الشرق الأوسط: نظرة عامة على "اللحظة"
شبل سبع شبل سبع

الشرق الأوسط: نظرة عامة على "اللحظة"

هل المنطقة العربيّة والبلدان المجاورة لها ذاهبة لا محالة إلى غفوة كبيرة من دون أي صحوة في الأفق، خاصة بعد انهيار سعر النفط وانتصارات داعش في العراق، أم أنها على حافة صدام كبير ما كان النفط وداعش إلا أولى مؤشراته؟

 

التّخلّي العربي

كانت الدول العربية تصدِّر حتّى فترة وجيزة بعض المواد الزّراعيّة من قطن وقمح (وأيضاً قات وحشيشة!)، وبعض "السياحة" بالإضافة طبعاً إلى النفط والغاز ومشتقاتهما، فيؤمن لها ذلك القطع النادر لاستيراد كل الباقي.. إلّا أنه يبدو أن كل تلك المواد أصبحت "متوفرة فجأة" وبكثرة في الغرب، فانهارت أسعار الغاز والنفط أكثر من 50 في المئة، والقطن والمواد الزراعية الأخرى 30 في المئة تقريباً واختفت السّياحة نتيجة الاضطرابات بعد الربيع العربي في مصر وتونس، علاوة على سوريا والعراق ولبنان. وبما أننا بلدان نستورد تقريباً إجمالي ما نستهلك من السلع، ارتأى البعض أن يحصل على القطع النادر من خلال تصدير "اللاجئين والحركات الدينية". إلاّ أن هذا مكلف للغرب من دون أن يكون مثمراً لنا!
لقد دخلت المنطقة "العصر الحجري". الانهيار الاقتصادي بعد السياسي على الأبواب، فكما في أفريقيا كذلك في المشرق، حروب أهلية وربما مجاعة في بعض الدول، ولا توجد أي دولة تستطيع ان "تنشل" المنطقة اقتصادياً، وسياسياً أو حتى ايديولوجياً. فالحاصل في الصومال والسودان يمتد بعد لبنان وسوريا إلى المنطقة كلها: العراق، اليمن، ليبيا الخ.. وإذا بقيت الحال هكذا لفترة من الزمن فقد تصبح "الأهرامات" الجديدة في دبي كمثيلاتها في مصر.
كل الدول العربية التي لعبت، في لحظات تاريخية معينة، دوراً نهضوياً لم يعد لديها حاليا اي إمكانية لذلك. فالسيسي ليس بعبد الناصر ولا تستطيع مصر أن تكون قدوة للعالم العربي في الوضع الحالي، فوحدة مصر(وكذلك الجزائر) مؤمنة بالقوة وليس بالتوافق، والإخوان المسلمون يبقون قوة أساسية في البلد، أما الاقتصاد المصري ففي حالة سيئة نتيجة انهيار السياحة.
وما صفقة السلاح الفرنسية الحالية لمصر إلا مشروع لـ "تلزيمها" المسألة الليبية التي بدأت تشعر أوروبا بخطورتها (11000 لاجئ من ليبيا وصلوا إلى إيطاليا خلال النصف الأول من آذار/مارس لوحده)... فلمصر السيسي دور عسكري في ليبيا، ولكن من دون مشروع نهضوي "فكري" عربي، وهي حالياً باقية تحت سقف الخليج من الناحيتين السياسية والاقتصادية.
 

