حقيقة ما جرى في اللاذقية: نظرة علمية واقعية تبدّد ضباب الاشاعات!
قيل قديماً ان “الحقيقة هي أولى ضحايا الحروب” لما لضجيج الوسائل الاعلامية وقدرتها في ظل زوبعة صخب المعارك على اثارة مخاوف، ولو وهمية، ونفوذها الطاغي ايضاً على تشكيل رأي عام يخدم مخططاتها ومموليها. وتتجلى خطورتها في الحملة الدولية والاقليمية على سورية لطمس حقيقة ما يجري وترويج اساليب الاثارة.
اطراف المعارضة المسلحة، بدعم ورعاية وتمويل خارجي يفوق قدراتها الذاتية، تنشر وقوع احداث وتنسبها لخصمها المتمثل بالدولة السورية، وعادة لا تصمد امام التدقيق والتمحيص في غالبيتها، بغية التأثير على الرأي العام واصطفافه الى جانبها.
لعل مقاربة ليست ببعيدة تلقي الضوء على نموذج لخطورة تلك الجهود الممولة خارجيا: اذ كشف السفير الاميركي السابق لدى لبنان، جيفري فيلتمان، ان الولايات المتحدة واعوانها الاقليميين لا سيما دول الخليج، انفقت ما يربو على 500 مليون دولار لجهود اعلامية ترمي الى “تشويه صورة حزب الله في لبنان،” بعد انتصار لبنان في حرب عام 2006؛ ذهب معظم الاموال بصيغة رشاوى لاعوان محليين لكنها اخفقت في تحقيق المراد.
في هذا السياق، برزت في الحالة السورية، وتبرز بين الفينة والاخرى، ادعاءات لوقوع مجازر ضد المواطنين واسنادها دون دلائل مادية باستخدام اسلحة كيميائية.
التغطية الاعلامية الاميركية الشاملة، وعلى مدى ساعات اليوم، فاقمت المسألة بانضمام مواقع متعددة على شبكة الانترنت ومحطات التلفزة المختلفة في سباق صحفي يدعي حصوله على أحدث الانباء. وبالنظر الى ان الفِرَق الاعلامية الغربية المختلفة، كما شهدنا خلال العدوان على العراق وليبيا، تستثني مرافقة الجيش العربي السوري في عملياته، او المجموعات المسلحة، بل تلجأ مؤسساتها الرئيسة الى نسبة انبائها لتسريبات من هذا الطرف او ذاك – مما يضر بسلامة وصدق المعلومة.
في هذا الصدد، انهمكت مختلف الوسائل الاعلامية في نقل “اعلان لمسؤول اميركي بمسؤولية “اسرائيل” عن قصف مخزن للأسلحة السورية بالقرب من ميناء اللاذقية،” ماضية في القول ان المخازن كان بداخلها صواريخ روسية مضادة للسفن من طراز ياخونت “وصلت في وقت مبكر من العام الجاري للجيش السوري.” وسرعان ما تباينت تفاصيل النبأ والرواية بين الوسائل الاعلامية المختلفة، واسنادها الى مصدر معين لم يتم الكشف عن هويته.
على سبيل المثال، زعمت يومية “صنداي تايمز” البريطانية ان الهجوم تم عبر غواصة “اسرائيلية” من طراز دولفين، بدعم لوجستي من الولايات المتحدة. اما المصدر الذي استندت اليه فكان “مصدر استخباري شرق اوسطي” دون هوية محددة.
أما شبكة “سي ان ان” الاميركية للتلفزة، فقد زعمت ان الهجوم قام به “سلاح الجو الاسرائيلي،” استنادا الى رواية “ثلاثة مسؤولين اميركيين” سربوا لها ذاك الخبر.
شبكة “روسيا اليوم” للتلفزة باللغة الانكليزية زعمت ان الطائرات “الاسرائيلية” شنت الهجوم انطلاقا من قاعدة عسكرية على الاراضي التركية، استنادا الى مراسلتها في فلسطين المحتلة، بولا سلاير. وقالت المراسلة ” اخبرنا مصدرنا ان طائرات مقاتلة اسرائيلية اقلعت من قاعدة عسكرية داخل تركيا اقتربت من اللاذقية من اتجاه البحر لضمان عدم اختراقها للاجواء السورية وكي لا تكون هدفا مشروعا لسلاح الجو السوري.” سياق الخبر يؤدي بالمتلقي الى الاستنتاج بأن “المصدر” المقصود هو من داخل الاجهزة الاستخبارية “الاسرائيلية.”
