الهبة الشعبية.. وشروط التحول لانتفاضة

الهبة الشعبية.. وشروط التحول لانتفاضة

 

دخلت موجة التحركات الشعبية الفلسطينية أسبوعها الثاني، بتعبيراتها التي تتراوح بين أشكال التظاهر والاحتجاج، والاشتباك بالحجارة والمقلاع وقنابل المولوتوف الحارقة مع حواجز الاحتلال العسكرية، وبؤر مستعمريه وقواته الاحتلالية المتحركة في أكثر من مدينة وقرية داخل الضفة الغربية المحتلة.

مع هذا كله، تكون الحركة الوطنية بقواها السياسية المنظمة والإطارات الشبابية المستقلة (ذكوراً وإناثاً) في الجامعات، وبدرجة أقل في الثانويات، قد برهنت على قدرة واضحة في الحفاظ على ديمومة المواجهات في العديد من نقاط الاشتباك.


القدس في عين العاصفة

كانت ومازالت وستبقى مدينة القدس المحتلة، خاصة قسمها الشرقي، بأحيائه وقراه ومخيماته، هي صاعق التفجير في أية مواجهات تشهدها الضفة المحتلة. مكانة القدس ورمزيتها الدينية: الإسلامية والمسيحية، وبشكل خاص، ما يتعرض له المسجد الأقصى من اقتحامات شبه يومية من اليهود الصهاينة: مسؤولين حكوميين وحزبيين ومنظمات فاشية دينية وعنصرية، ومن قرارات خطيرة لحكومة العدو تبيح «التقسيم الزماني والمكاني» بين المسلمين واليهود. 
ذلك ما أشار إليه الكاتب والمحلل السياسي، ألكس فيشمان، مؤخراً في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بقوله: «إن حقيقة التحريض حول ما يطلقون عليه «الإخلال بالوضع القائم في المسجد الأقصى» هو الرافعة المركزية لتصعيد المواجهات في القدس، وهذا الأمر هو سبب الاشتعال المركزي لما يحدث اليوم». كما أن الجريمة الوحشية التي تعرضت لها عائلة الدوابشة حرقاً، بالإضافة إلى تنفيذ عدد من القرارات المجحفة المتعلقة ببيوت المواطنين العرب: الاستيلاء عليها وطرد أصحابها، أو هدمها تحت حجج واهية، وفرض الضرائب على المحلات التجارية العربية، وسحب الهويات، عملت جميعها على سكب البنزين على الجمر الكامن، فكانت الهبة المتدحرجة من حي إلى مخيم، ومن حارة إلى قرية في داخل منطقة القدس الكبرى.
وقد ساعد على تفجرها بهذا الشكل، خروج المنطقة عن سطوة القوى الأمنية للسلطة. هذه الهبة ترافقت مع العمليات الفردية البطولية التي مهدت لها أو ترافقت معها: الطعن بالسكين والدهس والزجاجة الحارقة والسلاح الناري، مما ساعد على توهج شرارة القدس، ووصول نيرانها إلى مناطق عديدة من أراضي الضفة، وبعض المدن والبلدات المحتلة منذ عام 1948.


