نحو تنظيم الطبقة العاملة وتثمير نضالاتها
أحد أبرز الأخطاء التي ارتكبتها الرأسمالية في تاريخها، من وجهة نظر مصالحها، كان القمع الوحشي الذي قابلت فيه العمال الأمريكيين في شيكاغو في الأيام الأولى من أيار قبل نحو 129 عاماً، وذلك في أثناء قيامهم بسلسلة إضرابات لتحديد يوم العمل بثماني ساعات. يومها فتح البوليس النار على العمال المضربين ما أدى إلى استشهاد نحو 200 عامل، ولاحقاً أعدم ثمانية من قادة الإضرابات وسجن عدد آخر منهم لفترات طويلة.
يكمن خطأ الرأسمالية، من وجهة نظر مصالحها، بأن الطبقة العاملة العالمية انتزعت اعتراف العالم كله بيوم الأول من أيار كعيد للطبقة العاملة، وكمناسبة لاستحضار نضالاتها على مدى القرون السالفة التي سادت بها البرجوازية. فبالرغم من أن تلك الحادثة ليست إلا واحدة من الكثير من المرات التي انفلتت فيها الرأسمالية من عقالها في قمعها العمال قتلاً واعتقالاً وتنكيلاً، إلا أن اللحظة التاريخية التي دفع فيها عمال شيكاغو دمائهم ثمناً لنيل حقوقهم كانت لحظة بداية الانتصار في المطلب الذي رفعته الطبقة العاملة في ذلك الحين، مطلب تحديد يوم العمل بثماني ساعات.
منذ ذلك الحين تضطر حتى أكثر الحكومات البرجوازية رجعية في العالم إلى الانحناء أمام عظمة الطبقة العاملة في هذا اليوم، وإبداء التعاطف الزائف معها ومداراتها ومداهنتها مجبرةً. ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أن الرأسمالية كفّت عن محاولاتها الالتفاف على دلالات تلك الذكرى وإفراغها من مضامينها العميقة والجوهرية، التي تظهر فيها الحاجة الموضوعية في كل عام إلى تغيير النظام الرأسمالي العالمي الذي بات يشكل في التاريخ المعاصر العائق الرئيسي في تطور البشرية، والظاهرة الرئيسية المولدة لاستغلال الإنسان للإنسان ولكل أشكال الاضطهاد والحروب والاستعمار وتهديد السلم العالمي والمخاطر البيئية على الكوكب. وهكذا نجد أن هذه المناسبة تتعرض في كل عام إلى درجة عالية من التطفل من جانب القوى الإصلاحية البرجوازية والانتهازية، التي تعمد إلى طمس المعنى الحقيقي لعيد العمال من خلال أدوات كثيرة، كحصر هذا اليوم في الإطار المناسباتي البحت، وتصويره كيوم عطلة عادي للعمال، وعربوناً رمزياً عن الوفاء المصطنع لتعب العمال، وجعله على قدم المساواة مع مناسبات أخرى أقل أهمية، بحيث تتساوى أهمية العامل، الذي هو منتج لكل القيم المادية، بأهمية الأشياء الأخرى الثانوية في المجتمع والطبيعة التي تقام لها الأعياد جزافاً.. الخ. فالمسألة إذاً ليست في إطلاق الشعارات وتكرارها عن العمال وقضاياهم. فهذا الأمر من شأنه أن يحول كل الإشارات والرموز المتصلة بقضية الطبقة العاملة، ومنها عيد العمال، إلى أيقونات لا تنفع بل وتضر، بما يصب في نهاية المطاف في صالح الرأسمالية التي ما من شك في إنها تسعى إلى ذلك. بل بات من الضروري، أن تعمل القوى اليسارية والوطنية المناصرة فعلاً لقضية الطبقة العاملة على صياغة الخط السياسي الرئيسي لنضال الطبقة العاملة، على ضوء قراءة اللحظة الراهنة وصياغة مهمات ملموسة تتناسب معها.