الحكومة التركية استشاطت غضبا ودان وزير خارجيتها داوود اوغلو تقرير “روسيا اليوم،” قائلا ان “تركيا لن تقبل ان تكون طرفا او شريكا في مثل تلك الهجمات. اولئك الذين ادلوا بتلك الادعاءات يرمون الى تشويه سمعة وقوة تركيا.”
أمام هذا الصخب وخلط الاوراق، تجاهلت معظم الوسائل الغربية، لا سيما المذكورة اعلاه، نبأً مصدره وسيلتين اعلاميتين لا تتمتعان بالشهرة واللتين نشرتا صورا مصدرها اقمار اصطناعية مخصصة للمهام التجارية لما يظهر بانه مخزنا محصنا تحت الارض في منطقة اللاذقية السورية. ونسبت المصدر الى شركة مختصة بصور الاقمار الاصطناعية مقرها في ولاية كولورادو، “ديجيتال غلوب.” المادة المصورة المذكورة تشكل مصدرا للمعلومات الموضوعية باستقلالية عن اولئك المتواجدين داخل الاراضي السورية الساعين لترويج روايتهم الخاصة، وكذلك بمعزل عمن هم خارج الاراضي السورية الرامين الى تأجيج وتوسيع نطاق الصراع.
ما توضحه صور الاقمار الاصطناعية المنشورة هو مبنى رئيسي محاطا بسياج اسمنتي وابراج مراقبة. الدمار الذي لحق بالمبنى يتساوق مع ما وصف بأنه مبنىً يستخدم كمخزن للذخيرة لكن ليس هناك ما يشير او يؤكد احتوائه لصواريخ، سيما وان الجدران الخارجية “للمخزن” لم تصب باذى وانما اصاب الدمار السقف المتطاير للمبنى.
عادة يتم تصميم المخازن والمستودعات المحصنة بغية حماية الذخيرة من هجوم خارجي وكذلك لحماية المناطق المجاورة من اي تداعيات قد تنتج عن تفجير للذخيرة بداخلها. فالجدران الاسمنتية المحصنة تحصر رقعة الانفجار داخل محيطها الضيق، بينما السقف المدمر يتيح لضغط الانفجارات التوجه عموديا الى الغلاف الجوي. اما اجراءات التحصين لما هو تحت الارض فباستطاعتها احتواء الانفجارات الناجمة ومنعها من اصابة او تدمير المباني الاخرى القريبة.
ما يميز الاستحكامات المحصنة كما ظهر في صور الاقمار الاصطناعية هو الطريق الطويل المتعرج والدائري المؤدي لها، مما يشير الى موقع لتخزين الصواريخ خاصة وان الصواريخ المحمولة تتسم بطول قاطراتها والتي لا تستطيع اجتياز التحويلات الحادة في الطرق بيسر. لكنها ليست محصورة على صواريخ ياخونت التي يبلغ طولها زهاء 30 مترا.
التدقيق في الصور الفوتوغرافية يرجح ان المبنى المعني قد يكون منشأة للصيانة، اذ ان حجمها الخارجي يقود الى الاستنتاج بانها تكفي لاجراء اعمال الصيانة على صواريخ ياخونت ومعدات وقذائف اخرى. كما لوحظ وجود بركة دائرية جافة تحيط بمنشآت الصواريخ روسية الصنع هدفها تطهير المنطقة في حال تلوث المنشأة بوقود الصواريخ.
كما توضح الصور وجود عدة ابنية اصغر حجما والتي تبدو انها استهدفت في الهجوم المذكور. ايضا، يحيط تلك الاستحكامات طرق دائرية كبيرة مما يشير الى مهمتها كمخازن للصواريخ. لكن الصور لا تجزم كونها مستودعات لصواريخ ياخونت، ومن المحتمل ان تكون كذلك لتخزينها عندما لا تخضع لاعمال الصيانة.
بالاستناد الى طول المسافة الجغرافية بين المبنى الرئيسي وتلك الاستحكامات من المستبعد تعرضها لاضرار نتيجة للهجوم على المبنى الاضخم، مما يعزز فرضية ان الهجوم تم باسخدام عدد من الاسلحة.
