دور النظرية الاقتصادية في فشل التنمية... وكيفية إحياء دور الدولة لإنجاحها
ألبر داغر ألبر داغر

دور النظرية الاقتصادية في فشل التنمية... وكيفية إحياء دور الدولة لإنجاحها

يتناول الجزء الأول من النص الدور الذي لعبته النظرية الاقتصادية في «شيطنة» الدولة خلال الحقبة النيو-ليبرالية، ويتناول الجزء الثاني منه، كيفية إحياء دور الدولة في التنمية و»التصنيع المتأخّر». وسوف يتم تناول مسألة الإحياء هذه في مجالات خمسة هي السياسة التجارية وسياسة التمويل والسياسة التكنولوجية وسياسة الإصلاح الإداري وإقامة أجهزة التخطيط المركزي.

1. كيفية «شيطنة» الدولة

حظيت الدولة ودورها في الاقتصاد بالتقريظ خلال الربع قرن الذي أعقب الحرب العالمية الثانية. وانطلقت منذ الستينيات مجموعة من المقاربات تناولت دورها بالنقد معتبرة إياه سبب الكساد وتعثّر النمو. أحصى المفكر الاقتصادي البريطاني شانغ أربع مقاربات جسدها التيار النقدوي (monetarism)، وتيار التكلّس المؤسساتي (institutional sclerosis) وتيار العقد الاجتماعي الجديد (new contractarianism) ونماذج نقد البيروقراطية (principal-agent models of bureaucracy)، تناولت كل منها بطريقتها الخاصة دور الدولة بالنقد في الغرب. وانصب النقد على دور الدولة في البلدان النامية من خلال نقد استراتيجية «التصنيع باستبدال الواردات» (I.S.I.)، ونقد تدخل الدولة بوصفه مبرّراً «للتفتيش عن الريع» (rent seeking)، ونقد الدور الذي تلعبه مؤسسات القطاع العام (شانغ، 1995: 7-11).

الإصلاح الفعلي المطلوب هو توفير الشروط التي تجعل «الدولة قادرة على التعلّم والتمرين»
لعب المفكرون المنتمون إلى التيار النفعي الجديد الذين تتالت إسهاماتهم على مدى السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين الدور الرئيسي في نقد دور الدولة وفي «شيطنتها». كان قد سبق النفعيين الجدد إلى نقد دور الدولة في الاقتصاد مفكرون كفريدريش فون حايك منذ 1944، وميلتون فريدمان خلال الستينيات. رمى الاثنان في كتاباتهما إلى إعطاء الدولة دوراً جديداً ألا وهو أن تتولى استعادة النشاط الاقتصادي بوصفه من مسؤولية القطاع الخاص حصراً، ووضعا على عاتقها إقامة هذا الاقتصاد الجديد (إيفانز، 2013: 16). سنعرض في هذه الورقة نقطتين فقط: مقاربة النفعيين الجدد لدور الدولة، والحجة النيو-كلاسيكية الرئيسية المعتمدة لنزع الاعتبار عن تدخل الدولة في الاقتصاد.

أ ـ التيار النفعي الجديد ودوره

تحتوي الدولة في قراءة التيار النفعي الجديد لها، على بيروقراطيين أو موظفين كبار يرتبطون مع مجموعات ضغط ومع سياسيين بعلاقات انتفاع متبادل، ويُخضِعون عملهم في الإدارة لمصالح هؤلاء. وهم يوفرون منافع لهم، أولاً من خلال قدرتهم على توزيع موارد على شكل دعم أو تسليفات أو تشغيل أفراد أو تنفيذ أعمال للدولة، إلخ. ويوفرون منافع ثانياً، من خلال بلورة نصوص تنظيمية تتيح لهؤلاء الحصول على ريوع، كتلك التي تتيحها الرسوم الجمركية التي تستفيد قطاعات بعينها منها، أو النصوص التي تحد من القدرة على دخول قطاعات بعينها وتوفر ريوعاً للمؤسسات الاحتكارية أو شبه-الاحتكارية العاملة فيها (إيفانز، 1995: 23-24). ويعيقون عمل آليات السوق بحلولهم في ميادين عديدة محل قوى السوق، كما قد يكون الأمر في ميدان التسعير الإداري مثلاً.
يقول إيفانز إن التيار النفعي الجديد وفّر إضاءة على كيفية اشتغال الدولة من الداخل لا يمكن تجاهلها. وقد بقيت الدولة في الأدبيات النيو-كلاسيكية «صندوقاً أسود» لم يجرِ العمل على فهم ما يجري داخله. لكن الجهد الموضوع لفهم كيفية اشتغال الدولة تحوّل إلى تعمية على دورها على يد الكثيرين من أتباع التيار النفعي الجديد. قدّم هذا التيار سبباً واحداً وحيداً لمشكلة الدولة اختصره مفهوم «التفتيش عن الريع» (rent seeking)، ووضع المشكلة عنذ بيروقراطيي الدولة. تجاهل أن الأدوار التي يلعبها البيروقراطيون هي نتيجة وليست سبباً، وأن التفتيش عن أصل المشكلة يجب أن ينطلق من دراسة طبيعة القوى الاجتماعية وعلاقتها مع الدولة (state-society relation). قدّم هذا التيار نموذجاً لأداء الدولة رأى أنه يصلح في كل زمان ومكان، الأمر الذي يمثّل تعميماً غير مقبول على الإطلاق (المصدر نفسه: 24). وفّرت الأدبيات النفعية الجديدة ما يكفي لـ»شيطنة» الدولة. تحوّل وجود هذه الأخيرة مع بيروقراطييها والأدوار التي انتدبوا لها مشكلة للمجتمع وبات المطلوب نزع صلاحياتها.