انتهاء الفائض السعودي

كان من الممكن أن تلعب المملكة السعودية دوراً كبيراً في المنطقة من الناحيتين السياسية والاقتصادية، إذ يسمح لها موقعها بأن تكون صلة وصل بين كل الأطراف السياسية في المنطقة.. إلا أنه من الواضح أن هذا الدور لم يعد ممكناً نتيجة احتدام الصراعات، بالإضافة إلى تدهور العلاقات مع أميركا وإيران وتركيا، والانخفاض الهائل في سعر النفط. ففعالية الخليج في المنطقة العربية تعبر عن نفسها من خلال الفائض النفطي الذي اختفى كلياً. لا بل، إذا بقي سعر النفط على هذا المستوى، ستعاني المملكة هذه السنة من عجز كبير في ميزانيتها (حوالي 50 مليار دولار)، اذ ستخسر حوالي 120 مليار دولار، وهو نصف مدخولها. المملكة والخليج يمولون الكثير من الفئات والتنظيمات والدول في المنطقة: الصومال، اليمن، العراق، سوريا، لبنان.. وخاصة مصر (حوالي 20 مليار دولار لوحدها)، فهل سيتمكنون من الحفاظ على هذا المستوى من الصرف/الدفع؟
أما قطر فهي ربما الدولة الوحيدة في المنطقة التي سيبقى لها فائض مهم نتيجة قلة عدد سكانها بالنسبة لدخلها الوطني، وهذا على الرغم من الانخفاض الكبير في سعر الغاز. وهذا المعطى يرجح عودة قطر للواجهة السياسية في المنطقة بعد تفاهمات جديدة بين تركيا والسعودية.
 

تركيا وإيران

نتيجة تفكك العالم العربي وتماسك تركيا وإيران النسبي، لعبت الجارتان الكبيرتان غير العربيتين دوراً متصاعداً في المشرق العربي، وكان من الممكن أن يكون لهما تأثير نهضوي كبير في مرحلة من المراحل، إلا أنه يبدو ولأسباب مختلفة أن هناك استحالة لذلك على المدى المنظور.
فالأسباب التي تمنع إيران من لعب دور قيادي في العالم العربي تعود بالطبع لواقع الحصار الذي تعاني منه منذ أكثر من 30 عاماً وإلى عدم إمكانية إجرائه خرقاً سياسياً وإيديولوجياً للطرف الآخر. وزيادة نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن أقل مما كان عليه نفوذ عبد الناصر في العالم العربي. وعلاوة على الشرخ المذهبي فهناك عدم إمكانية لخروجها من مجالها الحيوي: السيطرة على تكريت مثلا وتثبيت الوضع في العراق غير ممكن إلا بالاتفاق مع الأتراك. وإذا ما تثبت الاتفاق الأميركي ـ الإيراني، فالانفتاح الاقتصادي سيؤدي إلى تكريس طاقاتها للنمو الداخلي، في ظل انخفاض سعر النفط وتحالف الدول الكبرى الإقليمية ضدّها.
أما تركيا فتطمح إلى لعب دور كبير في الشرق الأوسط كصلة وصل جغرافية وسياسية بين الشرق والغرب. لذلك عمدت مثلا إلى وضع مشروع إنشاء أكبر مطار في العالم يربط شرق آسيا بالغرب. أما من الناحية السياسية فامتدادها العرقي إلى حدود روسيا وطرحها الديني يعطيانها إمكانية أن تكون الطرف الأكثر تأهيلا لأن "يكلفها" الغرب بمشاكل الشرق، وأكبر مثل على ذلك هو منطقة داعش، فهي لا تشارك ولا تسهل أي عمل ضد داعش في تلك المنطقة مع علمها أن التحالف لن يحقق انتصارات كبيرة. فطموح أردوغان هو أن "يلزِّم" الأميركان منطقة داعش لتركيا.
وطموحات تركيا هذه كانت ممكنة سابقاً عندما طرحت نفسها كنموذج لدولة إسلامية ديموقراطية ذات نمو اقتصادي كبير. فتبناها بعد الربيع العربي الغرب، وخاصة الخارجية الأميركية (هيلاري كلينتون ولجنة الخارجية في الكونغرس) كقدوة للأنظمة العربية المقبلة. إلا أن هذا النموذج التنموي الإسلامي الديموقراطي سقط مع سقوط الإخوان في مصر، نتيجة:
1ـ "اكتشاف" الاميركان (تصريحات بايدن) ان تركيا هي ليس فحسب وراء امتداد داعش الأخير بل أيضا رئتها (أين يباع النفط ومن أين تأتي الإمدادات؟).
2ـ النموذج الديموقراطي التركي سطحي جداً ولا يطال صلب المؤسسات الديموقراطية، سواء في الصحافة (من أكبر نسب اعتقال الصحافيين في العالم) أو بفضائح الفساد (ابن اردوغان نفسه)، أو في القمع العنيف للمتظاهرين (كما حصل في منتزه غازي وساحة تقسيم)، وطبعاً المسألة الكردية.
3ـ كما ان النموذج الاقتصادي التركي وصل إلى طريق مسدود نتيجة عجز الميزان التجاري. ولولا انخفاض سعر النفط الأخير الذي كان بمثابة بالون اوكسيجين مؤقت، لدخلت تركيا في أزمة اقتصادية كبرى بسبب الديون الكبيرة للخارج التي يتحملها القطاع الخاص، والناتجة بدورها عن القروض المصرفية الاستهلاكية للعائلات التركية، بالإضافة طبعاً إلى التفاوت الاقتصادي الكبير نتيجة إثراء "البورجوازية" الأناضولية على حساب الفئات الأخرى.
يبقى ان وضع اردوغان السياسي غير مهدد على الأمد القصير، إذ إنه بالتوازي مع ارتفاع دين القطاع الخاص، فهو استطاع أن يخفض ديون الدولة إلى مستوى متدنٍ جداً مقارنة مع الدول الأخرى. وبالتالي تملك الدولة مبدئياً إمكانية الاستدانة، وهذا يمكِّنها من التدخل "لإنقاذ" القطاع الخاص إذا لزم الامر. اما تفادي الأزمة القادمة، فلا يمكن ان يتم إلا من خلال تخفيف السيولة والاستيراد، أي تخفيض النمو الاقتصادي وبالتالي خفض أرباح البرجوازية الأناضولية. وهذا قد يكون خطراً لاحقاً على أردوغان، إذ قد تطمع هذه البرجوازية بـ "لبرلة" أكبر، وتكون صلة الوصل بين غولن والجيش التركي بمباركة من الإدارة الأميركية.

