أزمة «24 - SU»: الورطة التركية والرد الروسي
ارتفعت حدة التوترات الجيوسياسية بين روسيا وتركياـ الدولة العضو في حلف «شمال الأطلسي»- هذا الأسبوع، بعد قيام سلاح الجو التركي بإسقاط الطائرة الحربية الروسية «24 - SU» فوق الأراضي السورية، في أثناء عملياتها ضد التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري.
خلال الساعات الأولى لانتشار النبأ، أبدى الكثير من الخبراء والمحللين توقعاتهم حول انهيار العلاقات السياسية والاقتصادية الروسيةـ التركية، مشيرين إلى أن الحادث الأخير من شأنه أن يتدحرج وصولاً إلى انقطاع العلاقات بشكل كامل.
وقبل مناقشة هذه الطروحات، لا بد من الإشارة إلى أن المصلحة العميقة وراء احتمال تردي العلاقات بين موسكو وأنقرة، إنما هي أمريكية خالصة، مرتبطة باستراتيجية واشنطن المعتمدة على قطع الروابط بين روسيا ومجالها الحيوي، وتعمد خلق الأزمات على طول الخط الفاصل بين آسيا وأوروبا، هذا استراتيجياً. أما تكتيكياً، فتنبني المصلحة الأمريكية من الحدث الأخير، على أساس تأخير قيام جبهة واسعة لمكافحة الإرهاب في سورية، فضلاً عن محاولة تعطيل سكة «فيينا» التي باتت عنواناً للحل السياسي في سورية.
الرد في سياق التسويات
يتوقع الناس، ومعهم وسائل الإعلام العربية والعالمية، رداً روسياً قاسياً على ما فعلته تركيا. في الواقع، وبينما تذهب تصورات البعض إلى حدود ضربات عسكرية روسية ضد تركيا، جاء الرد الروسي، في أول أوجهه، بنشر منظومة صواريخ «S400» في قاعدة حميميم الجوية شمال سورية، المنظومة التي على ما يبدو أنه سيكون لها دور رئيسي في ضبط الحدود السورية- التركية، في إطار مساعي الحل السياسي التي تدفع موسكو في اتجاهها.
لكن، وفضلاً عن نشر منظومة الصواريخ هذه التي تشكل بحد ذاتها رداً موجعاً على النزعات «الحربجية» الموجودة في تركيا وغيرها، هل من الممكن أن تتدحرج الأمور وصولاً إلى رد روسي كبير وواسع النطاق يقطع بشكل نهائي أي رابط بين موسكو وأنقرة؟
تبعات القطيعة: أنقرة وسندها الأوروبي
في حال سيناريو كهذا، فإن الخلاف الدبلوماسي الجاري اليوم في العلاقات الروسية- التركية من الممكن أن يتفاقم، وصولاً إلى تهديد الصفقات الاقتصادية والتجارية الكبرى المعقودة بين الدولتين، وهو ما لم يخرج، حتى الآن، عن سياق التهديدات الدبلوماسية.
يوم الأربعاء 25/11/2015، وعلى خلفية الحادث، قال رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيدف، أن الإجراء التركي قد يؤدي إلى إلغاء مشاريع مشتركة، وأن الشركات التركية قد تفقد حصتها في السوق الروسية، طالباً من الحكومة الروسية وضع التدابير التي من الممكن أن تشمل تجميد بعض المشاريع الاستثمارية مع تركيا وبعض واردات الغذاء منها.
تركيا هي ثاني أهم شريك اقتصادي لروسيا، بعد ألمانيا، في أوروبا. وإذا مضت روسيا إلى قطع العلاقات الاقتصادية مع تركيا، فإن الآثار الناجمة عن ذلك في الداخل التركي ستكون عواقبها وخيمة بلا شك.