الغواصات “الاسرائيلية، المانية الصنع، من طراز دولفين قد تحمل على متنها صواريخ كروز التقليدية، باهظة التكلفة، وحمولتها من الاسلحة هي محدودة العدد – وقد يكون من بينها صواريخ محملة برؤوس نووية. وكما تظهر صور الاقمار الاصطناعية بتعرض المبنى الرئيسي واستحكامات اخرى، من خمسة الى ستة، الى ضرر مرئي، فباستطاعة المرء الاستنتاج ان ما لا يقل عن ستة قذائف صاروخية قد اطلقت. الموقع العسكري والاستخباراتي الدولي، جينز، يوضح ان الحمولة الاقصى لغواصات دولفين تبلغ 16 طوربيدا وصواريخ كروز بحر-ارض، وعليه فان فرضية اشتراك تلك الاسلحة بالهجوم يقود الى استنزاف حاد لمخزونها من الاسلحة المحمولة. هذا فضلا عن ان صواريخ كروز عادة ما تستخدم ضد اهداف اهم من الناحية الاستراتيجية مثل نظم الدفاعات الجوية، ومواقع الرادار، ومراكز القيادة والتحكم تمهيدا لشن قصف جوي شامل.
الاستنتاج المرجح يقودنا الى القول ان الهجوم تم عن طريق “سلاح الجو الاسرائيلي”، والذي لم يتوانى يوما عن اختراق الاجواء السورية.
اما النبأ المنسوب لمحطة “روسيا اليوم” باللغة الانكليزية، بان الهجوم الجوي تم اطلاقه من الاراضي التركية، يصعب تصديقه. اذ ان منطقة اللاذقية تقع ضمن دائرة طيران “سلاح الجو الاسرائيلي” من قواعده في فلسطين المحتلة، الامر الذي ينفي الحاجة الملحة للقيام بمثل تلك العمليات من اراضي الغير، والمغامرة بتعريض العلاقات السياسية الى الضرر وتحمل امكانية تسريب الانباء ومفاقمة العلاقات المتوترة اصلا. بيد ان الامر المرجح ان شبكة الرادار التركية قد يكون بوسعها تتبع الطائرات المهاجمة قبل وخلال الغارة الجوية.
كما تنتشر التساؤلات حول دور الاسطول البحري الروسي في مياه المتوسط وهل استطاع رصد الطائرات المقاتلة ام لا على شاشات راداراته الجاهزة دوما. ميدانيا، قد لا تستطيع البحرية الروسية استشعار اجسام عدائية فوق المياه ان كانت مرابطة بعيدا عن المياه السورية الاقليمية اثناء وقوع الحادث. القطع البحرية المختلفة، بغض النظر عن هويتها، تفضل الابحار بعيدا عن الشواطيء الاقليمية كي تمنحها مجالا اوسع للمناورة وتفادي هجوم من الدفاعات الارضية ضدها.
محصلة ما تظهره الصور الفوتوغرافية من معلومات تفيدنا بالقول انه من المرجح استهداف وتدمير عدد من مخازن الذخيرة لكن دون ان يتوفر دليل مادي غير قابل للنقض ان بداخلها كانت صواريخ مخزنة. فالمبنى الاكبر حجما يرجح ان مهمته كانت لأعمال الصيانة ومنشأة لإصلاح صواريخ ياخونت. اما المباني الاخرى الاصغر حجما فقد تكون منشآت محصنة لتخزين الذخيرة. اما صور الطرق الدائرية الواسعة في محيط تلك الابنية فقد كانت لتسهيل اعمال تخزين وصيانة الصواريخ كبيرة الحجم.
التدقيق مرة اخرى في طبيعة الدمار تشير الى امكانية هجوم “اسرائيلي” بطائرات مقاتلة. فالحفر الكبيرة الناجمة عن الانفجار تشير الى احتمال استخدام قنابل ثقيلة الوزن مصنعة من الحديد الصلب تخترق السقف قبل لحظة الانفجار. وشوهدت رافعات تعمل على ازالة الردم داخل حدود المبنى.
نظرة على الشائعات
لعل احدثها تناول قيام سورية باغراق غواصة “اسرائيلية،” يبدو ان مصدرها من داخل الاراضي السورية ونشره احد المواقع الالكترونية العائدة لمجموعة “فيترانز توداي” من المحاربين القدماء الاميركيين، الذي اوضح ان الحادث تم في مياه البحر بعمق 150 مترا. من جانبنا في مركز الدراسات سنستمر في متابعة وفحص المسألة بين ايدينا سعيا للحصول على معلومات ودلائل موثقة، دعما او نفيا، ونضعها امام القراء. لحين بلوغنا تلك المرحلة، سيبقى الشك يراودنا لصحة المعلومة بصرف النظر عن تبنيها من مصدر معلوم وموثوق الذي افاد بقيام “طوربيد سوري اطلق نيرانا على جسم بحري متحرك، وفي نفس الوقت افاد بغرق غواصة بحرية،” في وقت سابق من شهر ايار الماضي.
