تركيا.. الإمبريالية من الباطن!
هل تركيا أوروبية؟ يتسم الجدل حول هذا السؤال بالإجابات المتسرعة جدًا والافتقار إلى التأسيس العلمي. ومن المهم ملاحظة أن الطبقات الحاكمة فى الدولة العثمانية قد اعتبرت نفسها مرشحة للتأورب منذ عام 1453 حينما تردد محمد الفاتح- فاتح القسطنطينية- قبل إعلان نفسه «إمبراطورًا (أرثوذكسيًا) لبيزنطة/ القسطنطينية»،لأن الجنود الذين حاربوا تحت راية الإسلام- كغزاة- ما كانوا ليقبلوا هذا. وكذلك حينما انغمست تركيا العثمانية فى القرن التاسع عشر فى إعادة تنظيم الدولة فى إطار «التنظيمات» (إعادة التنظيم أو «إعادة البناء») فيمكن ملاحظة أن الهدف كان بوضوح: جعل تركيا دولة «أوروبية». ولعل السؤال الذى لم يكف المؤرخون عن بحثه فى هذا الصدد هو ما إذا كان المجتمع العثماني/ التركى قد تقدم بالفعل فى هذا الاتجاه أم أن التقدم المتحقق ظل متواضعًا، فلم يفِ بالتحدي.؟
وفى نهاية القرن التاسع عشر نظم عدد كبير من المثقفين والسياسيين العثمانيين- أتراكًا وغير أتراك- أنفسهم تحت اسم «الأتراك الشباب» عملاً على الإسراع فى إيقاع هذه العملية، بداية من النأى بأنفسهم عن سلطان محكوم بعدم قدرته على تخيل الإطاحة بإمبراطوريته أو التخلى عن طابعها الإمبراطورى (أى السيطرة على المشرق العربي). وكصديً للأيديولوجيات القومية الأوروبية عرفوا أنفسهم كأتراك وليس كعثمانيين.
وخلقت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) الظروف اللازمة لتطبيق لا لبس فيه لبرنامج الأتراك الشباب تحت قيادة مصطفى كمال (أتاتورك). وفقدت تركيا الأقاليم العربية، وألغيت الخلافة، غير أنها انتصرت فى الحرب ضد تدخل دول الوفاق. وتصورت الجمهورية التركية الوليدة نفسها كدولة ماضية فى طريق «التأورب».
لا شك فى أن هذا كان مشروعًا للصعود. وتم تنفيذه أيضًا من خلال التحويل الرأسمالى للمجتمع. واعتقدوا أن هذا كان ضروريًا لتحقيق رغبتهم فى اكتساب القوة. فلم يدركوا وقتذاك أن منطق الرأسمالية العالمية (بخلقها لمنظومة عالمية تقوم على استقطاب بين المركز والشركاء المُدمَجين فى الأطراف) لا يسمح بهذا التطور. على أنه كان من شأن تزامن مشروع أتاتورك مع الثورة الروسية أن أثيرت التساؤلات عن مدى ملاءمة المقاربة الرأسمالية. لكن أتاتورك ومعاصريه لم يكونوا مؤهلين للخوض فى تفكير من هذا النوع، بل إن الشيوعيين الأتراك أنفسهم كان لديهم القليل من الأفكار الواضحة بشأن هذا التساؤل.
