تفجير أسبوعي في تركيا.. وأبواب العودة إلى الماضي محكمة الإغلاق!

تفجير أسبوعي في تركيا.. وأبواب العودة إلى الماضي محكمة الإغلاق!

شهدت مدينة أنقرة التركية خلال ثلاثة أسابيع تفجيرين إرهابيين، الأول كانت حصيلته 29 ضحية تبناه فيما يقال تنظيم اسمه "صقور حرية كردستان" واستهدف حافلات نقل عسكرية، والثاني يوم أمس وأوقع، حتى الآن، 37 ضحية، مستهدفاً حافلة نقل مدنية في منطقة شديدة الازدحام من العاصمة التركية.

قاسيون- أحمد الرز

التفجير الأخير يحمل رقم 10 ضمن سلسلة تفجيرات متفاوتة الشدة والتأثير استهدفت تركيا منذ بداية العام الحالي، أي أنّ 10 تفجيرات استهدفت تركيا خلال شهرين ونصف، بمعدل تفجير كل أسبوع!

إنّ القراءات المتعددة والمتباينة، والمتناقضة حتى، لأسباب هذه التفجيرات والجهات التي تقف وراءها، تفوّت على المتابعين وعلى عموم الناس فرصة فهم السياق العام الذي تجري ضمنه هذه التفجيرات. نعتقد أنّ السياق العام لهذه التفجيرات يتلخص بالنقاط التالية:

أولاً: إنّ التوافق الروسي- الأمريكي على إنهاء الأزمة السورية بشكلها العنفي والإرهابي القائم حالياً، والذي تجلى حتى الآن باتفاق وقف الأعمال العدائية، وبإطلاق أعمال جنيف3 رغم الرفض الواضح، المعلن منه والمستتر، لأطراف سورية عديدة لفكرة الحل السياسي من أساسها، الرفض الذي تضطر هذه الأطراف المتشددة لابتلاعه تدريجياً، ويوماً بعد الآخر، إنّ هذا التوافق الروسي- الأمريكي على المسألة السورية، التي يتكثف فيها وحولها الصراع الدولي بأسره، يعكس توافقاً أوسع بكثير تقرّ بموجبه واشنطن بتراجعها على الساحة العالمية وبأنها لم تعد شرطي العالم، وبأنّها بدأت بالتكيّف السريع مع الوقائع الجديدة ومع العالم الجديد.

ثانياً: عملية التراجع الأمريكية هذه، والتي باتت أمراً واقعاً، تلقى رفضاً شرساً من جهتين أساسيتين، الأولى هي التيار الفاشي العالمي، المتمركز في واشنطن نفسها، والممتد على الخريطة العالمية أنّى وجد رأس المال المالي الإجرامي المشتغل بالسلاح والمخدرات والإتجار بالبشر بأشكاله، والمرتكز إلى سيادة الدولار عالمياً وإلى إنتاج مستمر للأزمات والحروب البينية الواسعة. هذا التيار هو المسؤول الأول عن إنتاج «داعش» ومثيلاتها وعن إعادة إنتاج النازيين الجدد و«القطاع الأيمن»، وما شاكلهم.. هذا التيار يرفض الانتقال نحو عالم جديد لا تسود فيه واشنطن، أي لا يسودون فيه هم بالذات، لأنّ الأزمة الرأسمالية العالمية تهددهم وتهدد نمط النشاط الاقتصادي الذي يعملون به أكثر من أي نمط آخر.. وإنّ عالمية هذا التيار هي فقط ما يفسر الامتداد العالمي لظواهر الإرهاب الذي يضرب اليوم في عشرات الدول وفي القارات جميعها..

ثالثاً: الجهة الثانية الرافضة للتراجع الأمريكي، هي الأنظمة التي تنتمي إلى مرحلة «الاستقرار» السابق، سواء تلك التابعة مباشرة للأمريكي، أو غير التابعة مباشرة، إنّ مجمل هذه الأنظمة التي تشكل في عمقها امتداداً للنمط الاقتصادي الأمريكي الليبرالي الجديد، هي أنظمة متهتكة أنهكت شعوبها وبلدانها بكم هائل من المشكلات الاقتصادية- الاجتماعية التي أنتجت كماً أكبر من المشكلات السياسية، حتى لقد بات واضحاً لدى هذه الأنظمة أنّ الانتقال إلى «عالم جديد» لا تسوده واشنطن، يعني ضمناً وبشكل طبيعي انتقالها هي إلى متاحف التاريخ.

وبكلام آخر، وفي الشأن التركي تحديداً، فليس مهماً أن يتهم أردوغان نفسه، أو أن تتهم «داعش» أو «القاعدة» أو غيرها بهذه التفجيرات، فهذه تفاصيل جنائية الطابع وليست سياسية.. السياسي في المسألة، أنّ تقاطعاً في الرغبات والمصالح بين المركز الفاشي العالمي وبين أنظمة في طور الأفول هو ما ينتج هذه العمليات.

وإذا كان الأكراد قد تم اتهامهم بتفجير الأمس، عبر الإيحاء أحياناً وعبر الكلام الصريح أحياناً أخرى من مسؤولين أتراك، فإنّ هجمات الطيران التركي اليوم على مناطق في شمال العراق، استهدفت فيما يقال مواقع لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً من وجهة النظر الرسمية التركية، ليس سوى «تتمة منطقية» للتفجيرات، فتركيا التي تخضع لضغط هائل باتجاه كفّ يدها عن الشأن السوري، الذي يتكثف فيه الصراع الدولي، وعلى أساس شكل حلّه سيعاد إنتاج المنطقة بأسرها بمعنى الأوزان والتوازنات السياسية- الإقليمية، تركيا- أردوغان هذه، لا تزال تحمل ورقتين تتعلقان بسورية، اللاجئين والمسألة الكردية، الأولى يجري تأريضها بشكل متصاعد، والثانية يجري تفعيلها تركياً وفاشياً..

أي أنّ المسألة الكردية التي تبدو مدخلاً تركياً إلى الداخل التركي وإلى العراق، هي مدخل تسعى تركيا في توسيعه للبقاء متحولاً ثقيلاً ضمن المعادلة السورية.

تزداد المسألة تعقيداً حين يدخل فيها عامل لا يجوز إغفاله نهائياً، وهو أنّ التيار العالمي المقابل للفاشية، ما يصطلح على تسميته بالتيار «العقلاني» الذي يسعى إلى التكيف مع الواقع العالمي الجديد، لا يوفر فرصة يستطيع من خلالها الاستفادة من «جهود الفاشي» في تأخير الصعود الروسي- الصيني إلّا ويستغلها..

 بالمحصلة، فإنّ ازدياد تواتر الأعمال الإرهابية، يعني في عمقه تعطّل مختلف الأدوات الأخرى، ويعني أيضاً أن التيار الفاشي بمركزه وأطرافه، وبالمتضامنين معه من أنظمة إقليمية، يعيشون جميعاً مراحل متقدمة على طريق أفولهم.. ويعني في النهاية أنّ مختلف أنواع التفجير عاجزة عن فتح أبواب التاريخ الموصدة نحو العودة إلى الماضي..