رد إسباني ساخط على التوحش الليبرالي
فيصل جلول فيصل جلول

رد إسباني ساخط على التوحش الليبرالي

تتعدد تسمية الحركات الاحتجاجية في أوروبا لكنها تشير إلى اتجاه واحد هو كسر احتكار التمثيل السياسي الكلاسيكي بين اليمين واليسار. ظهر ذلك بوضوح في اليونان حيث تمكن اليسار الراديكالي من الفوز في الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة جديدة مازالت تخوض مواجهة حادة مع الاتحاد الأوروبي والرساميل المتوحشة، وفي فرنسا حيث تراجع الحزب الاشتراكي الحاكم في الانتخابات الإقليمية إلى حدود قياسية، وفي بريطانيا من دون أن يترجم فوزاً في صناديق الاقتراع، ومن المنتظر أن يظهر أيضاً في دول أوروبية أخرى تعب الناس فيها من الاقتراع المتكرر دون الحصول على التغيير الذي اقترعوا من أجله.

إسبانيا كانت الأحد الماضي آخر العنقود وليس آخر العناقيد حيث حققت حركة «بوديموس» التي تضم اليسار الراديكالي والساخطين وحركة المواطن التي تمثل تيار الوسط اختراقاً كبيراً في صناديق الاقتراع، إذ كسرت ثنائية الحزب الشعبي المحافظ وحزب العمل الاشتراكي التي تسيطر على الحياة السياسية في هذا البلد منذ ثمانينات القرن الماضي. والاختراق المدوي وقع في مدريد، حيث من المنتظر أن يتولى الساخطون رئاسة بلديتها عبر التحالف مع الحزب الاشتراكي، وفي برشلونة التي حقق فيها الساخطون انتصاراً كبيراً على الحركة الانفصالية الكاتالونية هو الأول من نوعه منذ سنوات طويلة، فضلاً عن حصول التيارين على آلاف المنتخبين في مختلف أنحاء البلاد.
وعلى الرغم من كون البطالة المرتفعة بنسبة 24 في المئة قد أسهمت إلى حد كبير في فوز الساخطين والراديكاليين والوسطيين في هذه الانتخابات بنسب كبيرة، إلا أن الفساد لعب دوراً مهماً في انحسار فئات من الناخبين عن الحزبين الكلاسيكيين ناهيك عن الهجرة السرية، فضلاً عن الروح الشابة التي بثها الساخطون في صفوف الناخبين واستخدامهم تقنيات حديثة في فنون الغرافيك والاتصال والتبسيط الجميل.. إلخ.
ومن المنتظر أن تتحول ظاهرة الساخطين في إسبانيا من ظاهرة مؤقتة واحتجاجية الى حركة سياسية متجذرة بعد أن دخلت إلى عمق الكتلة الناخبة الإسبانية وصارت قادرة على بناء مرتكزات دائمة في التمثيل المحلي تتيح الوصول إلى أعلى مراكز السلطة، وهذا كان حتى الأمس القريب احتكاراً تقليدياً للحزبين الكبيرين التقليدين «الشعبي المحافظ» و«الاشتراكي» علماً أن الساخطين يصعدون على حساب اليسار الكلاسيكي والاشتراكي بخاصة في حين تستفيد حركة المواطن من تراجع أسهم المحافظين واليمين التقليدي.
ويبقى تفسير الجوانب المحلية لصعود الساخطين في إسبانيا ومن قبل في اليونان وفي فرنسا وفي غيرها من البلدان قاصراً عن الإحاطة بخلفية هذه الظاهرة التي ترجع باعتقادي إلى العوامل التالية:
أولاً: طول بقاء الأحزاب الكلاسيكية في السلطة وبعضها ممتد منذ الحرب العالمية الثانية مع ما يعنيه من تراكم إخفاقاتها وترهل أفكارها وشيخوخة قادتها وضعف تمثيل فئة الشباب فيها، بحيث تنحسر قدرتها ووسائلها عن إغراء الناخبين وبخاصة أفكارها التي تصبح عصية على التجديد.