كان الواقع الاجتماعى هو الذى شكل تطبيق محاولة الصعود الجديدة. ففى عام 1924 لم تكن «البرجوازية» التركية قد تجاوزت مرحلة الطفولة فى أحسن التقديرات. مع ذلك وجدت طبقة من المثقفين والسياسيين والبيروقراطيين والعسكريين، جميعهم من الذكور، كانت قادرة على تولى مهمة قيادة البلاد. وقد جاءت هذه الطبقة من الجزء الغربى من تركيا (إسطنبول، أدرنة، إزمير)، وقد عرف هؤلاء أنفسهم بـ «الروميليان» (نسبة إلى روما فى الأصل) أو البيزنطيين، وهو ما كشف عن طموحاتهم الثقافية (مشروع التأورب). أما شرق تركيا (الأناضول) فقد تشكل من الفلاحين الذين تجاهل أصحاب القرار مطالبهم. وقتذاك كان الأتراك «الروميليان» يعتبرون أنفسهم «متحضرين» أو «أوروبيين»، بينما نظروا إلى الأناضوليين كبؤساء فى حاجة إلى التحضر. وبطبيعة الحال كان الروميليان علمانيين بوجه عام، وحتى ملحدين، بينما كان الأناضوليون مسلمين ملتزمين. كما كان الروميليان وأنصار أتاتورك قوميين بالمعنى المتعصب وغير المتسامح للمصطلح. وهم لم يعترفوا قط بمذابح الأرمن، أو بالمعاملة المخزية التى لم توفر حتى أطفال الأرمن (التحويل الإجبارى للإسلام والتمييز)، ولا باضطهاد الأكراد أو العرب فى إقليم هاتاى (الإسكندرونة). وقد صبغ التعصب القومى جميع الحكومات فى أنقرة، بما فيها حكومة الإسلاميين اليوم. فعلى خلاف مفكرى الإسلام السياسى العرب الذين يكرسون الهوية الإسلامية إلى حد طمس الهويات الأخرى تقريبًا (فيقولون نحن لسنا جزائريين ولا عربًا ولا بربرًا، وإنما مسلمون وحسب) فإن الإسلام السياسى فى تركيا يجمع بين الشعار الإسلامى والتعصب القومي، فيقول إن التركى مسلم ولكنه تركى كذلك.
إن نموذج التنمية الوحيد الذى كان نظام الكمالية قادرًا على تصوره فى هذا الوضع هو نموذج رأسمالية الدولة بقيادة سلطة أوتوقراطية مستنيرة. ويفيد تطبيق هذا النموذج الجماهير الشعبية، فى الحضر والريف، بأن يسمح لهم بالصعود على سلم التراتب الاجتماعى من خلال تعليم الأبناء، وكذلك الحصول على نوعية حياة أفضل. وقد أنتج الحكم الاستبدادى المستنير شرعية لا جدال فيها فى أعين الشعب. كذلك لم تتعرض هذه الشرعية لأضرار مرتبطة بصراعات ضد الإمبريالية، الأمر الذى سهل نجاحه.
وهذا هو بالضبط ما يميز محاولة الصعود التركية عن الدول العربية. فالحكومات القومية فى البلدان العربية- كما سيتبين من عرضنا لمثال مصر الناصرية- كانت تتعرض بانتظام لعدوان القوى الإمبريالية. وهو ما لم يجربه الحكم التركى قط. وقد كان هذا موضع قوة وضعف فى آنٍ واحد للحكومات التركية.
ففى الفترة من 1945 اختارت تركيا- التى كانت كمالية ولا تزال- تحالفًا غربيًا ضد الخطر السوفييتى (الذى تمثل لسوء الحظ فى ادعاءات ستالين تلك السنة بشأن قارص وأردهان ومضيق البوسفور). كما أصبحت تركيا عضوًا مؤسسًا فى حلف شمال الأطلنطى (ناتو) فى وقت باكر حيث لم يكن هذا يتطلب إعلان الدول الأعضاء التزامها بالديمقراطية.
وقد سمح ضعف رأسمالية الدولة الكمالية (كحليف وليس خصمًا للولايات المتحدة) لها بالاندماج فى المنظومة الرأسمالية العالمية التى تكونت فى أعقاب الحرب. وكانت واشنطن هى «الناصح» والضامن «لانتخابات» 1950 التى جاءت بمندريس للسلطة. ولكن انتخابه أدى إلى تغيير العلاقات بين القوى الكمالية/ الروميلية وفلاحى الأناضول. تطلع مندريس إلى طبقة أغنياء الفلاحين الأناضوليين الجدد الذين أنتجتهم التنمية الزراعية. وقد شدد هذا النموذج (المقترح والمدعوم من الولايات المتحدة والبنك الدولي..) على تنمية الزراعة الرأسمالية. لكن الفلاحين الأغنياء ظلوا «مسلمين»، وهو ما يتعارض مع الدولة الكمالية. وقد أضفى الطابع الكمبرادورى على طريق التنمية التركية بشكل تدريجى ولكن واضح: الزراعة الرأسمالية، الانفتاح على عمليات التعهيد الصناعي، خصخصة أجزاء كبيرة من مشروعات رأسمالية الدولة، فتح باب الهجرة الكبيرة لفلاحى الأناضول الفقراء. أما الطبقة الجديدة من رجال الأعمال المرتبطة والمستفيدة من التنمية الكمبرادورية فقد تكونت بالأساس من أبناء فلاحى الأناضول الأغنياء.
