غياب مشروع محاربة الفساد يجعل الحكومة التونسية عاجزة
توفيق المديني توفيق المديني

غياب مشروع محاربة الفساد يجعل الحكومة التونسية عاجزة

حين كان «حزب نداء تونس في المعارضة لم يطرح على نفسه إنجاز ثورة سياسية، و لم يكن هذا وارداً لديه، لأنه بالأساس لم يكن يمتلك مشروعاً حقيقياً للتغيير في تونس.و بما أنه حزب ليبرالي ، لم يكن أيضاً معنياً بإيجاد منوال جديد للتنمية يكون نقيضاً للنموذج الاقتصادي التونسي الذي وصل إلى مأزقه المحتوم، الأمر الذي أسهم في تفاقم  المشاكلالاقتصادية والاجتماعية،وارتفاع معدلاتالبطالة٬والتفاوتالصارخبينمختلفمناطقالبلاد٬وتفشي الفساد المؤسساتي.

وحين تشكلت الحكومة الجديدة ما بعد الانتخابات التشريعية و الرئاسية بزعامة السيد الحبيب الصيد لم يكن لديها برنامج حقيقي لمحاربة الفساد ، و بالتالي لبلورة نموذج جديد للتنمية ، قادرأن ينقذ تونس من أزمتها البنيوية العميقة.ومن الواضح أن الحكومة الجديدة المتشكلة من أحزاب ليبرالية ، والبعض منها يدافع عن الليبرالية المتوحشة كما هو الحل لحزب «آفاق تونس»،لديها نفس البرامج و التصورات فيما يتعلق بالاقتصاد، أسقطت من برنامجها مسألة مقاومة الفساد كبند من بنود خارطة الطريق للمرحلة المقبلة ، لا سيما أن رئيس الحكومة السيد الحبيب الصيدتجنب الإشارة من قريب أو من بعيد لمقاومة الفساد في تركيبته الحكومية عندما لم يخصص هيكلا لا في شكل وزارة ولا كتابة دولة ولا حتى مستشارا للاهتمام بملف الفساد.

            ويعتبر ملف محاربة الفساد ملفاًمفصلياً في نجاح أي حكومة ما بعد الثورة. فالمراقب للوضع  السياسي التونسي يلمس بوضوح أن الحكومات المتعاقبة سواء في عهد الترويكا السابقة بقيادة حركة النهضة ، أم في عهد رئيس الحكومة المتخلى مهدي جمعة ، لم تبلورخطة حقيقية لمقاومة الفساد، و إقرار الحوكمة الرشيدة ، بل إن جميعها همشت ملف الفساد.

وحسب تقييم منظمات المجتمع المدني المعنية بمحاربة الفساد، فإن حكومة السيد مهدي جمعة كانت الحكومة الأضعف، وأكثر حكومات ما بعد الثورة فشلاً في مكافحة الفساد لا سيما وأن تونس سجلت في عهد جمعة تراجعا في المؤشر العالمي لمدركات الفساد من المرتبة 75 إلى المرتبة 79 عالميا.الخوف ربما، أو تفادي الإحراج من كل ما له صلة بالفساد تكرر على ما يبدو مع حكومة الصيد حيث تراجع هذا الأخير خطوة أخرى إلى الوراء وحذف كتابة الدولة وكل ما يشير إلى نوايا مكافحة الفساد. فقد تدحرجت تونس في مؤشر الفساد في 2014 لتحتل المترتبة 79 من مجموع 175 دولة في مؤشرات مدركات الفساد بتراجع نقتطتين عن ترتيب 2013 وبعشرين نقطة كاملة عن ترتيب 2010 حيث كانت تونس تحتل المرتبة 59 حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية.

وتؤكد التقارير التي ترفعها بعض منظمات المجتمع المدني المعنية بمحاربة الفساد، أن آفة الفساد اليوم، استفحلت هذه الآفة و«تغولت» وضربت كل القطاعات عموديا وأفقيا، ولم يعد للفساد عنوان واحد بل تعددت عناوينه واختلفت مسمياته ولكن النتيجة واحدة نخر الاقتصاد وخلخلة أسس الدولة.وفضلاً عن ذلك، فالفساد اليوم لا يقتصر على من يملك النفوذ السياسي أو الجاه او السلطة في صنع القرار ووظائف الدولة العليا، بل إن صغار الفاسدين والمرتشين هم أبرز روافد منظومة الفساد، خاصة ذاك الفساد «الصغير»الذي نستهين بتأثيراته وانعكاساته السلبية ومن تجلياته الرشوة، المحسوبية، العمولات والولاءات..