اضافة لذلك، يعرب عدد من الخبراء العسكريين في اميركا عن ثقتهم بتوفر القدرة لسلاح البحرية السورية على اطلاق طوربيد من طائرة مروحية، مما يعزز فرضية استهداف الغواصات.
ميلنا للتشكيك في صحة الادعاءات نابع من المعلومات المتوفرة التي تشير ان لدى سورية امكانيات محدودة ومتواضعة فيما يتعلق بقدرات التصدي للغواصات، فضلا عن ان قطعها البحرية تبقى مرابطة بالقرب من موانئها، حسبما تفيد صور الاقمار الاصطناعية للمرافيء البحرية السورية. في الجانب الاخر، معلوم ان غواصات دولفين التي يمتلكها سلاح البحرية “الاسرائيلية” هي من افضل القطع التي تبحر بصمت ويصعب تتبعها من اكثر القطع البحرية تطورا، بما فيها البحرية الروسية، وفق المعلومات الواردة.
تجدر الاشارة الى ان عملية غرق غواصة لا تتم بهدوء وصمت، اذ ان الانفجار او سلسلة الانفجارات الداخلية التي تؤدي لغرق غواصة ما تستطيع البحريات الاخرى التقاطها عبر اجهزة الاستشعار الصوتي المخصصة لهذا الغرض، والتي تمتلكها عدد من البحريات الدولية، وتثير تحركات ملحوظة للاساطيل البحرية ليس من السهل اخفاءها او تجاهلها. لو سلمنا بفرضية غرق غواصة “اسرائيلية” تحمل رؤوسا نووية، فان عمليات الانقاذ واسترداد الجسم البحري، او ما سيتبقى منه، ستجري فور وقوع الحادث، فضلا عن ان اولوية استرداد الاسلحة النووية ستغلب على اي اعتبارات اخرى لابقاء الامر سرا.
كما ترددت اشاعة تفيد بان “اسرائيل” استخدمت اسلحة نووية في غاراتها مطلع شهر أيار / مايو. ما هو متوفر ومتاح من اشرطة الفيديو عن موقع الغارة لا يوفر دليلا حاسما لتبني النبا كحقيقة واقعة. السحب النووية المرافقة للانفجار على شكل نبات الفطر لا تشكل دليلا كافيا لوقوع انفجار نووي بالضرورة، بل عادة ما يرافق شكل السحب انفجارات اخرى التي ينتج عنها عامودا من الهواء بدرجة حرارة مرتفعة يرتفع عاليا لحين بلوغ توفر توازن حراري في الهواء يستقر على ارتفاعات عالية على شكل نبات الفطر. خبراء الاسلحة وعلماء الكيمياء يشيرون الى عدد من المواد المتفجرة التي تؤدي لتلك الظاهرة، منها بشكل خاص قنابل ومقذوفات حرارية تطلق من الجو والتي تحدث سحبا مشابهة يرافقها ضوء ساطع قوي الذي عادة ما ينتج عن الانفجارات النووية.
مؤشرات التحقق من وقوع انفجار نووي في الغلاف الجوي تكمن في توفر النظائر النووية والتي يسهل التقاطها في الاجواء من قبل بلدان عدة. كما ان تدفق جزيئات الطاقة العالية والاشعاعات الناجمة عن الانفجار ستترك تداعياتها السلبية على اجهزة الكترونية بالغة الحساسية، ربما تشمل اجهزة التصوير الالكترونية التي التقطت صور الانفجار.
كما تشهد كل الحروب منذ قدم البشرية، فان الآلة الاعلامية هي المسؤولة عن ترويج رواية معينة لا سيما في الحالة السورية، خاصة اذا اخذنا بعين الاعتبار عامل قوى المعارضة المسلحة المختلفة التي هي في سباق مع الزمن لتبييض صورتها امام العالم والدول الداعمة لها، وبالمقابل شيطنة وتجريم الدولة السورية. يضاف اليها القوى التي تتخذ من الخارج مقرات لها وتسعى بدأب وتصميم على استغلال الصراع الدائر خدمة لأهدافها القائمة على تأجيج عامل عدم الاستقرار في المنطقة.
مرة اخرى، التزامنا الصارم بالمنهج العلمي والتحقق من المصادر مباشرة، في كل الظروف والازمنة، يبقى العامل الاساس في نهجنا السردي والتحليلي، والابتعاد عن اساليب الاثارة المفضلة لدى بعض القوى المرتبطة بأطراف متعددة.
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي