هافانا - واشنطن: ترسيم الصراع في المرحلة الجديدة
استضافت كوبا في الحادي والعشرين من الشهر الجاري ضيفاً ثقيلاً على تاريخ البلد المعاصر منذ انطلاق ثورته عام 1959، هو الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، لتدشن بذلك مرحلة جديدة من العلاقات السياسية والاقتصادية مع الجارة الإمبريالية، الولايات المتحدة الأمريكية، بعد ستين عاماً من العداء الأيديولوجي والسياسي والعسكري والاستخباري ..
انتهت التحضيرات التي بدأت منذ عام 2014 لفتح وتطبيع العلاقات بين كوبا والولايات المتحدة الأميركية بزيارة الرئيس الأميركي أوباما للجزيرة الكوبية المحاصرة منذ عدة عقود. الزيارة التي جاءت ببرنامج بروتوكولي حافل، عكست في نهاية المطاف حذراً متبادلاً في فتح العلاقات بين حكومتي البلدين، بالرغم من اتفاقهما على ضرورة فتحها، وطي صفحة خوض الصراع بالوسائل المباشرة المعهودة بينهما.
ضغوط.. وردود
بدا المشهد غريباً بحضور أوباما وعائلته في عاصمة الثورة اللاتينية إلى جانب الصور والرموز الثورية في هافانا، وإن أعلن عن رغبته بـ«دفن الحرب الباردة بين القارتين»، معترفاً بهافانا كمركز لقيادة الصراع ضد نظامه وأذرعه في القارة اللاتينية. ولكن في المقابل، لم يستغنِ أوباما عن الطريقة الأمريكية المعهودة في ممارسة الضغوط: «لا تزال بيننا خلافات جادة، بينها ما يتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان»، يقول أوباما، مع الإشارة في أكثر من مرة إلى أن انفتاحه على كوبا يشجّع على «التغيير» في هذا البلد، وأن زيارته ذاتها ستساهم في ذلك، بالإضافة أيضاً إلى لقائه معارضين كوبيين في السفارة الأمريكية بهافانا.
في المقابل، أظهر الرئيس الكوبي، راؤول كاسترو، حزماً عالياً بمواجهة الانتقادات الأمريكية في تصريحه: «يجب قبول واحترام الخلافات بين كوبا والحكومة الأمريكية، وألّا يجعل الطرفين منها محور العلاقات»، وتالياً الرد الأشد حزماً على أسئلة الصحافيين الأميركان عن السجناء السياسيين: «لا تتحدثوا بالعام عن سجناء سياسيين أعطونا اسماً أو أسماء لنخرجهم هذه الليلة»، موضحاً: «كم هي عدد الدول التي تحترم حقوق الإنسان؟ ولا واحدة. أما نحن في كوبا نحترم 47 حقاً ((من أصل 61 في الشرائع الدولية)). وغيرها من الدول يحترم أقل أو أكثر، وهناك دول تحترم حقوقاً أخرى، ونحن من هذه الأخيرة: هل تعتبرون الصحة المجانية حقاً؟ هل تعتبرون التعليم المجاني حقاً؟ نحن نعتبرها حقوقاً..!».
أعاد كاسترو التركيز إلى المسألة الأهم بالنسبة لهافانا، وهي رفع الحصار والعقوبات المفروضة منذ عقود، بالإضافة إلى فتح باب الاستثمارات في كوبا، والتي من المفترض أن تجري في مجالات الاتصالات والانترنت والسياحة، وهي المجالات المتفق عليها حتى الآن، إلا أنها مرشحة للتوسع، بحسب أوباما، «وصولاً إلى الاستيراد والتصدير بين البلدين»، إلا أنه رهن ذلك بموافقة الكونغرس الأميركي بغالبية، وموافقة مجلس الشيوخ بنسبة أكثر من الغالبية».
خلفية المشهد
يتبين في واقع الأمر أن أبعاد تطبيع العلاقات بين واشنطن وهافانا أكبر من الإشارات المعلنة والضمنية التي رافقت زيارة أوباما، فقبل هذه الأخيرة بيوم استقبل راؤول كاسترو والزعيم الكوبي الأسبق، فيدل كاسترو، الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، وترجم اللقاء ببيان أصدره مجلس الدولة الكوبي، بحضور كاسترو، وجاء فيه أن مادورو «يواجه بشجاعة وذكاء» التدخلات في الشؤون الداخلية لبلده «كالمرسوم الأمريكي ((وقعه أوباما)) الذي يعتبر فنزويلا عن غير حق تهديداً»، وقُلد مادورو وسام خوسي مارتي الأرفع في كوبا.
