النيوليبرالية تحاول التخفي بزيّ الاشتراكية
نشر ستانلي كورتز عام 2010 كتاباً بعنوان: "الزعيم الراديكالي: باراك أوباما وقصّة الاشتراكية الأمريكية المخفية". حيث جادل في كتابه بأنّ الرئيس أوباما يجسّد: "الاشتراكية المنسلّة والواقعية والتدريجية".
تعريب وإعداد: عروة درويش
في ذلك الوقت، لم يرد الليبراليون المتسيدون أي علاقة بالمصطلح السام سياسياً، ولذلك نفى موقع حملة أوباما الخاص بفحص الحقائق المدعو "محاربة التلطيخ" بشدّة مزاعم كورتز بأنّ الرئيس تشارك السياسة الاشتراكية مع المنظمين الاجتماعيين الذين عمل معهم في شيكاغو.
هذا كان قبل سبع سنوات، وقد تغيّرت الأمور الآن في أعقاب حملة بيرني ساندرز التاريخية بشكل غير متوقع، فقد فقدت الاشتراكية بعض "سمّيتها" بين الليبراليين المتزعمين.
تنشر مواقع ذات شعبية مثل فوكس وهافينغتون بوست بانتظام قصص تناقش السياسات الاشتراكية. في مقال في "ميديوم" في وقت سابق من هذا العام، استخدم أحد "المحللين" الليبراليين ذات العبارة التي استخدمها كورتز في وصف باراك أوباما وإيلون موسك، بأنّهما نوع من "الاشتراكيين البراغماتيين" – الذين ظلمهم "الاشتراكيون الخالصون" بتسميتهم هزئاً "نيوليبراليين" – يحتاج العالم وجودهم.
للوهلة الأولى يبدو من المشجع أنّه قد بات للاشتراكية عام 2017 ثقل سياسي يجعل بعض الليبراليين مرتاحين بشكل علني بالاعتراف بمزاياها بدلاً من إبعاد أنفسهم عنها وإنكارها خوفاً من التلوث. لكن من وجهة نظر أخرى فإنّ تقسيم اليسار العريض إلى براغماتيين وأنقياء هو أمر متكبر وخاطئ. فهو كمن يقول: "نحن نريد ذات ما تريد ولكنّها أذكى منك وأكثر واقعية".
تخفي هذه الصيغة حقيقة أنّ الاشتراكية والنيوليبرالية هما توجهان سياسيان واقتصاديان متمايزان ومتعارضان مع بعضهما البعض في قضايا حاسمة، وتحديداً دور الدولة في تنظيم الأسواق ودور القطاع الخاص في توفير السلع والخدمات الأساسية.
قام جوناثان شيت في 16 تموز بمناورة مماثلة في مقال في مجلّة نيويورك، حيث رفض بشكل قطعي مصطلح "النيوليبرالية"، واصفاً إياه بالإهانة الفارغة التي ابتدعها اليسار الخالص كي يهاجم فيه حلفاؤه الراسخين في الحزب الديمقراطي (تمّ تبني هذه المقطوعة من قبل أكثر من معلّق ليبرالي على قناة فوكس).
خطّان متوازيات لا يلتقيان:
في حين أنّ المعلقين الليبراليين كانوا غير مرتاحين تاريخياً لربطهم بالاشتراكيين، فهم يُظهرون الآن ميلاً متزايداً لإلغاء التعارض الطبيعي بين اليسار والوسط بإصرار، لإظهار السعي المشترك لتحقيق الأهداف المشتركة. لقد سمعت بعض الليبراليين يقولون ذلك، وهو أنّ الفرق بالطريقة وحسب وليس بالمضمون. يعطي هذا الإفراط في الألفة لليبراليين رخصة لتوبيخ اليسار بسبب مهاجمته الوسط، فتراهم يقولون: "ما بالكم، نحن إلى جانبكم بحق السماء".
في الحقيقة ليس الأمر ببساطة أنّ الوسط مؤيدٌ للرأسمالية أكثر من اليسار، أو أنّ الجانبين موجودين على طيف متدرج يستحيل تحديد أين ينتهي وأين يبدأ. الفرق واضح جداً في الواقع: يدعم الوسط النيوليبرالي بشكل نشط حريّة الأسواق، بينما لا يفعل اليسار ذلك على الإطلاق. هذا التمييز مهم جدّاً.