ب ـ استخدام مقولة «حسن رصد الموارد»

استخدمت المؤسسات الدولية منذ 1980 حجة مأخوذة من التراث النظري للمدرسة النيو-كلاسيكية لفرض حجر على تدخّل الدولة في الاقتصاد، هي حجة سوء رصد الموارد الذي تتسبّب به الدولة. وهي غير الحجج التي استخدمتها القوى العظمى المسيطرة وخصوصاً إنكلترا خلال حقبة الاستعمار لمنع الدول الخاضعة لها من تحقيق تصنيعها، ومنعها من حماية اقتصاداتها.
إحدى أهم المقاربات التي اعتمدها الخطاب النيو-ليبرالي لنزع الشرعية عن تدخّل الدولة في الاقتصاد، كانت بالتركيز على فكرة «الفعالية في رصد الموارد»، والانطلاق من مسلّمة لدى النيو-ليبراليين، وهي أن تدخّل الدولة يعيق حسن رصد الموارد، بل وينجم عنه سوء استخدام لها. كل ذلك مع تأكيد أن القطاع الخاص أو السوق يتفوّقان بدون أي شك على الدولة في حسن استخدام الموارد.عرفت البلدان النامية حرية نسبية في صوغ سياساتها الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية
وحين أجرى المفكر الاقتصادي الكبير هيرشمان عرضاً لمساهمات اقتصاديي التنمية ومواقفهم حتى مطلع الثمانينيات، عزى تراجع علم «اقتصاد التنمية» بعد مرحلة الصعود خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، إلى تغيّر نظرة الاقتصاديين إلى أنفسهم مع انطلاق حقبة النيو-ليبرالية. تخلّوا عن تصورهم لدورهم بوصفهم في «مواجهة مع التخلّف بكل أوجهه»، مع ما يقتضيه ذلك من نضالية والتزام قضايا الشعوب والمجتمعات النامية، وفضّلوا الانكفاء إلى دور أكثر تقنية. باتوا يرون أن مهمتهم تنحصر بتقييم الفعالية (performance assessment)، أي أن يُنتَدبوا لإعداد تقارير تتناول تقييم فعالية الاقتصادات أو القطاعات الإنتاجية أو المؤسسات لجهة حسن أو سوء استخدام الموارد (هيرشمان، 1981؛ غور، 2000).
تمثّل مسألة «حسن رصد الموارد» عنصراً أساسياً في الأدبيات النيو-كلاسيكية أو الليبرالية للتجارة الدولية. دأبت هذه الأخيرة منذ الثلاثينيات من القرن العشرين وعلى مدى العقود اللاحقة وحتى اليوم على بلورة نماذج أنيقة يجمع بينها قاسم مشترك واحد هو إثبات أن كلّ تدخّل للدولة من شأنه إعاقة حرية التبادل، ينجم عنه سوء رصد وسوء استخدام للموارد. إذا وضعت الدولة رسوماً جمركية لحماية قطاع إنتاجي ما، فهذا دليل على أن هذا القطاع غير فعّال، يشكّل دعمه من خلال الحماية سوء استخدام أو تخصيص للموارد. فهو لو كان فعالاً لما كان احتاج للحماية. ويشجّع دعمه بالحماية المستثمرين على توجيه مواردهم إليه، بدل أن يكرّسوها لتطوير القطاعات التي يمتلك فيها البلد المعني ميزات نسبية. تُدين النظرية الليبرالية للتجارة الدولية بصيغتها التقليدية كلّ استخدام لمطلق أداة من أدوات السياسة التجارية، أكانت رسوماً جمركية على الواردات أو رسوماً على الصادرات، أو قيوداً كمية على الواردات أو على الصادرات، أو دعماً توفره الدولة للإنتاج أو للتصدير (نياهوهو وبرولكس، 1997: 169-247).
تمثّل النظرية الليبرالية للتجارة الدولية بصيغتها التقليدية الأساس النظري الذي تستند إليه منظمة التجارة العالمية وبقية المؤسسات الدولية في الدفع لتحرير التجارة والمبادلات الدولية. عرض المفكر الاقتصادي اللامع ها-جون شانغ في جامعة كامبريدج الكيفية التي تستخدمها المؤسسات الدولية، بالتعاون مع البلدان الصناعية، لانتزاع أية مقدرة لدى البلدان النامية على بلورة سياساتها الاقتصادية بمفردها، ولإجبارها على التزام ما تمليه عليها هذه الأطراف الخارجية (شانغ، 2005). أخذ أمثلة ما يجري داخل أروقة منظمة التجارة العالمية في مناسبة اللقاءات الدولية لتحرير التجارة والتبادل. كان الهدف من لقاءات كانكون عام 2003، جعل البلدان النامية توقّع على «اتفاقية الاستثمار المتعدّدة الطرف» (M.I.A.) التي تنتزع منها أية قدرة على إجراء أية رقابة في ميدان دخول وخروج الرساميل. وكان الهدف من لقاءات هونغ كونغ عام 2005 للتفاوض حول «تحرير التبادل في ميدان السلع غير الزراعية» (N.A.M.A.)، إجبار البلدان النامية على النزول بالمعدّل العام للرسوم الجمركية لديها إلى 5 – 7%. وأصرّت الولايات المتحدة منذ 2002 على فرض مشروع كان الهدف منه الوصول إلى «معدّل رسوم جمركية يساوي صفراً» مع حلول 2015 (المصدر نفسه: 4).
ثمة أوجه شبه كبيرة بين ما تحاول البلدان الصناعية فرضه في ميدان المبادلات الدولية، وما كان يجرى خلال الحقبة الاستعمارية. كانت انكلترا تمنع مستعمراتها من إنتاج السلع التي يمكن أن تنافس شركاتها أو تتفوّق عليها بها. منعت إنتاج المنسوجات القطنية في الهند والصوفية في إيرلندا وإنتاج الحديد الصلب في الولايات المتحدة حين كانت لا تزال تستعمرها، بحجة أنها نشاطات «غير مشروعة» (illegal) (المصدر نفسه: 7). ومنعت اعتماد أية رسوم جمركية من شأنها حماية القطاعات الإنتاجية التي يمكن أن تنتج سلعاً مصنّعة. بل عملت ما بوسعها لكي تتخصّص هذه المستعمرات في إنتاج المواد الأولية، لكي لا تفكّر بإنتاج سلع مصنّعة.
وهي نجحت في فرض توقيع «اتفاقيات غير متكافئة» (unequal treaties) على البلدان الأخرى التي لديها إمكانات يمكن تطويرها، من الصين إلى اليابان إلى السلطنة العثمانية، إلخ. وفّرت معاهدتا 1838 و1861 لإنكلترا والقوى الأوروبية الأخرى، تحريراً كاملاً للتبادل مع السلطنة العثمانية (عيساوي، 1982: 35 و37 ). وهي أزالت كل العوائق على الاستيراد والتصدير، وأتاحت تجنيد منتجي السلطنة لخدمة الأسواق الغربية كمنتجين للمواد الأولية الزراعية (قطن، حرير، صوف، حبوب، إلخ.). امتدت هذه الحقبة بين 1820 و1870، وسمّاها روبنسون وغالاهر حقبة «إمبريالية تحرير التبادل» (روبنسون وغالاهر، 1953).

