ماركس ضد سبنسر... حرب عملة عالمية؟
«ليس المهم ان تكون القطة ييضاء او سوداء، ما دامت تصطاد الفئران».... دينغ هسياو بنغ
هز قرار المصرف المركزي الصيني بخفض سعر صرف اليوان تجاه الدولار الاميركي، الاسبوع الماضي، الاسواق المالية العالمية، وبث الخوف في اوساط البلدان الراسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية، من اندلاع حرب عملات عالمية، وهي الاقرب من الناحية الاقتصادية لحرب عالمية حقيقية.
لهذه الحادثة دلالات عدة، أولاها المسافة التي قطعتها الصين منذ بدء الاصلاحات الاقتصادية التي اطلقها دينغ هسياو بينغ تحت عنوان «ان اي شيء يدعم الاشتراكية لهو اشتراكي»، اذ انتقلت الصين منذ ذلك الوقت من بلد كبير ذي ايديولوجيا جذابة، لكن فقير اقتصاديا، الى اقوى قوة اقتصادية في العالم، تجاوز اقتصادها اقتصاد الولايات المتحدة بحسابات القدرة الشرائية، ومن المتوقع تجاوزه بحسابات الدولار الاميركي في 2026. هذا الانجاز التاريخي قل مثيله في التاريخ الاقتصادي، وهو يشبه في مضامينه وعلاماته التاريخية قفزة بريطانيا اثر الثورة الصناعية والثورة الفكرية، لادام سميث، لتصبح البلد الراسمالي الاول بامتياز، ولتتصدر الولايات المتحدة البلاد الراسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، والانطلاقة الكبيرة للاقتصاد السوفياتي منذ الثلاثينيات حتى الستينييات من القرن العشرين.
الصين اليوم اصبحت المحرك الاساسي والثقل المركزي الصناعي في العالم، واصبحت حصصها من التجارة العالمية والتصنيع على المستوى العالمي، كبيرة. وللتصنيع أهمية كبرى، اذ إنه على الرغم من ان البعض يعتقد ان اليوم هو عصر الاقتصاد الرقمي او المعرفي او الاخضر الخ، وان الخدمات هي الاساس في الاقتصاد، يبقى التصنيع أساس خلق الثروة من اجل تطوير او الحفاظ على مستوى المعيشة، ومن اجل خلق التكنولوجيا التي هي اساس النمو الرأسمالي، الذي بدونه ينهار النظام برمته.
الدلالة الثانية أن الاقتصاد الصيني بدأ يواجه افقا من الحدود لنموه العالي، الذي تراجع هذه السنة الى 7%، وهو على الرغم من كونه خياليا اذا قارناه بمعدلات النمو حول العالم (الاقتصاد في منطقة اليورو نموه 0.3%!) الا انه اقل من معدله التاريخي الذي بلغ الـ 9%. وكانت القيادة الصينية قد حددت ما سمته سمة الاقتصاد في المرحلة المقبلة على انه «الطبيعي الجديد» (new normal) إعداداً لقبول الشعب الصيني هذا الانخفاض في النمو، وعملية البدء باعادة التوازن الى الاقتصاد لناحية زيادة الاستهلاك الداخلي، وذلك عبر رفع الاجور وخفض الادخار العالي، الا ان الازمة الاخيرة في الاسواق المالية، وخسارة الكثيرين لمدخراتهم، كما التباطؤ في الانتاج الصناعي والتصدير، الذي سجل أخيرا، جعلت الصين تذهب الى الخيار التقليدي، وهو خفض سعر صرف العملة، ما يعكس ضعفا داخليا، الا انه عكس قوة خارجية للاقتصاد الصيني.
الدلالة الثالثة هي ان العالم الرأسمالي لا يزال عرضة لحرب عملات، على الرغم من تجاوزه لهذه الامكانية بُعيد الازمة العالمية في 2008، على عكس ما حصل في الثلاثينيات بعد الكساد العظيم، حيث اتبعت البلدان الرأسمالية «سياسة افقار الجيران»، بحيث تحاول الدول عبر خفض قيمة عملتها حل مشكلة الطلب الناقص داخليا عبر التصدير الى الخارج، ومن المفارقة ان دولة او دولتين تستطيع فعل ذلك، الا انه عندما تحاول جميع الدول ذلك، فان النظام يتوقف عن العمل، وبهذا السباق تشتعل الحرب الاقتصادية. في الثلاثينيات زادت هذه الحرب التوتر القائم اصلا في العلاقات بين الدول، الذي اوصل الى الحرب العالمية الثانية. اما الان، فالصراع العالمي بشأن التجارة والاسواق بدأ بالفعل على الرغم من تطمينات بن برنانكى، حاكم الاحتياطي الفدرالي الاسبق، في 2013 من ان السياسات النقدية في الدول الرأسمالية بعيد الازمة الاخيرة «ليست «افقار الجيران»، بل هي ذات منفعة للجميع، او سياسات «اغناء للجيران»». طبعا نسي برنانكى ان من بين «الجيران» دولا مثل الصين ودول البريكس، وهي من الخاسرين، وبالتالي عندما يتطلب وضعها الداخلي ذلك، فإنهم ستلجأ الى الرد بالمثل، اذ يتوقع البعض ان يخفض اليوان بحوالي 10% خدمة للاهداف الصينية المستجدة.
في كتابه «حروب العملات» يصف جايمس ريكاردز كيف ان الولايات المتحدة تستعد لمخاطر عالم جديد عبر محاكاة حول حرب عالمية جرت في احد المختبرات الاميركية، التي تجري فيها محاكاة الحروب لمصلحة الجيش الاميركي، ولكن هذه المرة هي حرب عملات ومال، تجري فيها محاولة صد هجمات تتحرك في اسواق العملات والذهب والاسواق المالية، بهدف زعزعة استقرار الاسواق المالية للدول الراسمالية والولايات المتحدة، واصل هذه الهجمات هو روسيا. في الواقع اليوم يتململ المارد الصيني قليلا فيهتز العالم وترتعد فرائص الولايات المتحدة واوروبا، ليس لانها ترتعب بسهولة، بل لانها تعلم ان قيادتها للعالم على المحك، وان المارد الشيوعي الذي وإن سلمنا جدلا [ان اقتصاده رأسماليّ، الا ان السيطرة السياسية والاقتصادية للحزب الشيوعي، التي من الناحية التاريخية تهيّئ القاعدة المادية للاشتراكية، قد تحسم الصراع التاريخي بين منظومة تندثر ومنظومة جديدة تخلق، وتحقق بمفارقة ما قصده خروتشوف عن تفوق الاشتراكية على الرأسمالية في ذلك اليوم التشريني في موسكو، عندما قال للديبلوماسيين الغربيين «اننا سنقبركم».
المصدر: الأخبار