حول «دور العسكر» في مصر
دخلت الحركة الشعبية في مصر طورها الثاني وغير النهائي طبعاًً مصعدةً صراعها مع فلول النظام المتهالك بنسختها الملتحية متمثلة بقيادة حركة الإخوان المسلمين. الأمر الذي رافقه تصاعد متسارع لدور المؤسسة العسكرية المصرية في المشهد السياسي الداخلي. فكيف يمكن قراءة دور الجيش المصري، خصيصاً مع تصاعد هجمات الليبراليين (إسلاميين، وعلمانيين) ضده على أرضية رفض تدخل «العسكر بالسياسة الداخلية»؟
السياق التاريخي للديمقراطية
بداية لابد من الإشارة بأن تصور الليبراليين العرب عن الديمقراطية وعملية الانتقال إليها وبالتالي معايير حسن سير هذه العملية مستقاة بشكل مباشر من التجربة التاريخية لأوروبا الغربية، والتي تكاد لا تتقاطع بشيء مع التجربة التي تعيشها منطقتنا كجزء من دول «الرأسمالية الطرفية». إذ يفترض الليبراليون أن المجتمعات باختلاف مواقعها من المنظومة العالمية الرأسمالية تخضع لمسار تطور خطي، أي أن ما يحدث في منطقتنا اليوم يتشابه من حيث الجوهر مع المثال الأوروبي، وأن الفارق بين بلادنا وأوروبا هو فارق كمي زمني وليس بنيوياً نوعياً، وعليه فالتاريخ و الحاضر الأوروبي هو مرآة لمستقبلنا!!.
لكن إذا كانت أوروبا من دول المركز الرأسمالي التي تتمايز بتركيبة طبقية اجتماعية محددة تفترض شكل نظام سياسي وتمثيلات سياسية «مدنية» الطابع كما يفضل الليبراليون وسمها، فإن بلادنا تقع في دول الأطراف الرأسمالية، المختلفة جذرياً عن دول المركز من حيث موقعها من المنظومة العالمية وما فرضه ذلك من تركيبة طبقية اجتماعية مختلفة كلياً عن نظيرتها الأوروبية، وهو ما انعكس ببنية الحركة السياسية والنظام السياسي المختلفة عن النموذج الأوروبي.
إذ أنه بعيد الاستقلال ومع انهيار المنظومة القديمة في دول الأطراف متمثلاً بالمنظومة الاقتصادية والسياسية الإقطاعية، انهار المجتمع المدني القديم وتمثيلاته السياسية التقليدية بأشكالها المختلفة، وبسبب تجلي النظام الرأسمالي في هذه الدول كمنظومة اقتصادية اجتماعية هجينة أفرزت مجتمعاً غير متضح الملامح طبقياً، وطبقة عاملة محدودة النفوذ لا تعي ذاتها طبقياً، فعانت التمثيلات السياسية «المدنية» مشاكل عضوية في تطورها، فلم يشتد عودها إلا بشكل عابر.
بالإضافة إلى كل ذلك يغيب عن ذهن الليبراليين العرب المبهورين بالرأسمالية الأوروبية والواهمين بأن لنا مكاناً وارفاً تحت شمسها الحارقة، يغيب عنهم واقع أن الديمقراطيات في أوروبا قد بنيت في عصر صعود الرأسمالية وتسيّد البرجوازية، في حين أن الانتفاضات العربية تحدث في زمن الاهتزازات الكبرى للمنظومة الرأسمالية و«كربجة» وتسقيف «آلياتها الداخلية للضبط والتحكم بأزماتها البنيوية»، فمن يظن بأن لدى التاريخ وقتاً ليعيد نفسه في منطقتنا على الصورة الأوروبية أو سواها، فلن يمضي كثيراً حتى يكشف له التاريخ نفسه مستوى وحجم الاستلاب الذي وقع ضحيته هؤلاء بتقمصهم لـ«لمركزانية الأوروبية» والتي تعتقد بأن أوروبا مركز الكرة الأرضية الذي يعد مثالاً يعكس لباقي العالم صورة مستقبله.
ديمقراطيتنا ودور الجيش
بالملموس، فإن الطبقات الاجتماعية صاحبة المصلحة بالديمقراطية الشعبية والحاملة لمشروعها في منطقتنا وجزءاً كبيراً من دول المحيط تختلف طبقياً عن الحوامل الاجتماعية تاريخياً للديمقراطية في أوروبا، والأهم من ذلك وهو ما يعنينا في سياق موضوعنا هو اختلاف شكل التمثيلات السياسية للقوى الاجتماعية الحاملة للمشروع الديمقراطي الشعبي. فالفراغ الذي أوجده انهيار المنظومة السياسية التقليدية القديمة والتشوه الجنيني الذي رافق المنظومة الجديدة، انعكس بفضاء سياسي «مدني» قاصر ومشوه على صورة هذه المنظومة، وبأزمة شبه دائمة بالحركة السياسية وقصور عن أداء وظيفتها المفترضة بتمثيل مصالح الجماهير، وبما أن المجتمع على صورة الطبيعة لا يقبل الفراغ، فلقد تم ملء الفراغ السياسي «المدني» من قبل التكوين السياسي الأكثر تنظيماً وهو الجيش.