عرفت البلدان النامية حرية نسبية في صوغ سياساتها الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية
الحقبة اللاحقة حتى الحربين العالميتين الأولى والثانية، هي حقبة التنافس لاحتلال هذه البلدان مباشرة. وفّر العجز عن تسديد القروض التي أمّنها الأوروبيون لعدد من أقاليم السلطنة العثمانية الحجة لوضع اليد عليها. أنشأت القوى العظمى الأوروبية «إدارة للدين العام العثماني» تحت إشرافها أمّنت بها تجيير مداخيل السلطنة الضريبية لخدمة الدين العام. كانت خدمة الدين العام العثماني تستنفد نصف الإنفاق السنوي للموازنة خلال العقود الأخيرة من عمر السلطنة (هينبوش، 2011: 218). احتل الفرنسيون تونس عام 1881 بحجة تخلفها عن سداد ديونها. واحتلّت إنكلترا مصر في العام التالي للسبب ذاته.
عرفت البلدان النامية حرية نسبية في صوغ سياساتها الاقتصادية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهي حرية انتهت مع نهاية عقد السبعينيات. شهد ذلك العقد تعبئة لدى البلدان النامية لفرض اتفاق مع البلدان الصناعية يهدف لإقامة «نظام اقتصادي دولي جديد» (NIEO) أكثر تكافؤاً. يقول شانغ إن السياسات النيو-ليبرالية التي فرضتها البلدان الصناعية والمؤسسات الدولية على البلدان النامية، ومصادرة حقها في صوغ سياساتها، كان الهدف منه «تأديبها» أو «إعادتها إلى مكانها» بعد تجربة ذلك العقد (شانغ، 2005: 12).

2. كيفية إحياء دور الدولة

لعبت الحجج النظرية التي سبقت الإشارة إليها دوراً مهماً في نزع الاعتبار عن تدخّل الدولة في الاقتصاد. ولقد أوضحت أليس أمسدن الدور الكبير الذي لعبته نظريات السوق التي راجت خلال الحقبة النيو-ليبرالية في تسويغ سياساتها (أمسدن، 2009). لكن كان ثمة أسباب موضوعية أسهمت في إسقاط الاعتبار عن دور الدولة في التنمية، جسدتها مقاربة البلدان النامية لمسألة التنمية خلال حقبة «استبدال الواردات».

