ماركس ضد سبنسر من فيرغسون الى سانتا كروز
«الرأسمالية تخلق وتعلم وتدعم مصالح راسخة في الاضطرابات الاجتماعية»
جوزف شومبيتير
شهدت الولايات المتحدة الاميركية، في الاسبوع الماضي، تظاهرة احتجاجية اخرى ضد قتل احد المواطنين السود على يد الشرطة المحلية في ماديسون في ولاية ويسكونسكن. ويأتي هذا الاحتجاج في سياق الرفض المتزايد لقطاعات واسعة من الشعب الاميركي لموجة القتل المستمرة هذه، والتي تزايدت منذ حادثة مقتل الشاب مايكل براون في فيرغسون في ميسوري.
في حادثة فيرغسون، لم يصمت الاهالي في تلك الاحياء الفقيرة والمهمشة، بل اطلقوا اكثر من ثلاثة اسابيع من التظاهرات في آب وكانون الاول من عام 2014. الاسبوع الماضي ايضاً اغلق طلاب جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز جامعتهم احتجاجاً على قرار رفع الاقساط 25% في السنوات الخمس المقبلة، ودعوا طلاب اميركا الى «الدفاع عن التعليم العام المجاني»، واسقاط ما اسموه «السلطة العنصرية والطبقية للدولة البوليسية»، داعين ايضاً الى انهاء عنف الشرطة الاميركية ضد السود والاقليات.
ماذا يحدث في اميركا؟ اميركا لديها تاريخ طويل من العنف العنصري، كذلك لديها تاريخ من النشاط الطلابي المعادي للسلطة. لكن التظاهرات تأتي الآن في خضم تزايد الفوارق الاجتماعية، فالطبقة الوسطى، التي تعتبر اساس المجتمع الاميركي اقتصادياً وحضارياً، تخسر بشكل مستمر افرادها، لا صعوداً كما كان يحصل خلال الفترة الذهبية للرأسمالية، بل هبوطاً نحو الطبقات الادنى، وتزايدت هذه الخسارة بعد ازمة 2008 حيث استُبدل الكثير من الوظائف التي تخوّل اصحابها الانتماء الى هذه الطبقة بوظائف أقل أجراً. وتزايد أيضاً عدم المساواة في الدخل وللثروة، اذ يستحوذ 1% من الاميركيين على 20% من الدخل الآن، بينما كانوا يستحوذون على 15% في السبعينيات. كما ازداد استحواذ 0.1% من الاميركيين من 7% من الثروة في السبعينيات الى 22% الآن، وتملك 160 الف عائلة ثروة تعادل ثروة 145 مليون عائلة. وتزداد هذه الفوارق الاقتصادية عندما تحتسب من منظور إثني، حيث يعاني السود والاقليات أكثر من غيرهم، اضافة الى تهميشهم الثقافي والاجتماعي. كل هذا يؤدي الى الاحساس بفقدان العدالة الاجتماعية. ففي ظل نظام اقتصادي لا ينمو بشكل مضطرد ليضمن سكوت الاكثرية على عدم المساواة هذه، وفي ظل نظام سياسي ثنائي لا يسمح بالتغيير، يتحول هذا الشعور الى تزايد في العنف الاجتماعي، وتتحول أحداث كانت تعتبر في الماضي محض قضائية الى قضايا اجتماعية تعكس الاحساس المتزايد بالظلم في مجتمع يتناقض فيه بريق الرأسمالية الاستهلاكية مع سواد تجلياتها في المدن والاحياء الاميركية وفي التراتب الطبقي المتزايد.
ان الطلاب والشباب الاميركيين، الذين كانوا يأملون بتحقيق الحلم الاميركي، بدأوا يرون أنهم ولدوا في الحقبة الخاطئة، فالطبقة الوسطى تزداد عجزاً من الناحية العمرية، كما ان حمل شهادة جامعية اصبح اكثر اهمية من ذي قبل كشرط لدخول نادي هذه الطبقة. في هذا الاطار يزداد الضغط الاقتصادي عليهم من خلال زيادة اقساط الجامعات الاميركية بشكل مضطرد، اذ زادت بأكثر من 500% منذ عام 1985، كما انخفض معدل دعم الولايات بالقيم الحقيقية من 8.500 دولار الى 5.900 دولار لكل طالب جامعي. أدى كل هذا الى زيادة كبيرة في حصة إنفاق الأسر المتوسطة على تعليم أبنائها، كما اضطر الكثير من الطلاب الاميركيين للاستدانة من اجل التعلم، فقد بلغت هذه الاستدانة اليوم اكثر من 1 تريليون دولار يرزح تحت ثقلها الطلاب والخريجون الشباب.
لم تأت هذه الزيادات في كلفة التعليم نتيجة لتحسن نوعية التعليم مقاسة (مثلاً) بعدد الاساتذة الى الطلاب، بل اتت نتيجة تحول الجامعات الاميركية أكثر فأكثر نحو «مؤسسات رأسمالية» تتنافس في ما بينها، فزادت النفقات الترسملية على المباني وسكن الطلبة والمنشآت الرياضية وغيرها من المشاريع غير المرتبطة بشكل مباشر بالتعليم، وزاد بشكل كبير أيضاً الإنفاق على الادارة، اذ تضخم عدد الاداريين نسبةً الى الاساتذة. فبينما كان الاداريون يشكلون حوالى 50% من عدد الاساتذة قبل اربعين عاماً اصبح عددهم الآن أكبر. ففي مجتمع ثمانينيات القرن الماضي، اصبح أكثر فأكثر يُقدس رجال الاعمال والاثرياء والقطاع الخاص والمشاهير والدعاية والامتيازات الطبقية، وانتقلت هذه العدوى الى آخر معاقل المجتمع الذي كان عصياً على الحسابات الرأسمالية وقوى السوق. لكن المفارقة أن هذا لم يؤدِّ الى زيادة الكفاءة والنوعية وتوسّع ودمقرطة التعليم العالي، بل ادى الى زيادة اسعار التعليم بوتيرة اسرع بكثير من التضخم وزيادة الاجور، ما أدى الى الاقصاء الطبقي الذي يغلّف حتى الآن بزيادة الدين، متماهية بذلك مع السياق العام لتطور الرأسمالية الاميركية منذ بداية عهد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي.
في عام 1987، قال آلان بلوم، في كتابه «إغلاق العقل الاميركي»، إنه في عام 1965 «كان الطلاب الاميركيون نسخة ديمقراطية عن الارستقراطية. فالوفرة في العشرين سنة الماضية اعطتهم الثقة بانهم يستطيعون دائماً ان ينجحوا في ايجاد سبل العيش... فالقيود العائلية والمالية والتقليدية ضعيفة». ثم يقول ان طلاب الثمانينيات من دون وعي يلعبون «ادوار المحامين والاطباء ورجال الاعمال والشخصيات التلفزيونية... في اميركا ليس لدينا إلا البورجوازية... وحب البطولة هو أحد الامور القليلة المتاحة لمواجهة ذلك». اليوم يقف طلاب جامعة كاليفورنيا ضد هذا الامتثال المفروض عليهم، ليس لانهم يريدون ان يكونوا ابطالاً، بل لأنهم يرون انهم وكل طلاب اميركا وعمالها واقلياتها يخسرون مثالية «الحلم الاميركي»، وفي ظروفهم المادية هذه يتطلعون الى مجتمع آخر يكون فيه «التطور الحر لكل فرد هو شرط التطور الحر للجميع».
المصدر: الأخبار