التداعي الأمريكي: صعود التحالف الروسي ـ الصيني ٤/٤
يمكن إجمال مراحل العلاقة الروسية - الصينية في العصر الحديث بأربع: الأولى في عهد قيادة ستالين، ونضالات الحزب الشيوعي الصيني، شهدت تعاوناً متمايزاً في تاريخ البلدين واستمرت حتى قدوم خروتشوف إلى السلطة، لتشهد العلاقة توتراً كبيراً في الخمسينات وتدخل مرحلة القطيعة حتى تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث بدأت العلاقة بالعودة تدريجياً بدفع صيني وتحفظ وتردد روسي. المرحلة الرابعة، قيد التبلور والتشكّل منذ نهاية العقد الماضي، وسمتها الأساسية التعمق المتسارع، حيث يقول ستيابلون روي، المدير المؤسس لمعهد «كيسنجر» المختص بالشأن الصيني: «الاتجاه العام بالعلاقة الصينية الروسية هو التحسن، اذ يمكن القول بأن العلاقة بينهما اليوم بأفضل حالاتها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية». فما هو مضمون العلاقات الروسية الصينية ؟ وماهي تعبيراتها الاستراتيجية؟
يمكن تلخيص نقاط التقاطع الأساسية بين الصين وروسيا بنقطتين:
ــ العمل على إنهاء الهيمنة الأمريكية بتجلياتها الاقتصادية والسياسية والأمنية الدولية التي صيغت على صورة مصالح أمريكا والغرب. إذ يشدِّد البلدان على أن هدفهما هو إقامة نظام عالمي تعددي بمواصفات ثلاث: حماية السيادة الوطنية، منع توظيف المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة للتدخل في الشؤون الداخلية لحساب دولة أو مجموعة دول، واستقلالية كل بلد باختيار نموذج التنمية الوطني.
ــ تأمين عملية الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب وتخفيض تكاليفها، بمعنى العمل على تحقيق الانتقال سلمياً وتجنب اندلاع مواجهة عسكرية عالمية بين قوى العالم القديم والقوى الصاعدة/العائدة ومحاصرة التوترات في مناطق الانفجار عبر تغليب منطق الحلول السياسية السلمية، في سياق سعي واشنطن إلى رفع منسوب التوتر العسكري حول العالم عبر تحريك وتفعيل التناقضات القومية والدينية والطائفية في المناطق الجيوسياسية الحساسة بالنسبة للقوى الصاعدة ومحاولة جرها لمستنقعات عسكرية تستهلكها.
فيما يلي نستعرض بعض ثمار المرحلة الجديدة في العلاقة الروسية الصينية في السنين القليلة الأخيرة:
الفيتو الروسي-الصيني
استخدمت الدولتان حق النقض «الفيتو» بشكلٍ مشترك لأربع مرات متتالية بخصوص الأزمة السورية، الأمر الذي يعد تظهيراً نهائياً للإرادة السياسية بإنهاء عصر التدخلات العسكرية المباشرة في دولة ثالثة عبر توظيف الأمم المتحدة للصالح الغربي، واحترام السيادة الوطنية للدول. أما في عمق هذا التحول، فيكفي الإشارة إلى أن بكين التي تفضل تحاشي المواجهات السياسية غير الضرورية استخدمت الفيتو تسع مرات فقط منذ دخولها مجلس الأمن الدولي، منها أربعة بخصوص الأزمة السورية وخلال عامين فقط. ويذكر بآنه لم تكن هذه القضية الأولى التي استخدمت الصين وروسيا الفيتو معاً، إذ سبق ذلك التصويت المشترك بخصوص ميانمار٢٠٠٧ وزيمبابوي٢٠٠٨.
صفقة الغاز
وقَّعت الدولتان مجموعة من الاتفاقات في أيار 2014 تحت عنوان «مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة والعلاقات الاستراتيجية»، أبرزها اتفاق تصدير الغاز الروسي إلى الصين بقيمة 400 مليار دولار، تشمل التزام من الطرفين بالاستثمار في البنية التحتية واستكشاف ونقل الطاقة، لتزود الصين بما مقداره ٣٨ مليار م٣/سنة خلال ثلاثين عاماً. على أن الحجم الكلي الذي ستستطيع روسيا تصديره إلى آسيا عبر الصين بعد إنهاء مشاريع البنية التحتية يبلغ ١٣٠مليار م٣.