أ ـ أسباب فشل التنمية

في قراءته اللامعة لأسباب فشل التنمية خلال حقبة «استبدال الواردات»، عزى هنري بريتون السبب إلى أن البلدان النامية اعتبرت أن التنمية تتحقّق كلما ازداد حجم رأس المال الصناعي الممثّل بالآلات والتجهيزات المستوردة، أو كلما ازدادت مساهمة رأس المال الصناعي في الناتج الوطني (بريتون، 1998: 907). عرّف نموذج هارود ودومار الشهير الذي بات معروفاً على نطاق واسع مع انتهاء الحرب العالمية الثانية النمو بوصفه ناجماً عن زيادة الادخار (S) وعن زيادة حصة رأس المال الصناعي (K/Y) في تكوين الناتج الوطني. عبّرت مساهمات أرتير لويس في مطلع الخمسينيات عن الفكرة ذاتها، وهي أن النمو يتحقّق كلما اتسعت النواة الصناعية الحديثة على حساب القطاع الزراعي والريفي التقليدي. تكوّنت آنذاك قناعة عامة بأن التنمية تتحقّق بمجرّد ازدياد حجم رأس المال الصناعي الوطني.
بيّن بريتون أن هذه النظرة لكيفية تحقّق التنمية كانت أحد أسباب فشلها. استمرّت البلدان النامية في مراكمة رأس المال الصناعي، أي التجهيزات المستوردة من دون الالتفات إلى أن نسبة تشغيل هذه المنشآت كانت ضعيفة، وأن إنتاجيتها كانت متردية للغاية، كما أن مساهمتها في تشغيل القوى العاملة المحلية كانت ضعيفة للغاية هي الأخرى. الأمر الذي نجم عنه ارتفاع مطّرد في البطالة (المصدر نفسه: 914).
لكن الإسهام الأهم لـ بريتون في تفسير أسباب فشل التنمية هو في إظهاره كيف اعتمدت البلدان النامية خيار السهولة، من خلال استيراد المدخلات وقطع الغيار وإقامة قطاعات صناعية بكاملها على قاعدة تجميع سلع عادية ومعمِّرة (assembly plants) مقدمة لبيعها في السوق الداخلية المحميّة من المنافسة الخارجية. سهّلت البلدان النامية هذا الخيار باعتماد أسعار صرف للعملة الوطنية تخفّض كلفة استيراد المدخلات والسلع التجهيزية اللازمة لهذه القطاعات، وبتوفير الحماية الجمركية لها. أسّست هذه البلدان لفشلها التنموي لأنها تغاضت عن هدف إنتاج الآلات (capital goods) بنفسها وبقدرتها الذاتية (المصدر نفسه: 913).

ب - الإجراءات المطلوبة من الدولة لتوفير شروط التنمية و«التصنيع المتأخر»

لم يكن المطلوب من البلدان النامية أن تنتج آلات جديدة غير معروفة، بل أن تعدّل على تلك المتداولة في السوق الدولية بواسطة التمرين والتجريب. يتحقّق هذا الأمر على مستوى المؤسسة الإنتاجية، ويقوم به مهندسو الإنتاج فيها، ويمثّل عملية تمرين أو تعلّم بالتجريب (learning by doing) ويتيح إنتاج سلع تجهيزية بمواصفات أو ميزات جديدة، يمكن طرحها في السوق الدولية. هذا هو تعريف «التصنيع المتأخّر» بوصفه «مراكمة للتمرّن والتعلّم» (knowledge and learning accumulation) بالمعنى التكنولوجي للكلمة، وفقاً لتعريف بريتون له. لا يمكن أن يتحقّق «التصنيع المتأخر» في وضع تتعرّض فيه المؤسسات الوطنية المعنية بإطلاق عملية «التمرّن والتجريب» للمنافسة الدولية. ينبغي على الدولة أن تستخدم لخدمتها أدوات تنتمي إلى خمسة ميادين هي السياسة التجارية وسياسة التمويل والسياسة التكنولوجية وإقامة أجهزة للتخطيط المركزي وإصلاح الإدارة العامة.

(1) الإجراءات المطلوبة في ميدان السياسة التجارية

رصد شانغ جملة المقولات التي تستخدمها البلدان الصناعية في المفاوضات داخل أروقة منظمة التجارة العالمية لإجبار بلدان العالم الثالث على التخلّي عن ترسانتها الحمائية. يختصر مبدأ «جعل الشروط متساوية للكلّ» (Level Playing Field) أول هذه المقولات. رأى شانغ أن الضغط على البلدان النامية لإزالة رسومها الجمركية أمراً غير منصف على الإطلاق، لاختلاف شروط كلٍ من المتفاوضَين. شبّه ما هو مطلوب من البلدان النامية بمنازلة مفترضة بين ملاكمَين أحدهما من الوزن الثقيل والآخر من وزن الريشة. إذا كانت البلدان الصناعية لا تحتاج إلى رسوم جمركية، فإن البلدان النامية بأمسّ الحاجة إليها لحماية قطاعات قائمة تستوعب قسماً من القوى العاملة، ولتوفير مداخيل جمركية للدولة.
ولأن البلدان الصناعية تدرك التفاوت بين طرفي المفاوضات، فقد أرادت الظهور بمظهر المتعاطف مع البلدان النامية من خلال التعامل معها «على أساس امتيازات أكبر» (Special and Differential Treatment)، ومن خلال القبول بـ»معاملة بالمثل غير كاملة» (Less-than-full Reciprocity) معها. رأى شانغ أن التساهل مع البلدان النامية في شأن اعتماد رسوم جمركية أعلى قليلاً مما يتطلّبه مبدأ «جعل الشروط متساوية»، لا ينبغي أن يعتبر منّة أو امتيازاً تعطيه البلدان الصناعية للدول النامية، وأن الأمر الطبيعي أن تتناسب أدوات السياسة التجارية مع حالة البلدان المعنية. انتقد شانغ أيضاً الفهم الذي تقدمه البلدان الصناعية لمبدأ المرونة (Flexibility) الذي تمنّن به البلدان النامية (شانغ، 2005: 14-17). وقد رأى أن المرونة لا تعني فقط إعفاء بضعة قطاعات من شرط إزالة أو تخفيض الرسوم الجمركية، بل تنبغي ترجمتها بالسماح للبلدان النامية التي خفّضت رسومها أكثر من اللازم للدخول إلى منظمة التجارة العالمية، بأن تعيد رفع هذه الرسوم والعمل بها لحماية قطاعات صناعية واعدة.
لكن أية محاججة لمصلحة استخدام أدوات السياسة التجارية وخصوصاً الرسوم الجمركية، يجب أن تنطلق من تعريف بريتون لماهية الحمائية الجديدة المطلوبة. إنها حمائية تنأى عن تلك التي اعتمدت خلال حقبة «استبدال الواردات». وهي تتوخى توفير الحماية للمؤسسات الصناعية التي تطور فعاليتها الإنتاجية من أجل إنتاج «السلع التجهيزية» أو الآلات.

(2) الإجراءات المطلوبة في ميدان سياسة التمويل

تحيل متطلبات «التصنيع المتأخر» لجهة سياسة التمويل المطلوبة كل الكلام المتداول منذ أكثر من 30 سنة عن دور «الأسواق المالية» مجرّد هراء. لم تعوّل الدول التنموية الآسيوية التي نجحت في إخراج بلدانها من التخلّف على الأسواق المالية، بل اعتمدت على المؤسسات المصرفية المحلية التي وفّرت للمنشآت الصناعية تمويلاً طويل الأجل بأسعار فائدة مخفّضة. أقامت جهازاً مركزياً هو «المصرف الوطني للتنمية» لرسم سياسة التمويل وتوجيه المصارف العاملة في عملها. اختصرت أليس أمسدن دور الدولة في ميدان التمويل للتنمية بمفهوم «تأميم مخاطر الاستثمار» (risk socialization). أي يتحمّل المجتمع بكامله عبر الدولة مخاطر الاستثمار التي يواجهها الصناعيون. تعرّضت البلدان النامية خلال الحقبة النيو-ليبرالية لضغوط شديدة من أجل تحرير أسعار الفائدة التي تعتمدها وخصخصة القطاع المصرفي المحلّي. وأهدرت وقتاً طويلاً وثميناً في اللحاق بوهم إنشاء أسواق مالية تموّل بها التنمية.
يقتضي تمويل التنمية بوصفها تصنيعاً متأخّراً» أن يصار لإنشاء «مصارف وطنية للتنمية» تحدد الأهداف لجهة التمويل والقطاعات التي ينبغي أن تستفيد منه، وللإشراف على كيفية استخدام المؤسسات الصناعية المستفيدة من قروض التنمية من الموارد الموضوعة بتصرفها.

