في ذكرى «الصدمة» الروسية
هاني شادي هاني شادي

في ذكرى «الصدمة» الروسية

في كانون الثاني الجاري تحلّ الذكرى الثالثة والعشرون لتطبيق سياسة العلاج بالصدمة، التي اتبعها الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين لإصلاح الاقتصاد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. ففي خريف 1991، طرح يلتسين الاتجاهات الرئيسية لإصلاحات السوق، والتي تضمنت في الأساس تحرير الأسعار والأجور والتجارة وإعادة النظر في الضمانات الاجتماعية للسكان وخصخصة أملاك الدولة. وبناء على ذلك، شكل حكومة برئاسته تولى فيها الجانب الاقتصادي ايغور غايدار، وعدد آخر ممن عرفوا بتوجهاتهم الاقتصادية الليبرالية الراديكالية. وبعد التفاهم مع «صندوق النقد الدولي» و «البنك الدولي» وعدد من الاقتصاديين الغربيين من أنصار الليبرالية الجديدة «إجماع واشنطن»، اختارت هذه الحكومة طريقة العلاج بـ «الصدمة» كوسيلة للانتقال إلى اقتصاد السوق.

لقد كان العلاج بالصدمة الوسيلة «الناجعة» ليلتسين وفريقه لإجراء الإصلاحات سريعاً للتخلص من اقتصاد الأوامر السوفياتي والتحول إلى الرأسمالية بضربة واحدة. ففي مطلع كانون الثاني 1992، بدأ العلاج بالصدمة بتحرير أسعار نحو 90 في المئة من السلع والخدمات، وتحرير التجارة الداخلية والخارجية. وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعار السلع بمعدلات فلكية خلال العام المذكور وحده بـ26 مرة تقريبا، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بـ14,5 في المئة، والاستثمارات بــ40 في المئة، وتراجع الإنتاج الصناعي بـ18 في المئة. وكانت النتيجة تدهور المستوى المعيشي للغالبية العظمى من السكان، الذين ضاعت مدخراتهم وانخفضت قيمتها انخفاضا كبيرا.

على هذه الخلفية تصاعد الخلاف بين يلتسين والبرلمان، الذي كان يرى ضرورة إجراء الإصلاحات تدريجيا. كما اعترض البرلمان على الخصخصة التي شرع فيها يلتسين وفريقه من أنصار الليبرالية الجديدة، والتي كانت في رأي البرلمان ستؤدي إلى نهب ثروات وممتلكات الدولة من قبل فئة ضيقة من الأفراد المرتبطين بعالم الجريمة والمافيا، تلك الفئة التي عُرفت في ما بعد بـ»الأوليغاركيا». وهذا ما حدث بالفعل وبات جلياً في السنوات التالية. غير أن الليبراليين الجدد باركوا تصفية ملكية الدولة على وجهة السرعة، بل شاركوا في عملية التصفية هذه. فقد كان المبدأ السائد لدى يلتسين وفريقه هو تسريع بناء الرأسمالية بأي ثمن، وترك آليات السوق تعمل بحرية لأنها قادرة على حل جميع المشاكل.
مع مطلع 1999، كانت الإصلاحات الاقتصادية ليلتسين قد أدت إلى انخفاض الإنتاج الصناعي بمرتين تقريبا، والإنتاج الزراعي بالثلث، واستثمارات الدولة بـ60 في المئة مقارنة بما كانت عليه قبل الإصلاح، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي إلى 59 في المئة من مستوى العام 1990، الأمر الذي لم يحدث في وقت الحرب العالمية الثانية. وتقلص الاستهلاك السنوي للفرد في المتوسط من السلع الغذائية الأساسية مقارنة بالعام 1989 بدرجات كبيرة. وبلغ التناقص الطبيعي للسكان في روسيا، بسبب انخفاض المواليد وارتفاع الوفيات، أكثر من 5,5 ملايين نسمة. وهذا كان يعادل عمليا عدد سكان دولة مثل الدنمارك.
وأسفرت الخصخصة في نهاية عهد يلتسين عن نهب ممتلكات الدولة لمصلحة فئة اجتماعية محدودة من البيروقراطية الحزبية السابقة، ومدراء الشركات، والروس الجدد، وفي القمة منهم طواغيت المال، الأوليغاركيا، الذين أثروا بقوة على القرارين الاقتصادي والسياسي للكرملين. ومن النتائج السلبية للخصخصة، على سبيل المثال لا الحصر، بيع 500 من الشركات الكبرى للدولة بسبعة مليارات دولار فقط، بينما كانت قيمتها الفعلية لا تقل عن عشرين مليار دولار بأسعار 1994، أي بأقل من قيمتها الحقيقية بنحو ثلاث مرات. وارتبطت الخصخصة بإشاعة الطابع الإجرامي في الاقتصاد. فقد نُهبت الموارد الطبيعية، خصوصاً النفط والغاز والأخشاب وغيرها عن طريق إبقاء العوائد من تصديرها في الخارج. وتلاحمت هذه العملية مع تهريب الأموال من داخل روسيا، حيث بلغ حجم هذه الأموال المهربة 300 مليار دولار في العام 1998. وتشير بيانات نهاية التسعينيات من القرن الماضي إلى سيطرة المافيا على معظم القطاع المصرفي والتجاري، وقسم معتبر من الموارد الطبيعية. وتشابكت هذه المافيا مع الفئات المرتشية في أجهزة الدولة، خصوصاً في المستويات العليا.
لقد عانت إصلاحات السوق الراديكالية في روسيا من ضعف البعد الاجتماعي، حيث تقلصت النفقات بشدة على البنية الأساسية الاجتماعية، وأُهملت العلوم والصحة العامة والتعليم والثقافة والبحث العلمي. فمثلا، تقلص إنفاق الدولة على العلوم الأساسية من 4 في المئة في 1991 إلى 0,3 في المئة في عام 1997. وبلغ التفاوت الاجتماعي في روسيا حداً لا مثيل له، حيث احتل قمة هرم الدخول في روسيا في التسعينيات حوالي 2 في المئة فقط من السكان، بينما كان 58 في المئة من السكان عند خط الفقر وفوقه بقليل. في الوقت نفسه، كانت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر لا تقل عن 25 في المئة من السكان. أما الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فكانت أكثر من عشرين مرة في عموم روسيا. بجانب ذلك تفاقمت مشكلة المدفوعات، أو بالأحرى «عدم المدفوعات» بين الفروع المختلفة للاقتصاد، وبينها وبين الحكومة، وبينهم جميعا وبين السكان، الذين تأخرت رواتبهم ومعاشات تقاعدهم شهوراً عدة. وانتشرت على نطاق واسع المقايضة بين المؤسسات الروسية، التي تراوحت نسبتها من الدخل الإجمالي للعديد من فروع الصناعة بين 37 في المئة و95 في المئة. وفي شهر آب 1998، سقطت روسيا في أزمة مالية واقتصادية عنيفة.
إذا كانت الحالة الصحية ليلتسين وقفت وراء تخليه مبكراً عن السلطة في 31 كانون الأول 1999، فإن الوضع الاقتصادي المتردي للغاية بسبب العلاج بــ «الصدمة» عجل أيضا من عملية التنحي والتفكير في توريث الحكم للحفاظ على النظام الذي وصلت شعبية رئيسه آنذاك إلى مستوى متدنٍ للغاية لا يزيد على 3 في المئة. وبذلك بدأت مرحلة جديدة في روسيا، حافظ فيها النظام الرأسمالي الروسي على نفسه وعزز إمساكه بمقاليد الحكم.

 

المصدر: السفير