لم يجف حبر التوقيع على هذه الاتفاقية حتى وقَّع الرئيسان- في تشرين الثاني من نفس العام- مذكرة تفاهم حول إطلاق خط نقل الغاز الغربي، ليعلن مدير «غاز بروم» الروسية: «لقد أصبح من الممكن أن يتجاوز حجم الصادرات الغازية إلى الصين تلك التي تتلقاها أوروبا خلال الأمد المتوسط».
في المدلولات، عدا عن توقيت الصفقة الأولى في خضم تصعيد الغرب لعقوباته ضد روسيا وسعيه لعزلها دولياً، والثانية على هامش قمة منظمة التعاون الاقتصادي الأسيوي- الباسيفيكي بمشاركة الولايات المتحدة ممثلة بأوباما، فالاتفاق يعني بأن الصين لم تكتف بالتغيب عن التصويت فيما يخص ضم القرم ورفض العقوبات على روسيا، بل أنها تفتح الباب لروسيا لتأريض السلاح الجيوسياسي الأهم للغرب وهو رافعته المالية على روسيا كسوق أساسية لغازها، في سياق سعي الغرب إلى تحويل وارداته الغازية من روسيا إلى دول أخرى من ضمنها دول بحر قزوين (تجدر الإشارة إلى أن روسيا استطاعت تحقيق تقدم وكسر نسبي للتوتر في هذه المنطقة بتوقيع الدول المتشاطئة على بحر قزوين اتفاقية تمنع دخول أي قوة عسكرية أجنبية إلى المنطقة، ومن المنتظر أن تحقق القمة في ٢٠١٥ خرقاً مهماً).
في تقريرها التقييمي للصفقة، أكدت لجنة العلاقات الأمريكية-الصينية الاقتصادية والأمنية بأن «بكين ترى صفقة الغاز كجزء من جهودها الأوسع لدفع تعاونها الأمني قدماً مع موسكو، بالوقت بنفسه الذي تصد فيه القوة والنفوذ الأمريكان في شرق ووسط آسيا».
أما بالنسبة، لروسيا فالصفقة تعني حسمها لخياراتها السياسية والاقتصادية بالتوجه شرقاً بعد سنيين من المهانة على أبواب المنتديات الغربية، التي لم تتوقف عن التأكيد بأن روسيا موحدة وقوية وذات سيادة غير مرغوب بها حتى كدولة رأسمالية، الأمر الذي ساهم بتعزيز مواقع ما يطلق عليهم في الغرب بـ«ذوي الحنين للاتحاد السوفييتي» في جهاز الدولة والجيش الروسي، مقابل تراجع ما يطلق عليهم بالـ «الكتلة الاقتصادية» الليبرالية، كما ستساهم الاتفاقية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية في منطقة الشرق الأقصى والجنوب الروسي في الوقت الذي تتصاعد الأنشطة الغربية المغذية للنزعات الانفصالية.
التعاون المالي والاستثماري
يذكر أن اتفاقيات الغاز هي جزء من باقة اتفاقيات تم توقيعها بين البلدين في منتصف ونهاية ٢٠١٤، للعمل المشترك عسكرياً وتكنولوجياً واستثمارياً ومالياً يمهد بعضها لكسر توازنات تاريخية، من ضمنها اتفاقية تطوير طائرة مدنية كبيرة الحجم على طريق كسر احتكار «البوينغ» الأميركية و«الايرباص» الأوروبية، بالإضافة لاتفاق الدفع باليوان الصيني مقابل الغاز الروسي، في سياق ارتفاع الدور الدولي لليوان الصيني، وهو ما يعادل التلويح بالسلاح النووي بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية التي يتعلق وجودها، بالشكل الذي نعرفه، واستقرارها الاجتماعي الداخلي بالأمد القصير على احتكار ربط السلع الطاقية بالدولار (عديم القيمة الحقيقية)، في الوقت الذي يزداد بشكل متسارع الثقل النسبي للغاز كمصدر طاقي.
كما وقعت البلدان اتفاقاً لفتح خط ائتماني بقية ٢٥ مليار دولار، بهدف رفع نسبة فوترة التبادلات التجارية بينهما بالعملات المحلية. مؤخراً، وأثر تصعيد العقوبات الغربية ضد روسيا وانخفاض سعر النفط والمضاربات على العملة الروسية، أبدت بكين استعداداها لتعزيز الخط الائتماني لموسكو، مشكِّلة خط دفاع خلفي للاقتصاد الروسي وبديلاً عن الاقتراض من صندوق النقد الدولي عند الحاجة.