(3) الإجراءات المطلوبة في ميدان السياسة التكنولوجية

اختصر شانغ وشيما ماهية السياسة التكنولوجية التي ينبغي أن تعتمدها الدولة لتحقيق «التصنيع المتأخّر» بفكرة أو مفهوم «خلق الريوع» (شانغ وشيما، 2001: 21). المقصود بالريوع، المداخيل الإضافية التي توفّرها الدولة للصناعيين من خلال تطبيق إجراءات حمائية يستفيدون منها، أو بإعطائهم أوضاعاً احتكارية أو شبه-احتكارية في قطاعاتهم. ينجم عن الإجراءات المطبّقة في الحالتين، ارتفاع للأسعار تستفيد منه المؤسسات المعنية. تموّل هذه الاخيرة بواسطة «ريوع المنتجين» هذه عملية البحث العلمي لديها الذي يتخذ شكل «تمرّن وتجريب على الأرض» لتطوير صيغ جديدة لسلع متداولة، يمكن الذهاب بها إلى الأسواق الدولية، ولمنح البلد المعني قاعدة تكنولوجية محلية مستقلة.
(4)
الإجراءات المطلوبة في ميدان الإصلاح المؤسساتي والإداري
أظهر رونالد روبنسون كمؤرّخ كبير للإمبراطورية البريطانية، أن إخضاع بلدان العالم الثالث، إما بشكل غير مباشر (informal rule) بواسطة «الاتفاقيات التجارية غير المتكافئة»، أو بشكل مباشر، بواسطة القوة العسكرية والاحتلال المباشر (formal empire)، لم يكن ممكناً لو لم تجد القوى الأوروبية المستعمِرة توطؤاً معها وفّرته النخب التقليدية في هذه البلدان. استخدم مفهوم «آلية التواطؤ» (collaborative machanism) لعرض كيفية بناء علاقة التبعية بين القوى الاستعمارية الغربية وبين دول ونخب الأطراف (روبنسون، 1972: 117). ينطبق ما سبق قوله على الحقبة النيو-ليبرالية لجهة دور النخب المحلية في تسهيل التحاق بلدانها بـ»النظام الاقتصادي الدولي الليبرالي» (L.I.E.O.). وقد استنتجت أليس أمسدن الباحثة الكبيرة في تجارب التنمية المعاصرة، أن البلدان النامية كانت أفضل حالاً بكثير حين كانت تستوحي تجارب البلدان التي تشبهها (role models)، مما آل إليه وضعها حين أصبحت نظريات السوق (market theories) هي مصدر إلهامها (أمسدن، 2009: 204). توحي هاتان الملاحظتان بأنه ما لم تمتلك النخب المعنيّة بالتنمية وعياً قومياً حاداً، فإنها لن تتمكّن من إنجاز مشروع التنمية بوصفه «تصنيعاً متأخراً».

1. إعادة الاعتبار لدور التخطيط المركزي

أقامت البلدان النامية خلال الخمسينيات والستينيات أجهزة تخطيط بلغت مستوى رفيعاً في البعض منها كالهند. أسهم البنك الدولي خلال حقبته الكينزية في توفير أدبيات للبلدان النامية تعينها في وضع خططتها التنموية، الأشهر بينها كان نموذج شينيري وستروت. حتى لبنان الذي كان لنخبته السياسية والاقتصادية موقف مسبق رافض للتخطيط، كان لديه جهاز تخطيط بلور في مطلع السبعينيات الخطة السداسية (1972-1977) للتنمية، قبل أن ينفرط عقد هؤلاء الخبراء ويذهب كل منهم في سبيله (داغر، 1995). وقد كان أول إجراء اتخذته أول حكومة بعد حرب السنتين (1975-1976) إلغاء وزارة التخطيط المسمّاة وزارة التصميم العام وتصفية موجوداتها.
سوف تشهد حقبة النيو-ليبرالية انهياراً لتجربة التخطيط في عموم البلدان النامية، وخصوصاً تلك التي عرفت تجارب مهمّة في هذا المجال. تحوّلت وزارات التخطيط في بلدان عربية عدّة إلى «هيئات تخطيط وتعاون دولي» يترأسها أشخاص دون رتبة وزير. وهي هيئات تحوّلت كما يوضح اسمها، إلى أجهزة «للشحادة الدولية»، تتولى تلقي المساعدات التي تمنّ بها المؤسسات والدول المانحة والإشراف على توزيعها. ما حصل إذاً، كان ضرباً لتجربة التخطيط وإزالة أي اعتبار عنها.
أجهزة التخطيط التي اعتمدت عليها كوريا الجنوبية وتايوان واليابان، كانت أولاً وأساساً «مجموعات تفكير» وثانياً أجهزة تنفيذية. أما نوع التخطيط الذي كانت تقوم به فهو تأشيري لتحديد الأهداف، على أن يترافق ذلك مع حوافز يصار لتحديدها بهدف دفع المؤسسات الإنتاجية الخاصة للسير في المشروع، ولثنيها عن الخوض في مجالات أخرى. وقد تكوّنت هيئات التخطيط هذه من اقتصاديين ومهندسين تقاسموا مقاعدها مناصفة، وفقاً للوصف الذي قدمه روبرت واد لها (واد، 1990).

2. الإصلاح الإداري المطلوب الإدارة العامة في ظل النيو-ليبرالية

الدولة الراهنة في الغالبية الساحقة من البلدان النامية هي دولة مفرغة من الإمكانات والطاقات بما يجعلها عاجزة عن لعب أي دور تنموي. يقول الباحثون في التنمية إن إفراغ الإدارة العامة من إمكاناتها البشرية تحت شعار «دولة الحد الأدنى» جعل الإدارات المعنيّة بالتفاوض مع مندوبي المؤسسات الدولية، غير قادرة على تأمين مفاوِض أو محاوِر واحد لهؤلاء (داغر، 2013).
تتالت على امتداد الحقبة النيو-ليبرالية برامج البنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى التي هدفت إلى خفض عديد الإدارة العامة وخفض مرتبات العاملين فيها وانتزاع الصلاحيات التي كانت معطاة لها. لم يعد العاملون المتبقّون في الإدارة العامة يحظون بدورات تأهيل وتدريب وتراجع التزام النصوص الوضعية التي تنظم عملهم. لم تعد الإدارات العامة قادرة على الحفاظ على كفايات أو تكوين كفايات في أي ميدان من الميادين. أصبح التوظيف في الإدارة العامة المدخل إلى مستقبل مهني عنوانه الفشل والخيبة. أصبحت الإدارة العامة الميدان الذي تنطبق فيه قاعدة الغبن المولّد للعدوانية (frustration-aggression hypothesis) بأدق صورة. وقد أصبحت الإدارات العامة التي تجاهلت تماماً معايير المحاسبة (accountability) والاستحقاق (merit)، جحيماً للعاملين فيها والمحتاجين إلى خدماتها. هذا هو إصلاح الإدارة العامة أو «ترشيقها» الذي أورثته النيو-ليبرالية للعالم الثالث.

