ثورة المدينين: الوجه الآخر لفوز اليسار
خلال اشتداد أزمة الدين اليونانية عام 2011، كتب صحافي اقتصادي أميركي، اسمه ماثيو لين، مقالاً عن البلد، يبدأ بقصّة ديونيسيوس الأكبر، الذي حكم مدينة سيراكيوز في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي واجه خلال عهده مشكلة «ديون سيادية» وإفلاس. عندما أوصل إسراف ديونيسيوس حكومته إلى مرحلة عدم القدرة على السداد، وأصاب سيراكيوز العوز والفقر، قرّر الملك أن يجمع رعاياه وأن يجبرهم على تسليم كل «دراخما» يملكونها؛ وحين صارت النقود في يده، أمر بأن تُختم الأموال بختمٍ جديد، فتصير كل «دراخما» اثنتين، متوهّماً أنّه بذلك سيجعل مدينته ثريّة من جديد.
المثير هو أنّ هذه الخطّة، بحذافيرها تقريباً، طبّقتها الحكومة اليونانية في عشرينيات القرن الماضي حين عجزت عن تحمّل كلفة حربها مع تركيا، فقرّرت أن تحسم من كلّ دراخما في السوق نصف قيمتها، يذهب ديناً «إجبارياً» إلى الحكومة، فيما يبقى النصف الآخر في يد المستهلك (في نهاية الأمر أطفأت الحرب العالمية الثانية، والتضخم الذي تلاها، هذه الديون الكبيرة). الفكرة هي أن اليونان ليست غريبة عن الديون السيادية والعجز عن الدفع، وقد تميّز البلد بأنّ خزينته قد اضطرّت على التوقّف عن السداد خمس مرّات خلال أقلّ من قرن، بين استقلال البلد عن السلطنة العثمانية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وسنوات الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين.
ارتكز العديد من المعلّقين الأوروبيين على هذا السجل، وعلى روايات تاريخية أخرى، كي يستنتجوا أن «العطب» يكمن في ثقافة اليونان وتقاليدها، وأن الكسل والفساد والإنفاق غير المحسوب هي صفات تميّز جنوب أوروبا عن شمالها، وتفرض على أوروبا «العاملة والمنتجة» (كألمانيا) مهمة إعادة تأهيل هذه الدول، وتأديبها، وتعليمها كيفية التصرف في العالم الحديث (لا يكاد يخلو تقرير عن الاقتصاد الايطالي من ذكر معلومة/طرفة مفادها أن حكومة جزيرة صقلية توظّف 26,000 مأمور أحراج، فيما لا تحتاج الغابات الضخمة في ولاية بريتيش كولومبيا الكندية – تفوق مساحتها مساحة إيطاليا بأكملها - إلى أكثر من 1,700 موظّف، وهي مقارنة تختزل النظرة الأوروبية الشمالية إلى جنوب القارة).
الصناديق تتكلم
يشكّل التصويت اليوناني انقلاباً على ثقافة التقشّف التي فرضتها أوروبا على اليونان (وغيرها من دول الجنوب الأوروبي) تحت حجج تراوح بين إنقاذ هذه الدول ومعاقبتها وإجبارها على الإصلاح.
أفرزت الكلفة الاجتماعية والإنسانية الهائلة لسياسات التقشّف نظرة مختلفة إلى المجتمع اليوناني بعد سنوات على الأزمة، حيث سادت سردية الشعب المضطهد، المحكوم من تكنوقراط خارجي، والمقيّد بالديون ومواعيد السداد، فيما عموم الناس تعاني من البطالة والضرائب وانخفاض مستوى الحياة.
في الوقت نفسه، أعطى الفوز اليوناني أملاً لعدد كبير من الأحزاب والمثقفين في أوروبا «القديمة»، الذين صاروا ينتظرون أن تأتيهم، من دول الهامش الأوروبي، أفكار جديدة وبديلة تخرج أوروبا من ربقة السياسات النيوليبرالية وتضخّ في الاتحاد الاوروبي روحاً ديمقراطية شعبية، تحرّره من حكم المصرف المركزي والتكنوقراط (حيث صار هدف الديمقراطية والتصويت، كما كتب أحد المعلقين، محصوراً بالموافقة على السياسات التي أرساها «الخبراء»).
الديون اليونانية كانت محور هذا النقاش، مع حجج أخلاقوية تقدّم من الجانبين: المصرف المركزي الأوروبي والمسؤولون الألمان يشددون على أن دفع الديون والتقشف والإصلاح تمثّل الطريق الوحيد «المسؤول» لإعادة بناء الاقتصاد على قاعدة سليمة وتصحيح أخطاء الماضي؛ فيما ينادي معسكرٌ أوروبي صاعد بإلغاء ديون اليونان، أو بإعادة النظر بها، من أجل ازاحة المعاناة عن الناس وإعطاء اقتصاد البلد فسحةً لينمو من جديد.