وفي هذا الاطار ذكر معز الجودي رئيس الجمعية التونسية للحكومة لـصحيفة «الصباح»بتاريخ 3مارس 2015:إن «الفساد آفة من الآفات التي تنخر المنظومة العدلية والقانونية والتجارية والمالية وتنهك الاقتصاد الوطني» .ويقول الجودي عن الفساد، «قبل الثورة كان هناك فساد تكاد تحتكره مجموعة معينة ومعلومة من الجميع وكنا نتوقع انه بسقوط النظام الفاسد وتوابعه وحاشيته أن يتم تدارك الاخلالات وتطويق الظاهرة ولكن ما راعنا ان هذه الظاهرة نمت واستفحلت بشكل لافت، واتخذت عدة عناوين كالاقتصاد الموازي وتهريب السلع والتحيل.. عناوين استفادت من مناخ الحريات والديمقراطية في غياب سلطة الدولة الرقابية واجراءات الردع والتصدي .. لنقف جراء ذلك على ارقام مفزعة وصادمة حيث ان آفة الفساد ووفق تقارير ذات مصداقية تحتكر %2 من الناتج المحلي الخام اي ما يعادل 2.7 مليار دينار او 2700 مليون دينار».

و يضيف معز الجودي قائلاً: «هناك مسؤولون وشخصيات فاعلة في وزارة التجارة يقومون بحماية الاقتصاد الموازي وحماية «باروناته» في اطار شبكة علاقات مشبوهة تكونت واتخذت اشكالا مختلفة خاصة وان %53 من الناتج المحلي الخام متأت من الاقتصاد الموازي بالاضافة الى وجود عمليات مكشوفة لتبييض الاموال وتجارة العملة الصعبة..».فقد أصبح الاقتصاد الموازي الذي يتغذى بالتهريب والتجارة الموازية التي تمثل %32 من رقم المعاملات ملفاًيهدد كيان الدولة. وحسب تقرير البنك الدولي لسنة 2014 احتلت تونس المرتبة الاولى عالميا في استفحال الفساد.واذا كانت ميزانية الدولة ترزح تحت عجز بلغ ارقاما قياسية قدرت بـ4850 مليارا سنة 2014،إفإن تحجيم آفة الفساد وقطع الطريق عن الفاسدين سيسهم في انتعاش الميزانية وفي النهوض بالاقتصاد المنهك وفي تحقيق السلم الاجتماعية دون اللجوء الى التداين الخارجي الذي سيرهن البلاد والاجيال لعقود قادمة.

أما حكومة السيد الحبيب الصيد المتشكلة من الحزبين الكبيرين : «النداء»و«النهضة»، ومن حزبين آخرين صغيرين:«الاتحاد الوطني الحر» و«آفاق تونس»، هذه الأحزاب جميعها لم تطرح في برامجها السياسية  مسألة محاربة الفساد كمسألة محورية ، و إن كانت أدرجت  ملف الفساد ضمن شعاراتها الانتخابية.و الحال هذه أصبحت هذه الحكومة الجديدة منذ تشكلها فاقدة لكل إرادة سياسية لمحاربة الفساد ، لأن الأحزاب الموجودة في صلبها تتجنب الإحراج في طرح ملف محاربة الفساد، نظرا لعلاقة هذه الأحزاب السياسية الحاكمة بالمال السياسي وأيضا في علاقة هذه الأحزاب برجال الأعمال لا سيما المتورطين منهم في قضايا فساد.وكان ملف رجال الأعمال المتورطين في قضايا الفساد النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة ، وهاهي حكومة السيد الحبيب الصيد تلغي تماماً من قاموسها السياسي مسألة محاربة الفساد، الأمر الذي يقودنا إلى أن تونس عادت إلى المربع الأول ، لجهة اعتبار  موضوع محاربة الفساد من المواضيع المحرمة.

وكان الفساد استشرى في عهد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وبطانته التي استطاعت ان تحتكر لنفسهامع نهاية 2010 ما نسبته 21 بالمائة من أرباح القطاع الخاص في البلاد. و سمح نظام بن علي خلال فترة حكمه التي استمرت 23 عاما ، لعدد من أفراد عائلته وعائلة زوجته وعدد من أصهاره بالتحكم في مفاصل الاقتصاد التونسي  ليمكنهم من مراكمة ثروات مشبوهة، تقدر ما بين 5إلى 10مليار دولار, قسم منها مستثمر في الداخل, وقسم آخر في الخارج ، لاسيما في أوروبا التي باشرت بعض دولها تجميد أرصدة وحسابات تابعة لبن علي و زوجته ومقربين منه.