مفهوم الإدارة الفيبرية

حدّد ماكس فيبير مواصفات الإدارة الحديثة التي واكبت نمو الرأسمالية في الغرب وكانت في أساس نجاحاتها. إنها الإدارة التي تخضع في عملها للنصوص الوضعية التي تحدد مهماتها وينطبق عليها وصف الإدارة القانونية والعقلانية (légale et rationnelle). وهي مثلت تقدماً وقطيعة مع الإدارة البتريمونيالية (patrimoniale) التي كانت ملحقة بصاحب المُلك ومعنية بتنفيذ إرادته. حدّد فيبير شروط قيام هذا النوع من الإدارة الحديثة بنقطتين: أن يصار لتنسيب أفرادها على قاعدة الاستحقاق، وأن يوفّر للعاملين فيها شروط البقاء في عملهم طيلة عمرهم المهني، وأن يكونوا قادرين على الترقّي في عملهم. هذه الشروط هي التي تتيح للإدارة العامة أن تلعب دوراً حاسماً في تحقيق النمو الاقتصادي. توفر المباريات الوطنية التي تجريها البلدان الغربية شروط تنسيب إدارة حكومية مبنية على قاعدة الاستحقاق. العنصر الثاني المهم في عمل الإدارة الفيبرية هو استقلاليتها وعدم خضوعها في عملها لتأثير جماعات الضغط والقوى الاجتماعية المختلفة.
وفّرت تجربة الدولة التنموية الآسيوية نموذجاً ليس فقط لإدارة فيبرية، بل عكست وجود «فيبرية معزّزة» (reinforced weberianism) كما يقول إيفانز (إيفانز، 1992: 163؛ إيفانز وروش، 1999). قصد بالفيبرية المعزّزة التشدّد في اعتماد مبدأ الاستحقاق لتنسيب العاملين في الإدارة العامة، وخضوعها لضغط من خارجها بهدف زيادة فعاليتها. تولى ذلك حزب الكيومنتانغ في تايوان والجيش في كوريا الجنوبية.
وفرت المقاربة الآسيوية لكيفية تنسيب العاملين في الإدارة العامة شروط استقلالية هذه الأخيرة. قارن إيفانز بين الإدارة الحكومية الآسيوية التي يتم تنسيب أفرادها بواسطة المباريات الوطنية، والإدارة الحكومية في بلدان أميركا اللاتينية التي يتم تنسيب أفرادها بالتعيين (appointive bureaucracy). في الحالة الأخيرة، يتغيّر العاملون في المراتب العليا للإدارة مع كلّ انتخابات رئاسية كما في البرازيل. ويعمد المتنطّحون لملء هذه المواقع إلى تسويق أنفسهم بشتى الوسائل لدى القوى النافذة (شنايدر، 1999). عزى إيفانز نجاح التجربة الآسيوية في التنمية إلى استقلالية الإدارة العامة، وفشل التنمية النسبي في أميركا اللاتينية إلى خضوعها لنفوذ السياسيين وعدم استقلاليتها.
لكن لا بد في تعريف استقلالية الإدارة الحكومية الآسيوية من القول إنها «استقلالية منغرسة» (embedded autonomy)، بمعنى أن الإدارة لا تعمل في «برج عاجي»، وإنما من خلال أشكال وآليات من التواصل مع المنتجين في القطاع الخاص، بما يتيح لها إيصال توجيهاتها لهم والوقوف على مشاكلهم وآرائهم. هذه الإدارة المبنية على قاعدة الإستحقاق والمستقلة والمنغرسة في النسيج الاجتماعي، هي أساس نجاح التجربة الآسيوية في التنمية.

طبيعة الإصلاح المطلوب

لا يرتبط «التطهير الإداري» دائماً بمشروع تفعيل للإدارة العامة ووضعها في خدمة المشروع التنموي. في لبنان أكثر من تجربة تطهير إداري كان مردودها سلبياً على الإدارة والتنمية. التطهير الإداري الذي حقّقه الرئيس شارل حلو عام 1965 كانت نتيجته تخويف الموظفين الكبار ودفعهم للارتماء في أحضان الزعماء لحماية أنفسهم. ما لم يقترن التطهير بإعادة صوغ مهمات الإدارة بما يوفر لها صلاحيات تدخلية في ميدن التنمية على شاكلة ما حصل في آسيا، يكون لزوم ما لا يلزم.

