العراق: الأمير الأميركي وقتل المجتمع
في المواجهة الأولى بعد استقرار الاحتلال النسبي عسكريا، وقبل ظهور المقاومة المسلحة ضده ميدانيا، برزت في الإعلام العالمي صورة لبغداد والمنطقة التي يحكمها الاحتلال ومن تعاون معه سياسيا تحت مسمى «المنطقة الخضراء». وحين تلاحقت المتغيرات وارتفع منسوب المجابهة العسكرية بين الاحتلال والقوى التي تقاتله، أطلق الإعلام ذاته ومن خلال دراسات سريعة للمناطق الأخرى الملتهبة، تسمية «المنطقة الحمراء». وقد وضعت هذه التسميات، كما يقول ديريك غريغوري، الحد الفاصل بين حياة الادارة الحاكمة وحياة الناس في جحيم القتل اليومي. بهذا المعنى، فقد بدأ الاحتلال خطواته الأولى في الوحل، لأن «الأمير» الاميركي القادم بلغ مرحلة الشك في احتمالات نجاحه.
لم يدرك الاحتلال قيمة الدروس التاريخية للعراقيين، حول الاختلاف المتجذر في الأذهان بين «البطل الوهمي» و «الطاغية الافتراضي»، على مدى آلاف السنين من حكم المركزية النهرية الجارفة. وهو لم يعرف جيدا كيفية الصعود إلى السلطة السياسية في العراق أو حتى في المحيط العربي والاسلامي. ومن ثم، فإن تَجَاهُل ارتباط الدعوة السياسية بالقوة، كان بطاقة الدخول إلى الاحباط الأول. فالعلاقة بين الجيش والدولة لا يمكن فصمها عمليا في السياقين التاريخي، ضمن نموذجَي الملكية والجمهورية، والجغرافي عبر دراسة العلاقات المادية بين المركز الحاكم والأقاليم المتصلة به. ومن العسير جدا على شعب تعود سياسيا على تصوّر «البطل» بالتناوب مع قتل «الطاغية»، أن تُغسل عقوله عبر نداءات عجفاء أطلقتها سلطات الاحتلال من خلال مثقفين مصابين بفقر الدم المزمن. وإذا كانت الذرائعية الاميركية هي نتاج تجربتها الخاصة في مداركها للصراعات الدينية الأوروبية، فإن أحد منظري الاحتلال، فرنسيس فوكوياما، قد نبه مبكرا إلى أن الاستغراق في هذه الذرائعية من دون لصقها بالموروث العربي ـــ الاسلامي للعراق، قد يوصل الأمور إلى نهايات كارثية. ذلك أن «الأمير» المطلوب، وليس الاميركي العنجهي، لإنقاذ العراق الجديد، غير موجود في الواقع التاريخي. إنه تجريد ذهني خالص، تتعدد صفاته من خلال حكام متعددين من نوري السعيد إلى عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وصدام حسين، ودائما ما كانت حكومة كل من هؤلاء تتنكر بصورة مطلقة للآخرين، وتحارب كل تجربة ممكنة خارج خبرتها الخاصة.
الاحتلال بين النظرية والتطبيق
إذا كان المؤرخ ستيوارت شار، المعادي للامبريالية وحروبها، قد نوه إلى أن كل امبريالية لها أسلوب في الانتشار والهيمنة: البريطانية في «عبء الرجل الأبيض»، والفرنسية في «رسالة المدنية»، والاميركية في «البيان الفوري لتعميم الديموقراطية»، والغاية كانت دائماً بناء الشرعية والاستقرار، وفشلت فيها جميعا، فإن الباحث الاسترالي سيمون تشيسترمان يجزم بأنه «من الممكن الجمع بين الوظائف الامبريالية والتصرفات غير الاستعمارية اليومية». حتى هذه النافذة المجانية أغلقتها عقول البنتاغون الصماء. لكن الجواب الحاسم في النقاش حول الدور المعطوب للامبريالية في إعادة بناء الأمة ـــ الدولة، جاء من الراحل الكبير جيوفاني اريغي: «إن الكينزية العسكرية التي مارستها الولايات المتحدة في حرب العراق 1991، قد دعمت البرنامج العالمي لبناء قوات عسكرية غير نظامية، من شركات أمنية خاصة إلى جيوش مرتزقة وميليشيات عرقية ودينية، وهذا البرنامج بدوره سيكون القاعدة الاسمنتية لعرقلة بناء الشرعية والأمن». وكان متاحا في العراق أن تكون الخبرة كافية لاقامة معادلة تفيد من المساحة المحدودة للبلاد وضخامة ثروته الطبيعية وعدد سكانه الوسطي، الذي يتكبد مصاريف هائلة في الصراعات المسلحة والحروب الواسعة والمدمرة. ومن الواضح أن تفكيك الدولة والجيش كان المعوق العملي لبناء الشرعية الجديدة وتثبيت الأمن والاستقرار. إن الدرس المكرر في التاريخ الصاعد للرأسمالية، هو أن المحتل يعمد فورا إلى منح الثقة أكثر إلى الذين كانوا أوفياء «للأمير» الشرعي السابق، وليس للذين ساعدوه في الغزو والاحتلال. وفي هذا مفارقة تتصل بالتناقض بين «الشرعية» التاريخية شبه المستقرة و «الشرعية» الجغرافية الداخلية، دينية كانت أم عرقية. ويعلق خبير الاحتلال والموظف عنده لاري دايموند بسخرية حول الفساد كمثال صارخ، قائلاً بأن الاحتلال ألغى النصيحة التي أعطيت للاسكندر واستبدلها بمقولة معاكسة: عليك برعاية اللصوص لأنك اللص الكبير على وجه هذه الأرض.
