روسيا والصين تحشدان في الفناء الخلفي الولايات المتحدة
تكتسي مسألة السياسات الروسية- الصينية في القارة الأمريكية اللاتينية أهمية بالغة، لما تحمله هذه السياسات من مواجهة سياسية واقتصادية محتمة ضد منطق الهيمنة الأمريكية الذي ساد في دول أمريكا اللاتينية منذ عقود. فاليوم، وبعد تغير موازين القوى الدولية الذي يتجلى بتراجعٍ أمريكيٍ حاد، في مقابل صعود القطب المناهض للهيمنة الإمبريالية الذي تحمل لواءه كل من روسيا والصين، ومن خلفهما مجموعة دول "بريكس"، تنفتح الفرصة أمام مناطق إقليمية كاملة للخروج من المعادلات القديمة التي تنتمي لمرحلة السيادة الأمريكية المطلقة في العالم. وفي هذا الصدد، كتب الباحث عزرا فايزر مقالاً نُشِر على صفحات وكالة «بلومبرغ» الأمريكية، يطرح فيه مخاوفه من نمو القوة الروسية الصينية المشتركة في أمريكا اللاتينية، ما يدفعنا للتنويه إلى أن ما سيلي ذكره هو «وجهة نظر أمريكية» لا تعكس بحالٍ من الأحوال رأي قاسيون.
بدأت كوبا، في الوقت الذي تضاءلت فيه إمدادات النفط من حليفها القديم فنزويلا في العام الماضي، بإطفاء أنوار المكاتب الحكومية وإغلاق مصافي النفط. ثمّ لجأت هافانا تطلب المساعدة من صديق قديم: روسيا. قام الكرملين في أوائل شهر أيار بإرسال ناقلة مليئة بالوقود عبر المحيط الأطلسي، كجزء من صفقة تهدف للحفاظ على سير العمل في الجزيرة الشيوعية لمدّة ثلاثة أشهر.
هذه هي الشحنة الأولى التي تتلقاها كوبا منذ أعوام من ولي نعمتها السابق، لكنّها ليست الإشارة الوحيدة لعودة روسيا إلى المنطقة التي تخلّت عنها بعد انتهاء الحرب الباردة. تبني موسكو محطّة تتبّع أقمار صناعية في ماناغوا وتأخذ في الاعتبار إعادة افتتاح قواعد عسكرية في المنطقة تعود لحقبة السوفييت. ذلك فضاً عن توسيع روابطها الاقتصادية، ومنح المساعدات في جميع بلدان أمريكا الوسطى والكاريبي. حتّى أنّ الرئيس فلاديمير بوتين عرض بأن يرمم مبنى الكابيتول في هافانا، والذي يشبه بشكل واضح نظيره في واشنطن.
يقول جورج بينون، مدير برنامج الطاقة في أمريكا اللاتينية والكاريبي في "جامعة تكساس" في أوستن، والذي يقدّر بأنّ قيمة شحنات الوقود الروسية إلى كوبا تقدّر بأكثر من 100 مليون دولار: "قد يكون هذا وسيلة صِرفة من الروس ليقولوا للأمريكيين: احذروا، فنحن قادرين على العودة إلى فنائكم الخلفي. ولكن يمكن أن يكون هذا التزام استراتيجي طويل الأمد، وأن تشكّل اللبنة الأولى لاستثمارات كبيرة في المنطقة".
تدعّم الصين كذلك وجودها في الحوض الكاريبي، فقد أنفقت الشركات الصينية والحكومة 6 ملايين دولار في المنطقة منذ 2012، وذلك وفقاً لحساب "معهد المشاريع الأمريكية" للاستثمارات الكبيرة. ولا تقتصر مصالح بكين على الاقتصاد فقط: فهي تريد إقناع جمهورية الدومينكان وعشر دول أخرى في المنطقة لتقطع علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان، وذلك في إطار سعيها لتقليص دور منافسها على الساحة الدولية. تعتبر جمهورية الصين الشعبية بأنّ تايوان جزء من أراضيها وفقاً لسياستها "صينٌ واحدة". لقد تنافست الصين وتايوان لسنوات على الولاءات الدبلوماسية، بعرضهم قروض منخفضة التكلفة ومساعدات صريحة.