(5) نموذج تطبيقي لكيفية إطلاق مشروع «تصنيع متأخّر»

رأت أليس أمسدن أن تجربة تايلاندا في تحقيق «التصنيع المتأخّر» قابلة للتعميم (أمسدن، 2000). أنشأت الدولة عام 1968 «مكتب الاستثمار» الذي تولى توفير «امتيازات» أو حوافز للمؤسسات التي رأى أنها قادرة على بلوغ التنافسية والتصدير إلى الأسواق الدولية. طبّق هذا المكتب القاعدة التي عملت وفقاً لها كل الدول التنموية الآسيوية، والتي اختصرتها أمسدن بمفهوم «آلية الضبط المتبادل» (reciprocal control mechanism). أي توفّر الدولة دعماً وحماية للمؤسسات الصناعية مقابل التزام هذه الأخيرة تحقيق نتائج يمكن قياسها، وأولها تزايد حجم صادراتها. تشتمل الامتيازات الممنوحة للمؤسسات المعنية على تخفيضات أو إعفاءات ضريبية، والاستفادة من الحماية الجمركية لسوقها المحلية، والقروض الطويلة الأجل بفوائد مخفّضة، وإصدار تشريعات تحمي القطاع المعني من دخول منافسين جدد، إلخ. (أمسدن، 2000: 9).
ركّزت تايوان في المقابل على جعل المؤسسات تتنافس للحصول على امتياز استقبالها في «المحميات الصناعية والعلمية» التي أقامتها الدولة. وهو ما كان من شأنه خفض كلفة الاستثمار الأولي لديها بنسبة النصف على الأقل، وتتنافس للإفادة من الاختراعات والابتكارات التي تحققها مراكز الأبحاث التابعة للدولة. اعتمدت الصين نظاماً للحوافز يجمع بين حوافز تايلاندا وحوافز تايوان (المصدر نفسه: 13). أما القاسم المشترك بين كل هذه الدول، فهو تطبيق مفهوم «آلية الضبط المتبادل»، أو الدعم المشروط من قبل الدولة للمؤسسات الصناعية.

خلاصة

عرض الجزء الأول من النص سلسلة طويلة من الإجراءات الحكومية التي اعتبرتها المقاربة النيو-ليبرالية للتنمية مسيئة للنمو الاقتصادي، ودعت إلى التخلي عنها. وهو ما حصل بالفعل. أظهر الجزء الثاني من النص، أن إحياء دور الدولة لكي تقود عملية التنمية و»التصنيع المتأخّر» يقتضي إعادة الاعتبار لهذه الإجراءات المنتقدة بالذات. في المقاربة النيو-ليبرلية أن على الدولة أن تتخلى عن الترسانة الحمائية الموجودة، في حين يقتضي البديل التنموي أن تعيد الدولة الاعتبار للرسوم الجمركية وترفع مستواياتها لحماية جهود المؤسسات الإنتاجية المنخرطة في عملية اكتساب الفعالية وإنتاج الآلات. يقتضي البديل التنموي أيضاً أن تتخلى الدولة عن تطوير الأسواق المالية وتعيد الاعتبار للمصارف الوطنية كمصدر للتمويل الطويل الأجل للمؤسسات الناشئة وتعهد بالإشراف على عملية التنمية إلى جهاز جديد هو «المصرف الوطني للتنمية». ويتطلّب البديل التنموي أن تتخذ الدولة في ميدان السياسة التكنولوجية، إجراءات توفّر للمنتجين المنخرطين في عملية اكتساب الفعالية «ريوعاً لتمويل التمرّن والتجريب» (learning rents)، ولو اقتضى ذلك إقامة أسواق احتكارية بصورة متعمّدة. ويتطلب البديل التنموي أن تعيد الدولة الاعتبار للتخطيط وتنشئ أجهزة لهذه الغاية تكون لها اليد الطولى في بلورة الأفكار وفي التنفيذ. ويتطلّب هذا البديل أخيراً أن تقيم الدولة إدارة حكومية بصلاحيات تدخلية واسعة.
وإذا كانت السياسات النيو-ليبرالية قد طالبت بـ»دولة الحد الأدنى» وعملت على فرضها في عموم العالم الثالث، فإن الإصلاح الفعلي المطلوب هو توفير الشروط التي تجعل «الدولة قادرة على التعلّم والتمرين» (government learning) لقيادة عملية التنمية و»التصنيع المتأخر». هذا ما سوف يجعل الإدارة العامة مجدداً مكاناً لتكوين وتطوير الكفايات، ويجعلها قادرة على تأمين مستقبل مهني للعاملين فيها، مُجزٍ لهم وللجماعة.
(
مداخلة قدمت في الملتقى الدولي حول «إحياء دور الدولة بالبلدان العربية المتوسطية في المراحل الانتقالية» – «جمعية البحوث للتنمية الاقتصادية والاجتماعية» مع «منظمة فريدريش إيبرت» - تونس – صفاقس – 25 و26 شباط، 2015)

 

المصدر: الأخبار