وقد صاحب هذا التطور بإنهاء مشروع الصعود الكمالي، التأكيد القوى على الأهمية المستمرة للعقيدة السياسية للناتو، أى دعم استراتيجيات الثالوث الإمبريالي. وبهذا المعنى أقول إن تركيا بمثابة «كولومبيا فى الشرق الأوسط». ولمن يتشككون فى صحة تصورى هذا أوجه انتباههم إلى التدخلات الأخيرة لأنقرة فى الأزمة السورية الراهنة.
وينبغى فهم أن تركيا الحليفة للأمريكان لا تزال مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي. بيد أنه لا يوجد تناقض، وإنما تكامل، بين عضوية الاتحاد الأوربى وحلف الناتو. على أن مشروع «الأوربة» هذاـ الذى لا يزال يغذى وهم تركيا الجديدة ـ قد ارتدى عباءة الكمالية قبل أن يخلعها، الأمر الذى يطرح سؤالاً واقعيًا وإن كان ثانويًا. وفحواه أن قوى سياسية أوروبية مختلفة فى الاتحاد الأوروبى تقبل ترشيح تركيا رغم رفض آخرين لديهم تبريرات أخرى محل جدل (لا مكان لبلد «مسلم» فى أوروبا «المسيحية»).. ولكنه مرة أخرى تساؤل قليل الأهمية. غير أن إضفاء الطابع الكمبرادورى (نقيض الصعود) يكتمل بحماس مؤيديه للانضمام للاتحاد الأوروبي. وأمام العوائق التى تثيرها بعض الدول الأوروبية: هل تعيد تركيا اكتشاف الشرق الأوسط؟ أو ربما: طوران؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا فعليًا؟
إن تركيا نشيطة فى الشرق الأوسط. ولكن ما هو الدور الذى تملؤه؟ فى الحقيقة تتدخل تركيا كحليف للولايات المتحدة وليس كقوة صاعدة مستقلة. ولا جديد فى هذا. فقد كانت تركيا عصب حلف بغداد الذى رفضه عبد الناصر عام 1954، ثم قامت ثورة العراق عام 1958. ومازالت تركيا حليفًا عسكريًا لإسرائيل. وهى تتدخل فى سوريا حاليًا بإيعاز من واشنطن. ومن ثم فهى بوضوح «كولومبيا الشرق الأوسط».
أما البديل الطورانى فى رفض «الأوربة» فقد سبق تجريبه أولاً على يد إنفر باشا عام 1918. ولكن صعود الاتحاد السوفييتى جعل هذا الطموح مستحيلاً، رغم أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتى بدا أنه من الممكن بعثه مرة أخري. ولكن ليس بوسع تركيا أن تفعل فى هذا المجال أكثر من كونها حليفًا خاضعًا يطبق خطة أسياده الأمريكان.
إن المواقف التى تتخذها القوى الحاكمة فى الجنوب فى مجال السياسة الدولية ليست محايدة فيما يتعلق بتوجهات التنمية الاقتصادية. فالاندماج فى الاعتبارات الاستراتيجية للقوى الإمبريالية يرتبط ارتباطًا طبيعيًا مع إضفاء الطابع الاقتصادى الكمبرادوري، أى المناقض للصعود. وهكذا فإن الإسلام السياسى التركي- مثله فى البلدان العربية وباكستان- رجعى فى مواقفه الاجتماعية، حيث يعارض صراحة نضال العمال والفلاحين.