ولكن في عام 2007، عندما تحوّلت كوستاريكا عن تايوان إلى بكين، دخلت الحكومتان في حالة انفراج في العلاقات بينهما. لكنّ ذلك قد يتغير مع انتخاب زعيم تايوان المؤيد للاستقلال تساي إنغ-ون، والذي اتصل به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد انتخابات تشرين الثاني. قامت بكين عقب المكالمة الهاتفية بإقناع الجزيرة الإفريقية الصغيرة ساو تومي وبرينسيب بقطع العلاقات مع تايوان. وسرعان ما رتب تساي للقيام برحلة إلى أمريكا الوسطى في كانون الثاني، حيث زار ثلاثة بلدان لتعزيز العلاقات معها.
ويتوقع أحد دبلوماسيي الكاريبي الكبار، والذي رفض السماح بالإفصاح عن اسمه، أن تقوم عدة دول بتحويل الولاءات خلال العام أو العامين القادمين. فكلما زادت تدفق الأموال الصينيّة: "سترون هذه الدول وهي ترمي تايوان جانباً"
وحتى قبل أن يشير ترامب إلى أنّ الولايات المتحدة ستقلل من دورها العالمي في إطار سياسته "أمريكا أولاً"، فقد كانت الصين وروسيا تستخدمان حجمهما ومواردهما للفوز بالبلدان الصغيرة، ومعظمها من الدول الفقيرة، عن طريق الوعود بالمساعدات والدعم العسكري والاستثمارات في كل شيء، ابتداءً من ملاعب الكريكت إلى مشروع قناة تمتدّ عبر نيكاراغوا. يقول إيفان إليس، وهو أستاذ دراسات أمريكا اللاتينية في معهد الدراسات الاستراتيجية التابع للكلية الحرب العسكرية الأمريكية في كارلايل: "تدرك كلّ من روسيا والصين الأهمية الجيوسياسية للمنطقة، نظراً لقربها من الولايات المتحدة. الفرق بينهما هو أنّ الصين تريد أن تنشأ لنفسها حضوراً اقتصادياً لتمركز نفسها بهدوء، بينما يناقضهم الروس. فهم يريدون استخدام وجودهم للإثارة".
في حقبة سابقة، قد تستدعي مثل هذه الغارات استجابات سريعة، قد تصل حدّ العدوانية، من الولايات المتحدة. ولكن رغم هذا فإنّ واشنطن، ومنذ نهاية الحرب الباردة، حوّلت تركيزها بعيداً عن نصف الكرة الأرضية هذا، ممّا أدى لترك مساحة فارغة أمام الصين وروسيا. يقول ريتشارد فاينبرغ، وهو زميل مهم في "مؤسسة بروكينغز" في واشنطن: «إن أخذت الصين كمثال، فهم يرون ولايات متحدة غير منظمة ومنكفئة للداخل، بينما يرون أنفسهم بالمقارنة بها منظمين جداً وقادرين على خلق رؤية بعيدة المدى للمنطقة عبر بناء النفوذ تدريجياً. ويمكنني أن أرى بسهولة كيف يحثّ هذا بوتين على جعل روسيا قوّة إقليميّة. سوف يرحب بفرصة فعل المزيد في الكاريبي».
يعترض السفير الروسي في غيانا في جنوب الكاريبي، نيكولاي سميرونوف، على فكرة أنّ روسيا تحاول إثارة الولايات المتحدة. بل يؤكد على إمكانية زيادة التعاون بين روسيا ودول المنطقة في قضايا مثل التغيّر المناخي والتجارة ومكافحة الإتجار بالمخدرات. يقول: «في السياسية الخارجية لروسيا الحديثة، هناك فرصٌ لجميع البلدان، الصغيرة منها والكبيرة، للانضمام للشراكات الاقتصادية، وكذلك السياسية. يقوم موقفنا على عدم التدخل في علاقات أيّ أحد، وعدم مزاحمة مصالح الآخرين».
لا تزال الولايات المتحدة هي القوّة الاقتصادية المهيمنة في أمريكا الوسطى ومنطقة الكاريبي، بحوالي 80 مليار دولار في اتجاهي التجارة في العام الماضي، وذلك وفقاً لأرقام مكتب الإحصاء الأمريكي. كما أنّها مصدر الاستثمارات الأجنبية المباشرة الأكبر في المنطقة، والتي بلغت 18 مليار دولار في عام 2015، وفقاً "للجنة أميركا اللاتينية والكاريبي الاقتصادية" التابعة للأمم المتحدة. غير أنّ ميزانية ترامب المقترحة تتنبأ بتخفيض بنسبة 40% تقريباً في المساعدات المقدمة إلى بلدان أمريكا الوسطى، وذلك وفقاً لتحليل أجراه "مكتب واشنطن في أمريكا اللاتينية"، وهي منظمة مناصرة لترامب.
تقوم روسيا في الوقت نفسه بتوزيع المساعدات على جزر الكاريبي الصغيرة وتعفي كوبا من ديونٍ بمقدار 32 مليار دولار. وقد تدفع رأس المال الصيني على مشاريع الفنادق في باربادوس ومحطات توليد الكهرباء في هايتي. وفي جامايكا، حيث تمّ افتتاح طريق سريع باسم "طريق بكين السريع" بتكلفة 730 مليون دولار، تعتبر أليسا نيلسون، وهي أحد مسؤولي شركة "جامايكا للتطوير" شبه الحكومية، بأنّ مشاريع البنية التحتية الممولة من الصين عنصراً رئيسياً في انتشال البلاد من الركود الاقتصادي الذي دام عقداً من الزمن.
وقد أخبر كيرت تيد، أدميرال البحرية الأميركية في قيادة القوات الجنوبية، الكونغرس بأنّه يشعر بالقلق جرّاء القوّة الناعمة التي تمارسها الصين في المنطقة، وكذلك المشاركة المتزايدة للجيش الروسي. قال: «حتّى النشاطات التي تبدو كريمة يمكن أن تُستخدم لبناء نفوذ خبيث».
لننظر إلى نيكاراغوا، والذي يقول رئيسها دانييل أورتيغا عن بوتين بأنّه "شقيقه". فبما أنّ الدولتين اتفقتا على توسيع صلاتهما العسكرية قبل عامين، فقد أرست روسيا سفنها الحربية في موانئ نيكاراغوا، وزودت الدولة الأمريكية الوسطى بالدبابات والطائرات والأسلحة. إنّها تضع الآن اللمسات الأخيرة على محطة تتبع أقمار صناعية تقع بالقرب من السفارة الأمريكية، وقد أثيرت الشكوك حول إمكانية استخدامها للتجسس على الولايات المتحدة وشركائها.
رغم العلاقة التي تبدو حميمة في الوقت الحاضر بين ترامب وبوتين، فإنّ الإدارة الجديدة تتراجع. يحظر مشروع قانون الإنفاق الذي وقعه الرئيس في أوائل أيار على الولايات المتحدة أن تموّل الدول، ومن بينها نيكاراغوا، التي تعترف بدولتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا، اللواتي استقلتا بحكم ذاتي وحاربتا إلى جانب روسيا ضدّ جارتهما جورجيا عام 2008. وعلى نحو منفصل، فإنّ السيناتور الجمهوري عن تكساس تيد كروز، هو راعٍ مشارك في مشروع قانون يدعى "قانون المشروطية النيكاراغوية"، والذي من شأنه منع منح القروض الدولية لنيكاراغوا حتّى إقامة انتخابات حرّة ونزيهة.