فلنسقط كافة المقولات العنصرية والمخادعة
وصلني خطاب الكتروني تكرر فيه الحديث عن مقولة صهيونية رددها موشي دايان بعد حرب عام 1967وهي “إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبقون، وإذا طبقوا لا يأخذون حذرهم” . أضاف دايان أن خطة الحرب التي وضعتها القيادة العسكرية الإسرائيلية لغزو سيناء كانت منشورة وفي متناول اليد لمن يقرأ، ولكن لم يكترث العرب بها وأهملوها.
وجدت من الضروري أن أعلق على الخطاب ليس فقط لأن هذه المقولة العنصرية تستخدم من قبل الأعداء ولكن وهذا هو الأهم، أنها تردد على لسان بعض ممن يسمي بالنخبة العربية. ورغم أنني لا أشكك في رغبة الكاتب الصادقة من أجل أن “نفيق من غفوتنا.. ونصلح عقولنا من الترهات… التي ورثناها من جيل إلي جيل منذ مئات السنين..” فلقد وجب التعليق خصوصاً وأن الخطاب يقول ” أن أحداث “الربيع العربي” التي أعادت بشعبنا العربي إلى الوراء، والمآسي التي تجري في سوريا والعراق ومصر وتونس وغيرها من البلدان بسبب المؤامرات الصهيوأمريكية، لدليل – وللأسف – على الكثير من صحة هذه العبارة”. ويستطرد الخطاب بالتساؤل ” متى سنثبت للعالم أن تلك العبارة العنصرية القذرة كاذبة، وأن من رددها أو يرددها من أعدائنا كاذبون؟”
ومع ذلك فلنبحث معاً نصيب هذه المقولة وغيرها من الصحة:
أولاً – إذا صدقنا هذه المقولة فنحن كعرب لا نقرا ولا نفهم ولا نستوعب ولا نطبق وهذا يعني باختصار أننا شعب كسلان و غبي ومغفل، ولكون المقولة عامة فهي تشملنا جميعا بما فيها من يردد مثل هذه المقولات المغرضة. المقولة خاطئة بالتأكيد لعموميتها فليس هناك شعب على وجه الأرض يبتلي جميع مواطنيه بهذه الصفات، وخطورتها مثل الكثير من التعميمات الخاطئة والغير علمية في أن بها جانب من الصحة.
ثانيأً – لا شك أننا نعيش في مرحلة تتسم بالتدهور العام ويشمل ذلك ضعف الثقافة بما فيها قلة القراءة والاستيعاب. فوضعنا الحالي سيء والتأكيد هنا على لفظ “الحالي” فهذا الوضع ليس أبدياً، ولا يمكن تغييره، وهو قطعاً ليس مستمداً من صفات وراثية بيولوجية ابتلي بها كل الشعب العربي.
ثالثاً –لسنا في حاجة لأن” نثبت للعالم كذبها” ولكننا في أمس الحاجة أن نثبت لأنفسنا أننا قادرون بالعزيمة والمعرفة والتنظيم أن نغير الوضع القائم وأن نحرر أنفسنا من الهيمنة والتخلف بأنواعه.
رابعاً – أن الصفات المجتمعية تعكس ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية ولكونها متغيرة فليس من المستغرب ان نشاهد مجتمعا في حالة انحطاط شديدة ثم تكتمل عناصر التغيير فيتقدم اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا وثقافياً مثل الصين، ونهضة العرب سابقاً.
خامساً - ورغم الظروف السيئة التي نعيشها الآن فهناك الآلاف من العرب الذين يقرأون ويستوعبون ويحذرون، ولكن قوي الهيمنة الأجنبية والمحلية بأدواتها الإعلامية والأمنية تعرقل محاولاتهم للتغيير الجذري المطلوب وتضع كافة العقبات لتحقيق ذلك.
سادساً- أن المجتمعات المتقدمة في مجالات العلم و التكنولوجيا والمعرفة لا تخلو من أعداد ليست قليلة ممن ينطبق عليهم وصف الجهل وعدم الإدراك وربما تزداد هذه الأعداد في ظل استخدام وسائل الإعلام الحديثة التي تلعب دورا واضحا في تغييب الشعوب وتتفيه ثقافتهم وما يسمي بعمليات التجهيل الممنهج.