إن الغاية الأساسية للشرعية هي بناء العقد الاجتماعي، والعكس هو الصحيح أيضا. والباقي تفاصيل في العلاقة المادية بينهما. وكانت المهمة الأولى للاحتلال هي استخراج أرنب جديد لخدمة مصالحه الاستراتيجية، أطلق عليه إسم «العملية السياسية»، ثم وضع لها دستورا ملفقا. وبذلك منع عمليا أي امكانية لبناء الشرعية والعقد الاجتماعي. إن إطلاق كلاب العنف من قبل الاحتلال لم يتوقف قط، وإنما استمر بالافراط المنهجي من خلال العملية السياسية. وقد رافق ذلك الاستنزاف الكلي للسيادة الوطنية، عن طريق صيغة الكوندومينيوم، وتبعثر القوى الاجتماعية الحية إلى حالات ما قبل الدولة، بصيغ دينية وطائفية وعرقية. إن «السلطات التقليدية» الجديدة هي التي ساعدت على بقاء الاحتلال، وكانت حاجتها إليه دورية ضمن حلقة مفرغة من فقدان الأمن من جهة، وانتشار السلاح من الجهة الأخرى. والعنف هنا ليس فقط وليد انكسار «احتكار الدولة للسلاح»، بل هو تعويض عن استعصاء تجاوز الحاضر إلى مطالب معروفة: أي الحريات والديموقراطية والازدهار الاقتصادي ضمن بلد مستقل ويحظى بالسيادة الوطنية الكاملة. وقد أصبح التناقض المباشر والحاد بين حالتين هو السائد في المعادلة الدقيقة بين «المنطقة الخضراء» ومناطق البلاد «الحمراء». الحالة الأولى هي الاعتقاد الساذج لدى الأمير الاميركي بأنه يمكن أن يخلق دولة جديدة من لا شيء ex nihil، والحالة الثانية: هي أن «المجتمع» قد وصل، بفقدانه الاستقلال والسيادة وانهيار الدولة والجيش وطغيان الاقطاعيات الطائفية والسناجق العرقية، إلى حدود فقد فيها «أسباب البقاء»raison d’eter. إن حالة «حرب الجميع ضد الجميع» هي الحصاد الأكيد لهذا الصراع الجديد وهي بدورها الحاضنة الاجتماعية النموذجية لصعود «داعش» في المناطق الأكثر تضررا من الاحتلال وسلطات منطقته الخضراء. وهذه ليس لها صلة بتاتا بالاطار العام للسلوك السياسي أو المضمون الفعلي للايديولوجيا المنتقاة دينيا أو طوائفيا. ذلك أن زوال الدولة والشرعية هو النسغ الذي يغذي المحميات الاجتماعية ويبطل المفعول التاريخي المعروف للعقد الاجتماعي، كون «الدولة» هي الوسيلة نحو الغاية وليست الغاية بحد ذاتها. فالدولة تخدم مصالح الناس أكثر من خدمة الأفراد لأنفسهم بصورة عشوائية وعن طريق العنف. والناس توافق على حكم الدولة مقابل ضمان الدولة لهم الأمن والاستقرار. هنا دور السلاح واحتكاره في ترسيخ ثنائية الشرعية والعقد الاجتماعي وتثبيت الاستقرار. ومن الساعات الأولى للاحتلال حتى الآن، لا يملك العراقيون هذه الضمانات.
«المخيم» بديل الدولة
إن جدل العلاقة بين اللاشرعية والعنف يتكثف في أعلى مظاهره من خلال «السلطة السياسية» حين تكون بديلة عن الدولة وحين تأخذ شرعيتها من الاحتلال غير الشرعي. وهذا يقود منطقيا إلى ولادة مساحات فارغة من التناقض الحاد بين لاشرعية السلطة السياسية وبين الآلية الخاصة لوظيفة الأجهزة الأمنية في التجارب العديدة تاريخيا في الدول المستقلة أو المحتلة. من هنا، فإن «المنطقة الخضراء» ستكون قابلة للاستنساخ في مراكز «الاتحادات الحمائية»، و «المناطق الحمراء» ستكون منتشرة في البلاد تحت سطوة هذه المحميات المسلحة. فالموت هنا أصبح في عشوائيته المنفلتة غير قادر على تحديد هوية الميت، حيث الجثث المجهولة مطروحة في الشوارع أو في أحواض مباني الطب الشرعي الحكومية القديمة. هنا تتأكد الموضوعة بأن المدافن هي التي تعطي الهوية للميت وليس الموت بذاته. لقد تحول الوضع إلى مخيم كبير نزح إليه الناس هربا من الموت ومن تفكك الدولة. والمخيم في هذا الإطار كما يقول العالم الفذ جورجيو اغامبون كـ «الفضاء الذي يفتح حين تكون حالة الاستثناء هي القاعدة».
المصدر: السفير