منظمة شنغهاي
منظمة تعاون أمني وعسكري بشكل أساسي تضم دول وسط وشرق أسيا، حيث تعد روسيا والصين الدولتين الأبرز فيها. إذ يتنامى الدور الإقليمي للمنظمة في سياق ارتفاع الثقل النسبي لشرق أسيا ووسطها وجنوبها في حسابات أمريكا الاستراتيجية، الأمر الذي يترافق وتنامي الهواجس الأمنية من مجموعات الإرهاب الفاشي والحركات الانفصالية والتوترات البينية المغذَّاة أمريكياً ضمن باقة أدواتها الأمنية والسياسية والاقتصادية في سياق محاولتها تثبيت وتعزيز مصالحها في المنطقة.
حققت القمة الأخيرة للمنظمة تقدماً جدياً في العديد من القضايا. تحديداً فيما يخص توسيع عضويتها، حيث تم إنهاء اجراءات قبول الهند وباكستان وإيران، كما قطعت المنظمة خطوات مهمة في بناء آليات اتخاذ القرار وضوابط العلاقة بين الدول الأعضاء. يذكر بأن الرئيس الصيني كان قد شدد في تلك القمة بأن على اللاعبين الإقليميين استبعاد أي حاجة لقوة من خارج المنطقة بشكل نهائي بالتعامل مع القضايا الأمنية والعسكرية. وفي مقالة لدبلوماسي روسي حول المنظمة أكد بأن روسيا، التي تترأس المنظمة بدورتها الحالية، ستعمل على دفع «الخطوات المشتركة على صعيد الاقتصاد، القطاع المالي، الطاقة والأمن الغذائي[..] كما يتم رسم الخطط لتوسيع استخدام العملات المحلية في التبادلات البينية» الأمر الذي يعني التوجه إلى توسيع وظائف المنظمة من الأمنية إلى الاقتصادية والتنموية.
هذا ويذكر أنّ القمة الأخيرة أعلنت تبنيها للخطة الروسية لحل الأزمة الأوكرانية. إذ أعلن قادة المنظمة «إن خطة الخطوة بخطوة لتسوية الصراع، المقترحة من قبل الرئيس بوتين، أصبحت وثيقة هامة على طريق الحل السلمي للأزمة. إننا ندعو كل الأطراف إلى الالتزام الصارم بحرف تلك الوثائق».
في المدلولات، تعدُّ المنظمة واحدة من أدوات الصين وروسيا في مسعاهما لرفع يد أمريكا عن جوارهما الإقليمي، تحديداً في سياق انسحابها القادم من أفغانستان و«الفراغ الأمني» الذي تسعى لاستثماره ضدهما، في منطقة حيوية يرتفع ثقلها الجيوسياسي نتيجة موقعها المفتاحي بتشكيل العالم الجديد، إذ تعد عقدة الربط بين الشرق الذي يرتفع وزنه ودوره بالدينامية الاقتصادية وبين الغرب.
من ناحية أخرى، فإن تنامي التوافقات داخل منظمة «شنغهاي» يغلق الأبواب على تكهنات العواذّل الغربين المراهنين على تناقضات مصالح روسيا والصين في أسيا الوسطى تحديداً، إذ أن أهم مدلولات نتائج القمة الأخيرة هي مقدرة الطرفين على تحقيق توافقات ووصولهما لتفاهمات وآليات لضبط علاقتهما في المنطقة بما يعزز الاتجاه العام لتصاعد علاقتيهما، الأمر الذي يشير إلى وجود إرادة سياسية جدية عند الطرفين على صياغة توافقات وتحقيقها بأسرع وقت.
ما تقدم غيض من فيض نقفله باتفاق البلدين على الاحتفال بشكلٍ مشترك بالذكرى السبعين للانتصار على الفاشية. التاسع من أيار القادم ستقام احتفالية النصر السوفيتي على الفاشية وتحرير أوروبا منها, وفي الثالث من أيلول، احتفالية نهاية الحرب وانتصار الصين على اليابانيين، في إشارة تنضح بمعانيها في سياق تنامي القوى «الحربجية» الفاشية في واشنطن وإطلاقها لصبيتها في أوروبا ضد روسيا وفي شرق آسيا ضد الصين.
عضو حزب الإرادة الشعبية. باحث اقتصادي، وطالب دكتوراه في الاقتصاد الدولي في جامعة «غرونوبل»، فرنسا.