دور العمليات الفردية

شكلت العمليات البطولية على مدار الخمسة عشر شهراً الماضية، محطة هامة على طريق المواجهات، والرد على جرائم القتل التي قامت بها عصابات الإجرام: جيش الاحتلال وعصابات المستعمرين «المدنية» كجماعات «تدفيع الثمن». وتأتي أهمية واستثنائية تلك العمليات من كونها أحد أشكال الرد الفردي- سواء العفوي المستقل أو المرتبط بأحد التنظيمات- على مجازر العدو، في فترات الكمون الشعبي الناتجة عن/ والمرتبطة بوظيفة السلطة في تعميم أجواء «السلام» الموهوم والرخاء الاقتصادي الكاذب، وملاحقتها المستمرة لاعتقال المقاتلين، حملة السلاح المقاوم في الكتائب والسرايا والألوية المقاتلة. 
أثبت أبطال وبطلات السلاح الأبيض، حضوراً بارزاً في الأسبوع الأول من عمر التحركات/ الهبة، الحالية، في مدن عدة بالضفة، وبعض مستعمرات الوطن المحتل منذ عام 1948 (تل أبيب وبتاح تكفا وكريات غان والعفولة). وأسفرت هذه العمليات عن سقوط منفذيها/ منفذاتها، شهداء/ شهيدات بأسلوب الإعدام/ التصفية الفورية، لكنها شجعت قطاعات شعبية للدخول لأرض المواجهات التي سالت فيها دماء عدة مئات من الجرحى/ الجريحات، في أكثر من مائة نقطة اشتباك. لكن التطور الهام كان في طبيعة المواجهات الشعبية الواسعة، التي استخدم فيها السلاح للتصدي لقوات العدو التي حاولت اقتحام مخيم «شعفاط» القريب من القدس المحتلة، للوصول إلى منزل منفذ إحدى عمليات الطعن في القدس (صبحي أبو خليفة).


الهبة في عيون العدو

أرخت التحركات الشعبية والعمليات الفردية بظلالها القاتمة على حكومة العدو في كيفية التعامل مع الحدث الراهن، كما كشفت ردود الفعل الحكومية الحالة المأزومة التي تعاني منها السلطة والقيادة العسكرية، وطبيعة التباينات بين القيادة العسكرية والأمنية، ليس في قراءة الحدث، بل وفي طريقة التعامل معه. وما بين جلسات الطاقم الوزاري المصغر «الكابنت»، والأوامر الصادرة، تتضح حالة التأزم: ألغى نتنياهو زيارته المقررة لألمانيا، وجرى تشديد الإجراءات الرقابية الأمنية على شبكات التواصل الاجتماعي، وصدر نداء لكل مستعمر/ مستوطن لديه رخصة حمل سلاح بأن يحمله في أثناء تجواله، عدا عن أوامر بإطلاق الرصاص على الفاعلين في المظاهرات، وضرورة القمع السريع للمظاهرات التي انطلقت في الناصرة ويافا وكفر كنا واللد للتضامن مع الضفة والقدس.
بعض الكتاب والمعلقين الأمنيين في الإعلام، رأوا في الإجراءات الحكومية التصعيديّة التي أقرّتها الحكومة: توسيع الاعتقالات والعقوبات الجماعية وهدم للبيوت وإطلاق الرصاص بشكل كثيف، ستعمل على تحفيز الفلسطينيين ودفع قطاعات جديدة منهم للتظاهرات وعلى مواصلة الصدام.


السلطة والتعامل مع الهبة

وضعت عمليات الطعن وسقوط سبعة شهداء وحوالي ثمانمائة جريح، ومئات عدة من الإصابات بالاختناق حتى الآن، سلطة المقاطعة في موقف صعب. لكن رئيسها بقي مصراً على مواقفه «التصالحية والسلمية، وضد السلاح والعنف» كما جاء في أكثر من لقاء إعلامي وأحاديث متعددة. كما أن التنسيق الأمني ما زال فاعلاً، كما كتب، عاموس هرئيل، في «هآرتس» قبل أيام: «التنسيق الأمني بين «إسرائيل» والسلطة مستمر، لكن مستواه يتغير من منطقة إلى منطقة». لكن المطمئن أن عدداً كبيراً من كوادر وقواعد حركة «فتح» لهم رؤية أخرى تعبر عنها مشاركتهم بالمواجهات واستخدامهم للسلاح بشكل محدود.

استنتاج

حتى تتحول الهبة الشعبية إلى انتفاضة، لابد من صياغة برنامج سياسي وكفاحي واجتماعي، تصوغه القوى والحركات والأطر الفاعلة في الميدان، يكون قادراً على حشد الآلاف من المواطنين، لتتشكل على أساسه قيادات التنسيق المحلية/ القطاعية، التي تنتخب قيادتها المركزية، بعيداً عن الاستفراد والمحاصصة والوصاية والتوظيف الفصائلي.