خلاصة
 

المنطقة العربية كانت وما تزال في طريق مسدود، تتفتت بسرعة، بينما تحقق الدول الإقليمية الكبرى المحيطة بالمشرق العربي بعض الانتصارات: إيران في اليمن، تركيا في العراق (عبر امتداد داعش)، مع محاولة إعادة تأهيل الدور المصري العسكري في ليبيا. هذه الانتصارات تقرب تلك الدول من المواجهة فيما بينها، مع اختفاء الـمنطقة العازلة تلك. فعلى سبيل المثال، فإن قتال إيران في تكريت هو مواجهة شبه مباشرة مع تركيا، وفي الجولان مع إسرائيل، وفي اليمن مع السعودية.
أما الولايات المتحدة فهي موجودة في الوسط، تحاول ان تمنع أي انتصار كبير للحلف التركي ـ القطري (الإخواني)، او السعودي ـ المصري، أو الإيراني ـ العراقي. فتستخدم سعر النفط، والنووي الإيراني، والرساميل الأميركية كأدوات ضغط على هذه الدولة او تلك.. إلا ان الصدام الكبير آت، إلا إذا اتفقت إيران وتركيا على تقاسم النفوذ في المنطقة بمباركة أميركية، مؤقتاً على الأقل وبانتظار الانتخابات الأميركية المقبلة. هكذا يكون ميزان القوى في الشرق الأوسط الجديد قد تعدل لمصلحة إيران بشكل أساسي وتركيا بشكل ثانوي، على حساب دول الخليج. وهو لن يتعدل إلا بحصول متغيرات جديدة، كلها مستبعدة على المدى المنظور، منها حصول تدخل عسكري مصري في المشرق، أو انهيار ألاتفاق الإيراني ـ الأميركي، أو ارتفاع كبير في سعر النفط.. أو الحسم العسكري في إحدى الدول.


* أستاذ الاقتصاد في جامعة السوربون - باريس

 

المصدر: جريدة السفير