يحضرني في هذا المقام مقولات أخري خاطئة ( لا تقل عنصرية وخطورة لانتشارها) حول براعة اليهود في كل شيء وعبقريتهم. فعلى سبيل المثال ما جاء في مقال منشور في الأهرام في 20 أكتوبر2009 للدكتور مصطفي الفقي والذي استدعاني للرد مؤكداً اختلافي الشديد مع عناصر المقال. جاء في تعليقي ما يلي:
“يحمل المقال أفكاراً عنصرية لا تمت للواقع بصلة وهي عبقرية اليهود…. فصدقي باشا الذي كان محل بغض شديد من عامة المصريين أثار إعجاب الكاتب الذي قال “كان يخشي من التفوق العسكري الإسرائيلي لإدراكه أن اليهود يبرعون في كل ما يحترفون” .
يستطرد الدكتور الفقي فيقول أن صدقي باشا تصور أن اليهود “الذين يبرعون غالبا في كل ما يحترفون سوف يكونون بالضرورة محاربين قتلة وسفكة دماء إذا ما دخلوا هذا الميدان” أليست هذه هي العنصرية بعينها؟ أين الدليل العلمي على تفوق وبراعة وفي المقابل تخلف أو خيبة أي مجموعة بشرية لمجرد أنها تنتمي إلي عرق أو جنس أو دين معين؟ ألم تثبت الدراسات العلمية أنه لا أساس مطلقا لهذه المقولات العنصرية. وإنما الأوضاع السياسية والمعنوية تخلق الظروف المواتية إما لنهضة أو لركود، وإما لديناميكية خلاقة أو لجمود وسلبية لنفس الجنس أو العنصر.
هذا يذكرني بتساؤل طالب أثناء احدي المحاضرات التي جاء فيها ذكر أحد الحاصلين من اليهود على جائزة نوبل في الكيمياء. عبر الطالب عن قناعته بعبقرية اليهود وساق الدليل على ذلك بالعدد الكبير نسبيا للحاصلين على نوبل من اليهود. لم أختلف مع الطالب بأن عدد اليهود الحاصلين كبير نسبياً بالفعل ولكني اختلفت تماما مع استنتاج الطالب بعبقرية اليهود وببراعتهم. سألت الطالب في المحاضرة: كم من الحاصلين على نوبل من اليهود اليمنيين أو اليهود المغاربة أو اليهود المصريين فكانت إجابة الطالب: لا أحد. قلت له إذاً فلم تكن “يهودية” الألماني أو الأمريكي أو البريطاني الجنسية هي السبب في تفوقهم العلمي. إذا أردنا أن نحكم على قدرات مجموعة تنتمي لعنصر أو دين أو جنس معين، فلا بد أن نشمل الجميع (كافة اليهود) أو عينة عشوائية وليس شريحة منتقاه…..
يردد هذه المقولات العنصرية المزيفة كثير من الصهاينة وغيرهم من بين بعض المشتغلين بالعلم. وفي كل مرة رأيت الخجل على وجوهم عندما طرحت نفس تساؤلي للطالب. إن من أهم أهداف القوي المستعمِرة هو إقناع المستعمَر بالدونية وإيهامه بأنه متفرد عبقري بارع في كل شيء ولتحقيق ذلك يستخدم وسائل عديدة ليس هذا مجال وصفها. إن المناخ العلمي والتعليمي في دول أوروبا وأمريكا والفرص المتاحة هي التي تشكل العامل الأساسي الذي يفجر الطاقات والذي يؤدي لنبوغ البعض من أصحاب القدرات الذهنية العالية. كما أن التمييز العنصري والاضطهاد الديني يكونً حافزاً في بعض الأحيان على التفوق إذا توفرت الفرصة. وبهذه المناسبة فلقد قمت بتدريس الآلاف من الأمريكيين في مجال الكيمياء الطبيعية وبالطبع كان من بينهم يهوداً، منهم من تمتع برغبة عالية في التحصيل ومنهم من كان غير ذلك تماما. لم أري دليلا على المفاهيم العنصرية التي تزعم تفردا وبراعة لمجرد كون الشخص يهودياً. كما أن تجربتي الفردية ،وهذا هو الأهم، جاءت متناسقة مع الدراسات التي تعني بهذا الشأن. نري أمام أعيننا كيف أن المجتمعات التي ضاعفت من اهتمامها بالعلم تقدمت بشكل ملحوظ في هذه المجالات مثل ما حدث في عهد ميجي بالنسبة لليابان و في عصر محمد على في مصر وفي دول أوروبية في عصر النهضة.
إنه لمؤسف حقا أن نتبنى مقولات يسعي العدو حثيثاً أن نصدقها ناهيك عن زيفها وعنصريتها.
*أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعتي الإسكندرية وولاية ميشجان (سابقاً)
نشرة كنعان