إنّ النيوليبرالية هي فلسفة اقتصادية لها أصولها في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. هاجرت هذه العقيدة بعد الحرب العالمية الثانية إلى جامعة شيكاغو، حيث قام الاقتصاديون النيوليبراليون، ومن بينهم فريدريش فون هايك وميلتون فريدمان، بإنشاء ما أصبح يُعرف باسم مدرسة شيكاغو. وقد أثبت معقل أصولية السوق الحرة هذا تأثيره الكبير في تقديم هذه الأيديولوجية النيوليبرالية حول العالم، وعلى الأخص في تشيلي بعد الإطاحة بحكومة سلفادور أليندي الاشتراكية بانقلاب مدعوم من الولايات المتحدة عام 1973.
إن الأيديولوجيا النيوليبرالية متجذرة في الاعتقاد بأنّه يجب دعم الاقتصاد الرأسمالي وحمايته من الانهيار عبر مساعدة الدولة. ولكن يجب على الدولة من ناحية أخرى أن تسمح لقوى السوق بالتحرك بحرية دون أن يعيقها التنظيم الحكومي.
يشير الباحث الماركسي ديفيد هارفي في كتابه (لمحة تاريخية عن النيوليبرالية) إلى أن الأزمات المالية العالمية في السبعينات: "بدت وكأنّها تشير إلى ولادة بديل اشتراكي"، ولهذا فقد ازدادت شعبية النيوليبرالية بين الرأسماليين الذين لم يكونوا راغبين في خسارة "التسوية الاجتماعية بين رأس المال والعمالة التي شكّلت الأرضية التي ارتكز عليها تراكم رأس المال بنجاح في فترة ما بعد الحرب ".
لقد كان السبب الرئيسي أنّ مفهوم النيوليبرالية قد استأسد في الولايات المتحدة – خاصّة أنها بدأت تخرج من الأوساط الأكاديمية وتدخل في صنع السياسة في فترة السبعينيات والثمانينيات – هو تفكيك النقابات العمالية وبرامج الديمقراطية الاجتماعية الناشئة، ولإلغاء القيود على الأعمال التجارية في كل فرصة سانحة.
لقد أثبتت النيوليبرالية عبر التاريخ بأنّها مناهضة للاشتراكية في جوهرها.
إن النقطة التي تتقاطع فيها الاشتراكية والنيوليبرالية هي إصرار كليهما على أنّ الاقتصاد يتطلب قدراً من تدخل الدولة وتخطيطها، وذلك في تناقض مع الليبرالية الكلاسيكية التي تؤمن إيماناً كاملاً بأنّ "اليد الخفية" للسوق يجب أن توجّه وتحافظ على الاقتصادات الرأسمالية دون مساعدة الدولة.
لكن يتوقّف التشابه هنا، ذلك أنّ الفرق التالي جوهري: يعتقد النيوليبراليون بأنّه يجب على الدولة، متى كان ذلك ممكناً، أن تدعم القطّاع الخاص كي يأخذ دوراً حيوياً في المجتمع. يؤمن الاشتراكيون على الجانب الآخر بأنّه يجب استبعاد القطّاع الخاص متى كان ذلك ممكناً، واستبداله بمؤسسات عامّة تدار بشكل ديمقراطي.
النيوليبرالية شكل من أشكال الرأسمالية فقط:
لكي نكون واضحين أكثر: تعني الليبرالية الجديدة الرأسمالية، فهي شكل محدد من أشكال الرأسمالية حيث تشجّع الدولة الصديقة للأعمال على تسليع المجال تلو الآخر في كلا الحياتين الخاصّة والعامّة.
إذن، هل أعضاء الحزب الديمقراطي نيوليبراليون؟ نعم، الكثير منهم كذلك، وكذلك حزبهم على العموم. لننظر في عمليات الإنقاذ الحكومية عقب الانهيار الاقتصادي عام 2008. لقد انتهجت إدارة أوباما نهجاً نيوليبرالياً عبر إنقاذ المصارف الكبرى المسؤولة بشكل كبير عن حدوث الأزمة بدلاً من تفتيتها. لقد أظهروا عبر قيامهم بهذا اعتقادهم بأنّ على الحكومة أن تتحمل مسؤولية الحفاظ على سلامة المؤسسات المالية الخاصّة.