فإذا كان صحيحاً أن الدور السياسي للجيش يحمل مثالب وخطراً على الديمقراطية الشعبية، فإن مستوى الخطورة يعتمد قبل كل شيء على مستوى النشاط السياسي للجماهير الذي هو اليوم بمستوى عال متصاعد. وطالما ستبقى الحركة السياسية «المدنية» مأزومة ولا تعبر عن المصالح الحقيقية للشارع، فإن الجيش ودوره السياسي هو ضامن وحامي وحدة المجتمع من الصراعات المشتقة من أزمة الحركة السياسية المدنية بمكوناتها المختلفة من ناحية، ويمكن أن يلعب دوراً نحو قيام ديمقراطية شعبية في دول المشرق اليوم خصوصاً في مصر إلى أن يشتد عود الحركة الشعبية بتمثيلات سياسية حقيقية وغير وهمية تستبدل الفضاء السياسي المتهالك بـ«نظامه» و«معارضته» من ناحية أخرى.
الموقف الموضوعي من العسكر
أيضاً ما يثير الشك في خطاب الليبرالية العربية ووجوهها البارزة هو انتقائيتها في التعامل مع التاريخ الأوروبي، إذ نرى الدكتور عزمي بشارة مثلاً يبرر تسليح الحركة الشعبية في سورية تارة باستحضار الدماء وتحميل النظام مسؤوليتها وتارة أخرى بالاستدلال من التاريخ الأوروبي على حوادث التحارب الأهلي كـ«مسار سليم» طبيعي وإجباري لعملية البناء الديمقراطي بالمراحل الانتقالية!! بالمقابل يتبنى اليوم موقفاً حازماً ضد دور «العسكر» في مصر، رغم أن التاريخ الأوروبي «مرجعه المقدس» مليء بالشواهد والأمثلة على الدور الرئيسي الذي لعبه العسكر في فترات طويلة وعديدة في مسيرة ما يسمى بـ«البناء الديمقراطي»، لا بل يمكن التأكيد على أن دورهم المباشر لم يتوارَ عن الأنوار حتي بعيد حرب العالمية الثانية ليستمر دورهم اليوم عبر المجمعات الصناعية العسكرية لكن من وراء الستار.
النتيجة التي نخلص إليها على ضوء خصوصية البنية الطبقية الاجتماعية والتمثيلات السياسية لمنطقتنا كجزء من بلدان الرأسمالية الطرفية، هي كون مقولة «عسكر-مدنيون» كمدخل لقراءة وفهم الصراع في مصر هي ثنائية وهمية قاصرة وخبيثة تحرف وعي الجماهير عن اتجاهات الصراع الحقيقي.
إن قراءة دور الجيش المصري واتخاذ موقف حياله لا يمكن إلا من خلال تلمس أثر هذا الدور على المعارك الأساسية والحقيقية التي تعني المواطن المصري ومستقبل أم الدنيا وهي:
-المعركة الاقتصادية الاجتماعية داخل مصر بين قوى الفساد والنهب من جهة والمنهوبين من جهة أخرى.
- المعركة الإقليمية ضد الكيان الصهيوني والولايات المتحدة.
- معركة بناء نظام سياسي جديد يلبي مصالح أغلبية المصريين.
بين الجيش والإخوان والفلول
لا داعي للاستفاضة هنا حول طابع حركة الإخوان المسلمين التي تدخل الجيش المصري لغير مصلحتها في صف جماهير الميادين، إذ يكفي فقط التذكير بكونها تشكل امتداداً عضوياً للنظام المتهالك بعلاقاته الاقتصادية والسياسية، فهي النسخة الملتحية من الفلول الليبرالية الهوى اقتصادياً والتي ترى في التجارة الخارجية وتحريرها والتذلل للاستثمار الأجنبي الذي لا يأتي، قاطرة لنهضة مصر، وهي الطائفية حتى النخاع مما دفع بالاستقطابات المذهبية لتبلغ ذروتها في المجتمع المصري وفي المنطقة، والتي عملت على إرساء نظام سياسي يفرق بين المصريين على أساس انتمائهم العقائدي.
فالجيش المصري حتى الآن يلعب دوراً دينامياً في تسريع وتخفيض آلام المخاض المصري على ضوء معركة الحركة الشعبية المصرية ضد الفلول الملتحية كجزء من العملية الثورية، التي لن تتوقف وتستقر خيراً لشعبها قبل أن تتطابق ممارسة التمثيلات السياسية على رأس جهاز الدولة مع مصالح الحركة الشعبية بالتغيير الجذري لمنظومة العلاقات الاقتصادية السياسية.
بالمقابل وعلى الأرض لا يخفى على أحد اليوم تلطي فلول النظام المتهالك بنسختهم الساداتية وراء دور الجيش المصري ووراء الجماهير المصرية في المياديين، في سياق معركتهم مع نقيضهم الشكلي حركة الإخوان المسلمين. لكن هذا لا يغير من طابع التحول التاريخي الذي تعيشه مصر و الذي يحدده بنهاية المطاف عاملان رئيسيان يُخضعان بقواهما كل التكونيات السياسية بما فيها الجيش المصري. الأول يتجلى بعودة حالة النشاط السياسي العالي للشارع وتشكّل الحركة الشعبية، أما الثاني فيجد تعبيره بالتوازن الدولي الجديد والتراجع الأمريكي المضطرد، وما يعنيه ذلك من إمكانية تقدم القوى الثورية نقيضة لكل التكوينات السياسية القائمة. إذاً فالجيش المصري بدوره ومواقفه المتغيرة يخضع لتأثير هذين المتغيرين، وسترينا الأيام القادمة إلى أي درجة تسمح له بنيته باستيفاء واستكمال الدور المسرع والطليعي الذي يلعبه.