وفي موازاة ذلك، عُقد أثناء زيارة أوباما لقاءً في هافانا بين ممثلين عن الحكومة الكولومبية وجبهة «الفارك» بحضور جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، لتسوية النزاع بين الطرفين.
وكانت الأرجنتين هي المحطة الثانية لأوباما بعد هافانا، والتي شهدت فوز اليمين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ((فوز ماكري رئيساً))، حيث اعتبر أوباما أن بيونس آيرس ستكون الشريك الأبرز للولايات المتحدة، في إشارة منه إلى سعي بلاده إعادة التمركز في الصراع القائم في القارة اللاتينية من البوابة الأرجنتينية، والتي قابلها الرئيس الأرجنتيني المنتخب ماكري بحماس منقطع النظير في تصريحاته المتعددة.
التراجع المركب
إن تراجع الولايات المتحدة الأميركية في غير منطقة من العالم، وفي مقدمتها منطقتنا، يُترجم بالملموس بعملية «إعادة الانتشار» السياسي والعسكري في مناطق نفوذ جديدة في العالم. الأمر الذي يجري بجانب منه بانتقال التركيز السياسي والعسكري الأمريكي نحو منطقة المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي، وبجانب آخر يجري على شكل انكفاء نحو مناطق النفوذ التاريخية للولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن العشرين، فعلياً فيما كان يسمى «حديقة خلفية»، أي في القارة اللاتينية. هذا الأمر تجلى بدوره في التطورات العاصفة التي شهدتها الأخيرة، سواء في عودة اليمين جزئياً إلى بعض منصات الحكم- فنزويلا والأرجنتين- أو في عمليات التصعيد ضد الحكومات اليسارية، كالبرازيل ((أكبر اقتصاد لاتيني، وعضو مجموعة البريكس)).
أشكال المواجهة الثلاث
في ظل وضعية كهذه، تشتغل هافانا، وهي الخبيرة في مواجهة الإمبريالية، على دفع الصراع مع الأخيرة ليتخذ أبعاداً وأشكالاً جديدة. ومن خلال التطور الأخير، يكون الصراع دخل بثالث شكل له منذ انطلاقه مع تفجر الثورة الكوبية في 1959، الشكل الأول اتخذ طابع المواجهات المباشرة وصولاً إلى الأعمال العسكرية والاستخباراتية المتبادلة بين الطرفين حتى نهايات التسعينات. أما الشكل الثاني: تمكّنت هافانا من توسيع جبهة الصراع، لتنتقل إلى أرجاء القارة اللاتينية بأكملها، مستفيدة من التراجع الأميركي على وقع الأزمة الرأسمالية العالمية، وتمكنت في هذه المرحلة من تقديم بلدان لاتينية أخرى وازنة بالمعنى الاستراتيجي في الصراع مع الولايات المتحدة ((فنزويلا- تشافيز بدرجة أساسية)). أما الشكل الثالث ((الحالي)) والذي لمّا تتبلور ملامحه كلها بعد، وإن بدأت بالظهور في زيارة أوباما لهافانا، فيتخذ شكلاً نقيضاً للأول، حيث تنطلق علاقات مباشرة بينهما مع بقاء كل طرف ممسكاً بأوراقه. وهو ما يعكسه الموقف السياسي والإعلامي الكوبي العام، بأن كوبا تطمح إلى إنهاء الحصار والعقوبات الاقتصادية بالدرجة الأولى، وهي بلا شك على دراية جيدة بالمكائد الأميركية ومعتادة على مواجهتها.
هذا الموقف عبر عنه كاميلو غيفارا ((ابن ارنستو تشي غيفارا)) في حديثه لصحيفة «the guardian» البريطانية، بالقول «إن من طبيعة الولايات المتحدة الإمبريالية أن تغدر بك، ولكن فلننتظر لنرى..»، مضيفاً بأنه: «مهما حصل لن تسوء العلاقة بين البلدين أكثر مما كانت».
إلى أين؟
فيما عدا العبارات الترحيبية البروتوكولية بين راؤؤل كاسترو وأوباما، فإن الإشارات كلها التي صدرت عن اللقاء تؤكد أن هافانا وواشنطن ليستا بصدد انجاز تقارب متبادل، بقدر حرصهما على ترسيم الصراع فيما بينهما وتنظيمه بعملية اتصال دائمة ومفتوحة. ويعول الكوبيون على الاستفادة من رفع الحصار والعقوبات، وهو انجاز غاية في الأهمية بالنسبة لهافانا، في ظل تأزم الداعمين التقليديين، فنزويلا على نحو أساسي، فيما تجد واشنطن بمثل هذه العلاقة بوابة جديدة لها لمواصلة حربها على القوى الاجتماعية العنيدة المناوئة لها في القارة الأميركية الجنوبية، بعد فقدانها مواقع مهمة خلال 18 عاماً.