يمكننا أيضاً أن ننظر إلى "الشراكة العابرة للمحيط الهادئ"، و"اتفاقية التجارة الدولية الفاشلة" المدعومة من أوباما والعديد من أعضاء الحزب الديمقراطي الوطنيين الذين أرادوا تقوية الشركات وتمكينها من تحدي التشريعات الاقتصادية لأيّ دولة أمام محكمة دولية. وكما أشار نعوم تشومسكي، فالنتيجة كانت لتكون "تحقيق أكبر قدر من الربح والسيطرة، ووضع العمّال في العالم في تنافس مع بعضهم البعض من أجل تخفيض الأجور وزيادة انعدام الأمن".
على سبيل المثال، يشعر أولئك الذين يعترضون على مصطلح "النيوليبرالية" بالجزع من أنّ المدافعين عن برنامج أوباما الصحي "أوباماكير ObamaCare" يمكن أن يتكتلوا جنباً إلى جنب مع الذين سيدمرونه. تذكروا بأنّ البرنامج يركّز أساساً على تخصيص إعانات مقتطعة من الضرائب تُدخل الأمريكيين في شبكات تأمين صحيّة خاصّة.
ينقسم الديمقراطيون والجمهوريون حول هذه القضية، ويعتبرونه أمراً يميّزهم بحق. إنّ الاختلافات بينهم بشأن أوباماكير ليست صغيرة ولا تافهة، ولكن إيّاكم والوقوع في الخطأ: إنّ أوباماكير هو مجرّد حلّ وسط، يهدف إلى توسيع التغطية والحفاظ على قوّة تجارة التأمين الصحي الخاصّة.
يريد الاشتراكيون برامج اجتماعية شاملة، يموّلها ويستخدمها الجميع، من دون تدخل الكيانات التي يحرّكها الربح. إنّهم يريدون تحصين السلع والخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم والإسكان وحتى إنتاج السلع الأساسية من الضغط المستمر لتحقيق الأرباح ولو على حساب كل شيء آخر.
يعتقد النيوليبراليون بأنّ المجتمع يعمل بشكل أفضل عندما يتم تزويد الشركات علانية بما تحتاجه للنمو والازدهار. يؤمن الاشتراكيون بذات الشيء تجاه القطّاع العام وليس تجاه الشركات.
يفضّل هؤلاء النيوليبراليون، ومن بينهم الحزب الديمقراطي، أن يقدّروا احتياجات الناس ويقسموها إلى معسكرين: الاحتياجات المؤهلة ليتم تقديمها بالخدمات العامّة وغير المؤهلة لذلك. هذا الأسلوب من النمذجة هو حلّ نيوليبرالي بالتحديد، فهو لا يقوّض قدرة الشركات الساعية للربح على تقديم الخدمات إلى الناس الذين تتعدى دخولهم عتبة معينة، مثل شركات التأمين الصحي مثلاً.
سيؤدي حل الرعاية الصحية الذي يقترحه الاشتراكيون (الرعاية الصحية للجميع) إلى القضاء على قطّاع التأمين الصحي الخاص. إنّ الحلّ الاشتراكي النموذجي للرعاية الصحيّة وتوطين العلاج هو أمرٌ بغيض بالنسبة للنيوليبراليين، حيث أنّهم لا يرغبون بدولة الرفاه إلّا عندما تتوازى، وتدعم بدلاً من أن تفكك، قطّاع الأعمال الخاصّة.
لذلك فالجواب لا، لا يتحد الاشتراكيون والليبراليون في السعي لتحقيق أهداف مشتركة. لا يمكن للنيوليبرالية أن تكون اشتراكية "براغماتية" إلّا بالقدر الذي تكون فيه المدراس الخاصّة المستثمرة مدارس عامّة "براغماتية"، أو الذي يكون فيه برنامج "أوباماكير" رعاية صحية للجميع "براغماتياً". إنّها جميعها مقاربات مختلفة كليّاً لتقديم الخدمات والرعاية.
منذ نشر شيت مقاله والمعلقون الليبراليون يرددون بشكل متزايد حججه عن كون "النيوليبرالية" مصطلح بلا معنى. لكنّه أبعد ما يكون عن مصطلح بلا معنى. نحن نحتاجه في الحقيقة كطريقة للتفريق بين حلول الدولة المؤيدة للسوق وبين حلول الدولة غير المؤيدة للسوق، خاصّة وأنّ الاشتراكيّة تكتسب زخماً بين الجيل الجديد من المفكرين والشباب الفاعلين.