ففي مجال الطاقة، هناك عدد من الصفقات التجارية الثنائية، ومشاريع البنى التحتية الكبرى بين تركيا وروسيا، من الممكن لها أن تتأثر بشكل كبير إذا تفاقم الخلاف الدبلوماسي، بما في ذلك البناء المقترح لخط أنابيب الغاز بين البلدين «السيل التركي»، فضلاً عن محطة «AKKUYU» التركية للطاقة النووية. وفي هذا الإطار، لوح وزير الاقتصاد الروسي، ألكسندر نوفاك- الذي أجرى اجتماعاً لمناقشة وقف الاستعدادات لإقامة منطقة تجارة حرة مع تركيا- بورقة مشروع السيل التركي الذي قال إنه من الممكن أن يتوقف.
باعتبارها واحدة من أكبر عملاء روسيا في مجال الطاقة، تستورد تركيا 55% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من موسكو، و30% من احتياجاتها من النفط أيضاً. أي أن الضرر المحتمل الذي ستتعرض له صفقات البنية التحتية من شأنه أن يكون كارثياً على تركيا، هذا فضلاً عن الخسائر على صعيد السياحة التي تعود على تركيا بما لا يقل عن 96 مليار دولار.
التجارة: من 30 إلى 100؟
يوم الخميس الماضي، توصل وزير الزراعة الروسي، ألكسندر تكاتشاف، إلى أن روسيا قد وجدت حالات متعددة من المنتجات التركية التي لا تفي بالمعايير الروسية، تلويحاً بإمكانية منع دخولها إلى البلاد، مشيراً إلى أن «الخضار التركية تشكل نحو 20% من واردات الخضروات إلى روسيا»، وأن البلاد «من الممكن أن تختار الشراء من أي منتج آخر للخضروات». كما قال إنه من الممكن «تغيير وجهة صادرات القمح الروسي إلى تركيا نحو أماكن أخرى في الشرق الأوسط».
في عام 2014، وفقاً لإحصاءات وزارة التجارة الخارجية التركية، كانت الصادرات التركية إلى روسيا بحدود 5.9 مليار دولار، في حين ارتفعت الواردات الروسية إلى تركيا لتصل إلى 25.2 مليار دولار. ذلك قبل أن يؤكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال الاجتماع الودي الذي جمعه مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في شهر أيلول الماضي، أن هدف تركيا هو رفع التجارة الثنائية إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2023.
ما هو الرد الروسي إذاً؟
مما سبق ذكره، يمكن الاستنتاج بأن حدود الرد الروسي لم تخرج حتى الآن عن إطار كسر الدور الوظيفي الذي تلعبه تركيا لمصلحة واشنطن في الإقليم. ففي مقابل الدفع باتجاه إغلاق الحدود التركية- السورية في وجه التنظيمات الإرهابية، وإعاقة هوامش المناورة في وجه الحكومة التركية على هذا الخط، نجد أن الردود الأخرى لم تخرج عن إطار التهديد الدبلوماسي والتذكير بعمق العلاقات الاقتصادية الروسية التركية، والخسائر المهولة التي من الممكن أن تتعرض لها أنقرة فيما لو واصلت اللعب على الحبل المشدود بين واشنطن وموسكو.
تدرك روسيا جيداً أن قطعاً نهائياً للعلاقات مع أنقرة يصب في نهاية المطاف لمصلحة التيار الفاشي داخل الإدارة الأمريكية: استراتيجياً، من خلال عرقلة مشاريع الربط بين آسيا وأوروبا، وتكتيكياً، عبر استفادة واشنطن من الوقت الضائع الذي يخلفه هذا النوع من المناورات التركية على مسارات الحل السياسي. وعليه، يبقى أمام روسيا محاولة كبح جماح المتشددين داخل تركيا، وإفشال محاولات واشنطن للتعمية على المصالح العميقة التي تربط تركيا بروسيا, فما يهم القطب الصاعد، بطبيعة الحال، هو تذليل العقبات الموضوعة في طريقه، والاستفادة من القوى الأوراسية جميعها في إطار المشاريع الكبرى الخارجة عن الهيمنة الأمريكية.