التاريخ السياسي للديون
المشكلة في المعسكرين هي أنّهما ينظران إلى الديون كأنها نائبةٌ حلّت فجأة على اليونان، والسؤال محصورٌ بكيفية التعامل معها، بدلاً من نقاش الأسباب التي أدّت إلى تراكم هذا الدين في المقام الأول، والديناميات التي جعلت اليونان بلداً يصرف أكثر مما ينتج، ويعيش على مستوى يفوق إمكاناته، ويعتمد على تمويل الخارج.
الاقتصاد السياسي للدين اليوناني يبدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حين قرّر الرئيس الأميركي هاري ترومان صرف أكثر من 400 مليون دولار كمساعدات عسكرية للنظام الملكي في حربه ضد المتمرّدين الشيوعيين، وكانت تلك أول «رشوة» يستخدمها الغرب بغية منع اليونان من التحوّل إلى الشيوعيّة، ولم تكن الأخيرة.
تملك الحكومة اليونانية، أصلاً، قابلية لبناء الشبكات الزبائنية والفساد منذ استقلال البلد، وهي نزعة غذّاها التمويل الأميركي خلال «خطّة مارشال»، ثم وصلت إلى قمتها مع تدفّق أموال الاتحاد الأوروبي على البلد في الثمانينيات والتسعينيات، وفتح أسواق المال العالمية أمام الحكومة للاقتراض.
«الرشوة الأوروبية» قمعت، بالفعل، كل نزعة ثورية داخل اليونان، وقد قابل ذلك ارتفاعٌ سريع وملحوظ في مستوى الحياة والاستهلاك، حتى صار يشابه أسلوب الحياة في أوروبا الغربية (وصل متوسط دخل الفرد اليوناني إلى أكثر من ثلاثين ألف دولار في السنة قبيل الأزمة).
ولكن، إن كان القرب من أوروبا، والرواتب الحكومية العالية (المدعومة أوروبياً)، ومشاريع البنى التحتية التي يموّلها الدين تسمح بإطلاق نموٍّ وتوسّع لفترةٍ ما، إلّا أنّ هذه العوامل لا توازي اقتصاداً منتجاً له استمرارية، والاستهلاك بالدين لا بدّ أن يصل بك، يوماً ما، إلى طريقٍ مسدود.
هذا ما حدث مع الأزمة المالية العالمية، وهذا التاريخ السياسي للاقتصاد اليوناني قد تمّ - إلى حدّ بعيد – إغفاله واختزاله في كليشيهات تبسيطية عن «الجنوبيين الكسالى» أو عن «معاناة الشعب» الذي ترهن مستقبله الترويكا المالية.
آمال واهمة؟
من هنا إشكالية فوز «سيريزا» وطروحاته «البديلة»؛ فمنظرو الحزب (عدا هجومهم المستحق ضد الأوليغارشيا المحلية) لا يملكون إلا كلمتين ذهبيتين توصّف اتجاههم ونظرتهم تجاه حلّ للأزمة: إلغاء الديون والكينزية (أي زيادة إنفاق الدولة من أجل تحفيز النمو والاستهلاك والتشغيل).
بمعنى آخر، إنّ المضمر في هذه الحلول - لن نناقش هنا واقعيتها – هو أنّه يمكن الشعب اليوناني أن يعود إلى سنواته الذهبية، وأن يتابع نمط الحياة الاستهلاكية الذي استساغه، وأن يعود المواطنون إلى شراء السيارات والبضائع الأجنبية، بمجرّد إزاحة كابوس الديون، والنيوليبرالية «الشريرة».
الدّين لا ينتج من «حادثة» أو من سوء تقدير، بل هو نتيجة لنمط إنتاج وتراكم، ولنمط حياة واستهلاك أيضاً؛ والمعالجة الجذرية الحقيقية تبدأ بإعادة النظر بشكل الاقتصاد، وبالعلاقة مع اوروبا، وصولاً إلى نوعية الحياة وأسلوبها والحالة الإنسانية ككلّ، كتعريف السعادة والاكتفاء عبر الاستهلاك - وهو الركن الأساس، والحقيقي، لفزاعة الـ«نيوليبرالية».
هذا التناقض بين الأهداف والوسائل التقطه الاقتصادي الأميركي بول كروغمان، الذي كتب البارحة، في «نيويورك تايمز»، ملاحظاً أنّ مشكلة «سيريزا» الحقيقية، التي سيواجهها حين يجرّب تحويل أفكاره إلى سياسات ضمن المنظومة الأوروبية، هي ليست في يساريته، بل في أنّه «ليس راديكالياً كفاية» حتى يطرح مساراً اقتصادياً أبعد من إلغاء الديون.
المصدر: الأخبار