لا بد من أن تدخل الدول الصاعدة فى صراع مع القوى الإمبريالية السائدة، حتى إن اختلفت كثافة الصراع من لحظة لأخري. فلأى مدى هى مستعدة لأن تعاملها القوى الإمبريالية حتى تظل مرشحة للصعود؟
أين تذهب تركيا؟ هل تمثل «الصحوة الإسلامية» بالنسبة إليها قطيعة شاملة أو جزئية فقط مع مشروع الكمالية؟ هل يمثل الحزب الإسلامى نموذجاً مماثلاً للأحزاب المسيحية الديمقراطية الأوروبية، وبالتالى فى سبيل تبنيه ممارسة الديمقراطية على النمط الغربى القائم على العلمانية، بمعنى فصل مجال إدارة السياسة عن مجال الفكر الديني؟ أم هو حزب أقرب إلى الإخوان المسلمين لم يتنازل عن مشروع «أسلمة الدولة والمجتمع» ولو بالتدريج؟
سبق أن قدمت بعض التحليلات حول هذه القضايا، التى سوف أختصر هنا أهم نتائجها:1- تركيا عضو مهم فى الحلف الأطلسي، ولا تفكر فى الانسحاب منه؛ وبالتالى لن تتجاوز سياستها حدود ما يسمح به هذا الانتماء.2- ليست تركيا اقتصاداً صاعداً صحيحاً على غرار بعض دول الجنوب المعاصر، وبالتالى لابد أن ينخرط دفع محتمل لمصالحها فى الإقليم فى إطار المسموح لها، أى بعبارة أخرى لن تتجاوز وسائل امتداد مصالحها فى المنطقة دور الوسيط المكمل للسيادة الإمبريالية، على غرار دول الخليج.3- ثمة قسمات خاصة لوضع تركيا ناتجة عن الخطوات التى مرت بها فى سبيل اندماجها فى المشروع الأوروبي، ألا وهى تشابك مصالح الرأسمال الأوروبى المهيمن ومصالح الرأسمال التركى العامل من الباطن، الأمر الذى يقف عقبة إضافية لرفع وضع تركيا لمستوى البزوغ الصحيح.
وبالفعل تخدم تدخلات تركيا فى شئون سوريا تلك الخطة الأمريكية/ الأوروبية، ولا غير. فتورطت تركيا فى المأزق، شأنها شأن القوى الإمبريالية الغربية.
أستنتج من ملاحظاتى المذكورة أن وضع تركيا يظل غير مستقر ويستحيل أن يستقر، لأن مشروعها لن يحقق انجازات صلبة تضيف إليه شرعية ثابتة لدى الشعب التركي، وبالتالى ثمة خطر ظهر فى الأفق وهو انزلاق السلطة نحو اعتمادها المتصاعد على أساليب ديكتاتورية، لعلها فاشية الطابع. وثمة إشارات تدل على أن مثل هذا التطور يمثل خطراً حقيقياً.
تقوم تركيا فى المشرق العربى بدور مماثل للدور الذى تقوم به كولومبيا فى أمريكا الجنوبية، أقصد دور «دولة إمبريالية من الباطن» (وهو التسمية المستخدمة فى أمريكا اللاتينية) تخدم مصالح الإمبريالية السائدة فتدعم فعالية مؤامراتها. ويمثل ثقل القوة العسكرية التركية وانتماؤها للحلف الأطلسى الأداة المستخدمة من أجل تحقيق الهدف. إذن ليس هناك تناقض بين مواصلة تركيا دور الوسيط الموصوف هنا وبين إنعاش طموحاتها «العثمانية». فلم تحم السلطة العثمانية الاستبدادية شعوبها (الأتراك والعرب) من غزو الإمبريالية، كما يزعم التيار الإسلامى السياسى المعاصر. بل على نقيض ذلك تماماً فتحت الأبواب للغزو الذى صارت شعوبها (الأتراك والعرب) ضحاياه.
وتقوم حالياً الدولة التركية- التى تميل إلى التحول إلى دولة استبدادية مرة أخرى (شبه فاشية)- بتكرار تاريخ الماضي. ولذلك لا ترى الإمبريالية مانعاً فى انزلاق تركيا نحو الفاشية فما تخشاه الإمبريالية هو تجذير حركة الشعب التركى وتوجهه نحو حل وطنى ديمقراطى شعبي، وهو شرط ترقية تركيا إلى منصب دولة صاعدة صحيحة. ثمة أمثلة عديدة أخرى تثبت أن الغرب يفضل دعم الفاشية المحلية لنفس السبب، ومنها تدخلات أوروبا فى أوكرانيا التى دعمت صعود القوى الفاشية فى البلاد.
المصدر: الإهرام