وفي هذا السياق، فقد بات من المعروف بالنسبة لكثير من القوى اليسارية والوطنية أن انفجار الأزمة الرأسمالية العالمية، وبداية تراجعها منذ أكثر من عشرة أعوام، أفسح في المجال لاحقاً لظهور التحركات الشعبية في العديد من البلدان العربية، ولاحقاً في بقاع عديدة من العالم، كتعبير عن تعمق حدة التناقضات التي تولدها الرأسمالية في المجتمعات، كالفقر والبطالة والتهميش وانخفاض الحريات السياسية.. الخ، وكتعبير عن انفتاح الأفق أمام قطب الشعوب في مقابل انسداده أمام قطب الإمبريالية. إلا أن الحقيقة التي لا تزال غائبة أو مغيبة، في كل ذلك هي أن الطبقة العاملة كانت أول من أطلق شرارة التحركات الشعبية في أوائل البلدان التي شهدت تلك التحركات، وتوجد أمثلة عديدة على ذلك، في مصر (إضرابات المحلة 2008)، وتونس (إضرابات عمالية متفرقة وواسعة شارك في مجموعها 350 ألف عامل، في عامي 2008- 2009)، وسورية شهدت بدورها تحركات عمالية متفرقة في الأعوام ذاتها (إضرابات المرافئ). من خلال هذه الأمثلة يمكن تلمس حقيقة أن الطبقة العاملة في البلدان الثلاثة، على سبيل المثال لا الحصر، سبقت بقية الفئات الاجتماعية والطبقات، فضلاً عن الكثير من القوى السياسية، في العودة إلى الشارع والمطالبة بالحقوق بالرغم من تدني مستوى الحريات السياسية والديمقراطية. ويمكن القول أن ذلك يؤشر على أن الوزن السياسي للطبقة العاملة يزداد موضوعياً، وأنها بإدراكها المبكر والفطري لضرورة خوض النضالات الاقتصادية والسياسية باتت الحامل الرئيسي لمشروع التغيير الوطني والديمقراطي، ليس في البلدان العربية فقط بل في بقية بقاع العالم أيضاً، التي تشهد بدورها تحركات ثورية متنوعة وكثيرة.
على ضوء ذلك، يغدو من الضروري على القوى اليسارية أن تعيد الاعتبار للعمل داخل صفوف الطبقة العاملة في كل مكان، «العمل حيث توجد الجماهير» على حد قول لينين. والتخلي عن كل الأشكال السابقة في العمل التي تكونت في النصف الثاني من القرن العشرين، التي كانت تتلاءم مع ظروف سابقة مغايرة للظروف الحالية، كالتكيف مع واقع أن الطبقة العاملة كانت متأخرة وضعيفة موضوعياً، والاعتماد في المقابل على أوساط الطلبة والمثقفين الثوريين بشكل رئيسي في بنية الأحزاب اليسارية بديلاً عن كادرات الطبقة العاملة..الخ. بالإضافة إلى الربط الضروري بين النضال الاقتصادي- الاجتماعي والديمقراطي والوطني، واعتماد أشكال النضال كلها بحسب تدرجها من الاقتصادي إلى السياسي إلى الفكري فالأيديولوجي. والعمل على الملفات الراهنة والملموسة المتصلة بأوساط العمل، كملف المعطلين عن العمل، وهجرة الشباب العربي، وبحث النماذج الاقتصادية اللاحقة في سياق التحولات التي تشهدها منطقتنا.. الخ.
في الأول من أيار هذا العام، تكون الرأسمالية العالمية قد قطعت شوطاً كبيراً في تراجعها، على وقع أزمتها العميقة والمستعصية، الأمر الذي يجعل من اللحظة الراهنة لحظة تقبل فيها الطبقة العاملة في منطقتنا والعالم على المزيد من الانتصارات التي كانت قد ابتدأت سلسلتها منذ تضحيات عمال شيكاغو وحتى اليوم. وهو ما ينبغي بالأحزاب الثورية الحقيقيّة تلقفه والتعامل معه بأعلى مستويات الروح الكفاحية والتنظيمية، فتنظيم جماهير الطبقة العاملة في الحزب الحديدي انضباطاً والمرن والمتكيف في الوقت نفسه والذي يتناسب مع تطور الطبقة العاملة الراهن أصبح ضرورة لا يستحق من يهملها صفة الثوري..
نقلاً عن صفحة اللقاء الشبابي اليساري العربي