددت الحكومة الكوبية أولويتها وهي الحفاظ على حياة جميع الكوبيين وحتّى أضعفهم، وتجنيبهم آثار الكوارث اللاحقة. وبناء عليه أسست وبنت برنامجها للاستجابة للكوارث بحيث يحقق هذا الهدف. لقد استطاعت كوبا ضعيفة الموارد أن تحمي حياة مواطنيها وممتلكاتهم بشكل أفضل من الولايات المتحدة ذات الثروة الهائلة عبر تحديد هذه الأولويات فقط.