سورية... المواجهة في الحوار
لا تقتصر لقاءات موسكو بين المعارضة السورية والسلطة على التوصل لتفاهمات، فالمسألة كما ظهرت من خلال اجتماعات هي "اعتياد" على السياسة، فالتوتر الذي ساد أروقة اجتماعات يعبر بالدرجة الأولى عن مواجهة في الإرادات، والصدام في التصريحات هو الحالة المنطقية لأي مواجهة سياسية
لكن هذا الأمر لا يعني تفاؤلا على مستوى الحل السياسي، لأنه تأكيد فقط على طبيعة التعامل خارج معادلة العنف، وفي المقابل فإن أهمية اللقاءات في موسكو أنها "عملية – Process" سياسية، ورغم أن مصطلح "عملية" له ايقاع سيء رتباطه بـ"عملية التسوية" في الشرق الأوسط، لكننا نتعرف عليه وفق النموذج الروسي، فعبر لقائين في موسكو اصبحنا نملك مؤشرات ترسم هذا النموذج أو ربما تضع بعضا من ملامحه.
تناقضات وتوافقات
النموذج الروسي لـ"العملية السياسية" لا يذهب نحو التفاؤل، فهو يسعى لتقديم صورة عن الواقعية التي تجسدها الأزمة السورية، وهو يرسم لهذه اللقاءات سيناريو يجعل من مؤتمر جنيف2 محطة مختلفة لوضع الآليات بدل من تبادل اتهامات، ورغم أن الطرف الأكثر تشددا موجود خارج أروقة هذه اللقاءات، ومنسجم مع حدة "الأجندات الإقليمية" بما يرافقها من عنف، لكن ملامح "العملية السياسية" تبدو في أمرين:
-رسم مسألة "الحوار" ضمن الموقف الرسمي السوري، فالحدة التي اتسمت فيها النقاشات لم تمنع من التوصل لبعض التفاهمات، ولم توقف الحوار وهو أمر مهم، ففي الدبلوماسية الخلاف في الرأي لن يقود إلى التصادم وهذا الأمر هو ما يميز "العملية السياسية"، ويبدو أن موسكو لم تنجح فقط في جمع السلطة والمعارضة بل استطاعت تقديم الصورة السياسية التي يمكن المتابعة فيها، فينما كانت لقاءات جنيف "جلسات محاسبة"؛ فإن الحوار الحالي هو مواجهة سياسية بغض النظر عن النتائج المباشرة لما قدمته وسط العنف والإرهاب على الأرض السورية.
ويبدو أن جوهر الدبلوماسية الروسية تثبيت أمر واقع للحكومة السورية، فهي تسعى لوضعها في سياق مسار سياسي مع الأطراف الأخرى، مما يؤدي إلى تشكيل واقع مختلف ينهي موضوع الصراع على "النظام السياسي"، ويدخل في عملية "فض الاشتباك" بين دمشق والمجتمع الدولي، فأي تفاهم يمكن أن تتوصل إليه المعارضة مع الحكومة السورية، مهما كان حجم المعارضة، سينتقل إلى المحافل الدولية وفق مشروع روسي بالدرجة الأولى لأنهاء الأزمة السورية، فموسكو تريد بناء حالة سياسية يمكن استناد إليها لتقديم "أجندة" تنهي مسألتين أساسيتين: مشروعية النظام السياسي لأنه سيظهر ضمن إطار سياسي واسع، والمسألة الثانية حالة الحصار على الدولة السورية التي يمكن اعتبارها شرطا أساسيا لمشروع مشترك من أجل محاربة ارهاب.
-تحقيق اختراق في مسألة بناء منظومة الشرق الأوسط، فموسكو لا تملك في الواقع سيناريو يستند للتداعيات المبنية على "علاقات العنف" بين دول المنطقة كما يحدث اليوم، وفي نفس الوقت فهي تحاول بناء نموذج سياسي يتجاوز الارباك الدولي لإنجاز منظومة شرق أوسطية جديدة، وهي تعرف أن الحوار في موسكو بين الأطراف السورية سيسهل هذه المهمة، لأنه ليس فقط جمع المعارضة والسلطة على طاولة واحدة، بل أيضا تحديد مهام للحكومة السورية بعيدا عن الحلول غير الواضحة، مثل "الحكومة الانتقالية" وغيرها.
رهان روسيا يظهر في محاول انجاز شراكة بين المعارضة والسلطة، ووضع الطرفين أمام استحقاقات برنامج سياسي، وحلول مرنة لدعم الدولة في مواجهة الإرهاب، وهذا الأمر سيعزز من طبيعة الدول المستقبلي للدول في ضمان الأمن الإقليمي، فالنموذج الذي يمكن أن يظهر يشكل نقطة ارتكاز أساسية في رسم مشروع للأمن الإقليمي يواجه سياسة التحالفات القائمة، وهي بمعظمها عسكرية.
نتائج غير حاسمة
يبدو أن النتائج الملموسة ليست هدفا من الحوار الحالي، فهو كـ"عملية سياسية" يهتم بالوظائف التي تتبناها الأطراف خلال سير هذه "العملية"، ورغم أن أطراف المعارضة الموجودة على الطاولة لا تشكل قوة أساسية داخل الجغرافية – السياسية الحالية لسورية، لكنها ستفرض وظائف يمكن أن تغير في البيئة السياسية، والواضح أن ماحدث حتى الآن في موسكو هو الانتقال إلى نقاط جديدة؛ عبر مقدمات بشأن الأزمة لا تتعلق بـ"اقتسام السلطة" بل بإنتاج حلول سياسية تساعد في إنجاز أي مشروع مستقبلي للخروج من الأزمة، ومحدودية الفرص المتاحة أمام المجتمعين هي ما يميز هذا اللقاء، لأنهم في النهاية يواجهون أزمة مركبة لا يمكن عزلها عن الصراع الإقليمي، فهم في الواقع يطرحون النموذج الموازي للحلول العسكرية القائمة على التحالفات، ولكنهم في المقابل يساعدون أحد الأطراف الدولية، روسيا تحديدا، على بلورة مشروع مختلف بشأن سوريا والشرق الأوسط عموما، وهو ما يرفع من الرهان على هذا اللقاء، لأنه يمثل في إحدى جوانبه انتقال من الحكومة باتجاه رسم مسار سياسي مختلف، وأما الجانب الآخر فهو فرض مشروعية المعارضة من خلال مشروع متكامل يوافق المجتمع الدولي على احد جوانبه، وهو المتعلق بمحاربة الإرهاب، وبالتالي إيجاد منفذ لأزمة علاقة دمشق مع الخارج وبناء مشروعية للمعارضة ضمن هذا المنفذ بعيدا عن استقطابات الإقليمية.
المصدر: سورية الغد