وكثيراً ما ينطوي  الفساد في تونس على تحويل أو تحريف وجهة الموارد المالية أو الخدمية من الاستفادة العامة إلى العائلات الخاصة النهابة، إذ غالباً ما يتطلب هذا التحريف تحويلاً للأموال إلى مصارف وبنوك أجنبية، ما سبب حدوث تسريبات ضارة بالإقتصاد الوطني تعمل على زيادة عرقلة التنمية الإقتصادية.

والفساد في تونس له علاقة بالمتغيرات الاقتصادية  و الاجتماعية الناجمة عن سياسة الخصخصة، التي بدأ النظام  السابق يطبقها منذ مجيء الرئيس بن علي إلى السلطة.  وفي ظل غياب قوانين صارمة ضد الاحتكار تعني الخصخصة استبدال احتكار القطاع العام باحتكار القطاع الخاص، وهذا يؤدي إلى استشراء الفساد بكلفة اقتصادية واجتماعية كبيرة.هناك حاجة إلى موازاة التخصيص مع وجود قوانين ضد الاحتكار لدرء الفساد، وهذه القوانين كانت علامات أساسية في التطور الإقتصادي في الدول الرأسمالية المتقدمة.

كما أن ممارسات الفساد في تونس ليست مجرد ممارسات فردية خاصة لهذه العائلة أو تلك من العائلات النهابة، كما جاء في حيثيات قضايا الفساد الكبرى ، وإنما هي تتحرك من خلال » أطر شبكية « و » مافيات « منظمة، وهكذا تكتسب ممارسات الفساد طابعاً مؤسساتياً في إطار تلك » المنظومات الشبكية «.

إن للفساد آثاراً سلبية ومدمرة على الاستثمار الأجنبي والمساعدات الأجنبية، والتنمية الاقتصادية، حيث أن الفساد يعوق التنمية السياسية ويقوض الفعالية والكفاءة الإدارية، وشرعية القادة السياسيين والمؤسسات السياسية. غير أن الفساد ما كان له أن ينتشر في تونس، وينمو ويزدهر، لولا أنه لم يجد » بيئة حاضنة للفساد «. هذه البيئة الحاضنة للفساد، هي بقاء مؤسسات و شبكات النظام السابق الفاسدة من دون عملية تطهير، الأمر الذي ترك العنان للفساد يستشري في تونس،ولم يمارس أي دور في كبح جماحه.  بل إن الحكومة الحالية لجأت إلى تأسيس علاقات وروابط مع رجال  «البزنس « الذين ينتمون إلى حزب بن علي المنحل، لا سيما أن «حزب النداء» لديه 50 نائباً كانوا في السابق «تجمعيين» .

إن السؤال المطروح تونسياً ن كيف يمكن لحكومة السيد الحبيب الصيد التي تفتقد للبرنامج الحقيقي لمحاربة الفساد،و العاجزة عن إحداث  خلايا للحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد صلب المؤسسات العمومية وإدراج مكافحة الفساد في الهياكل التنظيمية للإدارات وكل مرافق الدولة ،أن تقوم بالإصلاحات الكبيرة  ذات الطابع الاستراتيجي لبناء اقتصاد وطني منتج قادر أن يحقق نموا حقيقيا، وأن يقضي على جيوب الفقر في المحافظات المحرومة و المهمشة والفقيرة داخل تونس العميقة؟و كيف يمكن لحكومة السيد الحبيب الصيد أن تنجز هذه الإصلاحات الكبرى المطلوبة في جل القطاعات والمجالات على غرار  الديوانة ( الجمارق)، والصحة، و الطاقة، و المناجم، وجزء كبير من العلات والإخلالات المطروحة تعود أسبابها إلى تفشي الفساد وتغلغله في صلب الهياكل وفي الممارسات، وفي ظل الحصانة الكاملة من معاقبة الفاسدين ، و بالتالي في ظل انعدام استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد؟

إن مكافحة الفساد، تتطلب توافر الإرادة السياسية، ومشاركة المجتمع المدني، وتقوية المؤسسات، فضلاً عن دور التعاون الدولي. ثم أن القضاء على التداعيات السلبية للفساد على عملية التنمية ومسيرة التقدم في تونس ، يتطلب التحرك على المحاور الرئيسية التالية:

1-محور توسيع رقعة الديمقراطية والمساءلة:ويقتضي ذلك توسيع دائرة الرقابة والمساءلة من جانب المجالس التشريعية والنيابية، والأجهزة الرقابية، ومنظمات المجتمع المدني لتحقيق درجة أكبر من » الشفافية « في العقود الدولية والعطاءات وإتفاقيات المعونة، للقضاء على ما يسمى بـ » الفساد الكبير «. وليس هناك من شك في أن الضمان الحقيقي لحل » مشكلة الفساد « حلاً جذرياً يكمن في تداولية السلطة، حتى لا يعشش الفساد طويلاً ويتم توارثه والتستر عليه.  وهنا يبرز دور هام منوط بالإعلام والصحافة في تسليط الضوء على » الفساد الكبير « في أعلى المواقع، مع توافر الضمانات القضائية اللازمة لحصانة الصحفي ورجل الإعلام.

2-محور الإصلاح الإداري والمالي:لا بد من وضع القواعد والضوابط اللازمة لمنع »التداخل « بين الوظيفة العامة وممارسة النشاط التجاري والمالي  (بالأصالة أو بالوكالة ) لمنع اختلاط المال العام والمال الخاص.  وهذا يقتضي بدوره إعادة النظر في اللوائح المالية والإدارية، وتشديد القيود والضوابط والقضاء التدريجي على مفهوم » الدولة - المزرعة «.

   3-محور إصلاح هيكل الأجور والرواتب :ولكي يمكن محاصرة الفساد عند أدنى المستويات، لابد من تحسين أوضاع صغار الموظفين وكبارهم في الخدمة المدنية، من حيث مستوى الأجور والمرتبات وبما يتمتعون به من مزايا، حتى تصبح تلك الأجور والمرتبات أداة لـ » العيش الكريم « (Living wages)، مما يساعد على زيادة درجة حصانة » صغار الموظفين « و » كبارهم « إزاء الفساد والمفسدين، وبما يساعد على القضاء على  » الفساد الصغير « بأشكاله المختلفة.

وغني عن القول أن محاصرة الفساد وتقليص مساحته، يقتضيان التحرك على » المحاور الثلاثة « في وقت واحد.. إذ إن إصلاح هيكل الرواتب والأجور وتحصين »الموظف العام « لا يكفيان وحدهما للقضاء على الفساد في القاعدة فقط، بينما يحتاج القضاء على » الفساد الكبير « في القمة إلى توسيع نطاق الممارسة الديمقراطية والمحاسبة والإصلاح الإداري الشامل.

إن اختراق مؤسسة الفساد في تونس بحاجة إلى جيل تونسي كامل يعتمد عليه، والى أطر من المثقفين والخبراء والمستشارين والمساعدين الذين يمتلكون قدراً عالياً من الاستقامة، والى صحافة جديدة وغير رسمية تمتلك الجرأة على القول، وعلى الاختلاف، وعلى تحمل المسؤولية في ممارسة النقد، ومتابعة التخطيط والتنفيذ، والى سلطة قضائية نزيهة ومستقلة، وإلى إعادة الحياة في أجهزة المراقبة والمحاسبة في الدولة.

إن حكومة  السيد الحبيب الصيد مطالبة بوضع قائمة للمسؤولين الفاسدين في دوائر أجهزة الدولة، وفي مؤسسة القضاء، كذلك الأشخاص الذين انتهكوا  حقوق الإنسان ، و انتهاج استراتيجية واضحة تعتمد الشفافية لجهة مطاردة الفاسدين وإنزال العقوبة بهم.

إن مكافحة الفساد في تونس، مسؤولية كل المواطنين وأحزاب وقوى المجتمع المدني الحديث، وهي تتطلب ثورة اجتماعية شاملة معطوفة على تأسيس قيم وممارسة الديمقراطية والحفاظ عليها في المجتمع، وآليات واضحة لتأصيل الشفافية والمراقبة الفعالة.  إلا أن هذا الإصلاح لا يبدو سهلاً نتيجة انعدام المشروع الإصلاحي الجذري لدى الحكومة الجديدة ، ونتيجة ضعف أو إنعدام الضوابط وإجراءات الرقابة التي يمارسها المجتمع عن طريق مختلف مؤسساته، وبسبب الروابط والعلاقات الشخصية داخل عوالم المال والسياسة، والتي تعود جذورها إلى قرون من الممارسات الاستبدادية والتقاليد الاقطاعية.

 

المصدر: صحيفة الشرق