ثانياً: تحول الأحزاب الكلاسيكية إلى أحزاب سلطة وبالتالي اضطرارها إلى حماية بناها السلطوية بما في ذلك الفاسدون الأمر الذي يبعد قسماً من الناخبين عنها.
ثالثاً: خضوع هذه الأحزاب للمشروع الأوروبي الذي مازال حتى الآن عاجزاً أو غير متحمس لانتهاج سياسة اجتماعية مفيدة للفئات الدنيا والوسطى في الفضاء الأوروبي، لذا ينظر إلى الاتحاد الأوروبي بوصفه ممثلاً للرأسمالية ويعمل لتراكم ثرواتها وتحول أنانيته من دون اتخاذ إجراءات مفيدة للفقراء ومتوسطي الحال.. وعليه من غير المستغرب أن نلاحظ شعارات مناهضة للاتحاد الأوروبي في صفوف الساخطين بل تبني بعض الأحزاب الجديدة استراتيجيتها الانتخابية على شعار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي كما هي الحال في بريطانيا وفرنسا. رابعاً: يترافق السخط غالباً مع نمو النزعات الوطنية الاستقلالية حيث يؤدي الاندماج الأوروبي إلى انتزاع أقسام من السيادات الوطنية وإلى إضعاف الروح القومية في الدول لمصلحة الانتماء الأوروبي، الأمر الذي لا يروق للوطنيين الكلاسيكيين الذين ينظرون إلى أمجاد بلادهم الغابرة ويعتقدون أن بالإمكان العودة إلى ما كانت عليه.
خامساً: تصلب البنى الحزبية الكلاسيكية التي نهضت على إيديولوجيات وأفكار ما عادت متناسبة مع العصر، فتخلت عنها الأحزاب الكلاسيكية من دون أن تتبنى صراحة إيديولوجيات جديدة، الأمر الذي خلق غموضاً سلبياً أدى ببعض أنصارها وناخبيها إلى التخلي عنها لمصلحة التشكيلات الجديدة.
سادساً: ضعف هامش المناورة أمام الأحزاب الكلاسيكية التي تفوز بالسلطة وفقاً لبرامج إصلاحية كبيرة لكنها سرعان ما تتخلى عنها لأنها بمعظمها تتطلب إنفاقاً خدماتياً لمصلحة المهمشين والعاطلين عن العمل، في حين أن السلطة الفعلية في هذه البلدان تقوم على تكتلات اقتصادية تنشد أقصى الأرباح بأبخس الأثمان أي بالحد الأدنى من الإنفاق على الخدمات الاجتماعية.
سابعاً: على الرغم من أن السلطة في الدول الأوروبية تأتي من صناديق الاقتراع إلا أن التنافس على الصناديق صار محصوراً بالجزئيات وليس بالأساسيات وبالتالي صار الفارق بين اليمين واليسار في السلطة يحتاج إلى مجهر للعثور على جزيئياته وذلك إلى حد جعل الناخب يكتشف أنه إذا اقترع لليسار أو لليمين الكلاسيكي لن يتغير الشيء الكثير في حياته، وأن السبيل الوحيد للتغيير هو في الاقتراع لمصلحة تشكيلات جديدة تتبنى وعوداً مختلفة، وهذا يعني أن الحركات الثالثة تحتفظ بمستقبل واعد كونها تمثل ضحايا الثنائية الحزبية الكلاسيكية والمتضررين من جمودها وتجويفها الإيديولوجي وزوال الحدود الفكرية عملياً بين مكوناتها.
ليست الديمقراطية نظاماً مثالياً والدليل أنها تتيح تهميش 24 في المئة من اليد العاملة في إسبانيا ونسباً أقل وربما أكثر في بلدان أوروبية أخرى من المفترض أنها من بين الأغنى في العالم، لكن الديمقراطية تظل السبيل الأفضل لتجميع الساخطين ودفعهم إلى أعلى مراكز القرار وانتزاع حقوقهم من فم السبع.. هذا ما فعله الإسبان لتوهم في برشلونة عبر إيصال مجموعة مناهضة للاحتكار العقاري إلى بلدية المدينة.. والحبل على الجرار كما تقول الحكمة اللبنانية.


المصدر: الخليج