«الظاهرة التركية» مع نهاية العام 2014
مصطفى اللباد مصطفى اللباد

«الظاهرة التركية» مع نهاية العام 2014

طبعت «الظاهرة التركية» منطقتنا بطابعها خلال السنوات العشر الماضية، بحيث أوجدت انقساماً سياسياً بين مؤيديها ومعارضيها في المنطقة، على خلفيات الأدوار الإقليمية المرتقبة لتركيا في الشرق الأوسط. فصل عقد كامل بين صعود حزب «العدالة والتنمية» إلى سدة السلطة في تركيا (2002) وبدايات «الربيع العربي» (2011)، استثمرته تركيا في الانفتاح على المنطقة لاحتلال المساحات التي تركتها القوى الإقليمية العربية خلفها، فتوسطت في قضايا المنطقة واقتربت من جماهيرها وحكامها على حد سواء.

 لكن ذروة الصعود لما يسمى «الظاهرة التركية» تمثلت في المرحلة الأولى من «الربيع العربي» التي تولت فيها جماعة «الإخوان المسلمين» السلطة في كل من تونس ومصر، بحيث أصبح التحليل السياسي حول العالم بخصوص «الربيع العربي» حديثاً ــ بشكل أو آخر ــ عن نفوذ تركيا الإقليمي، لما ظهر من وشائج التحالف بين تركيا الإردوغانية وتونس النهضوية ومصر الإخوانية. ومع إطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة في مصر صيف العام 2013، وطغيان شخصية أردوغان على «الظاهرة التركية» بتوقه المفرط والظاهر إلى الزعامة، فقد راجت التحليلات القاضية بنهاية «الظاهرة التركية» وأفولها ونهاية الحضور التركي الإقليمي معها. ومثلما تمت المبالغة في قوة تركيا ونفوذها الإقليمي خلال العامين 2011 و2012، تجري منذ العام 2013 وحتى الآن مبالغة من نوع معاكس مفادها انتهاء الحضور التركي في المنطقة إلى الأبد. ولأن الحقيقة في أغلب الأحوال تكمن بين التطرفين، ربما يكون مفيداً استعراض الأرقام والمؤشرات التي نشرتها «مؤسسة الشفافية الدولية»، في تقريرها السنوي حول الفساد في العالم لعام 2014 بخصوص تركيا، ومن ثم استعراض مؤشرات التنمية بمفهومها الواسع لتركيا، ومقارنتها بمثيلاتها للدول الإقليمية ذات الوزن في المنطقة (السعودية وإيران ومصر)، بغرض الخروج باستنتاجات مؤسَّسة على الأرقام والمعطيات لوزن تركيا الحقيقي في المنطقة.

تركيا ومؤشرات الفساد
يتضمن تقرير «مؤسسة الشفافية الدولية» حول مؤشرات الفساد بالقطاع الحكومي في العالم بيانات وأرقاما لمئة وخمسة وسبعين دولة حول العالم، بحيث يعكس ترتيب الدولة المتأخر على القائمة زيادة حجم الفساد فيها، وبالعكس كلما تقدم ترتيب الدولة المعنية في الترتيب العام، قلت مؤشرات الفساد فيها. تحتل تركيا المركز الرابع والستين على القائمة، وتسبقها السعودية التي تحتل المركز رقم خمسة وخمسين على القائمة ذاتها. تصطدم هذه الأرقام بإدعاءات نظافة اليد التي بنى عليها حزب «العدالة والتنمية» سمعته المحلية والدولية، إذ يحكم الحزب تركيا منذ العام 2002 من دون انقطاع، ويعد مسؤولاً وحيداً عن كفاءة وإدارة القطاع الحكومي التركي. حتى أن اختصار اسم الحزب المذكور (أك) يعني الأبيض والنظيف باللغة التركية، وهو أمر ينزعه تقرير «مؤسسة الشفافية الدولية» بشدة. أعطت المؤشرات تركيا خمسة وأربعين نقطة من إجمالي مئة نقطة في العام 2014، في حين كان تقديرها 50 نقطة من إجمالي مئة لعام 2013 و49 نقطة من أصل مئة عام 2012، ما يعني تراجعاً واضحاً في صورة تركيا وأداء قطاعها الحكومي وفقاً للتقرير.
وإذ ظلت دوائر المعارضة التركية تتحدث عن تسهيل مهام رجال الأعمال المرتبطين بحزب «العدالة والتنمية» للاستحواذ على المناقصات والعطاءات الحكومية، خصوصاً في الفترة الثانية لرئاسة رجب طيب أردوغان للحكومة التركية، وتشير إلى أسماء شركات تركية شهيرة بالبنان، فقد بقيت تلك الاتهامات محصورة في السجال السياسي بين حكومة أردوغان ومعارضيها، إلا أن استعراض تقارير «مؤسسة الشفافية الدولية» لعام 2014 والعامين السابقين لمؤشرات الفساد يرجح بشكل علمي ووفقاً للأرقام والمؤشرات اتهامات المعارضة التركية لأردوغان وحكومته.


مؤشرات التنمية التركية
لا تستقيم، لأغراض التحليل المتوازن، ملاحظة الترتيب المتدهور نسبياً لتركيا في قائمة مؤشرات الفساد الدولية حصراً، وإنما ربط تلك المؤشرات بمؤشرات التنمية الواردة في تقرير «مؤسسة الشفافية الدولية» ذاته، لملاحظة النصف الآخر من الصورة. ويقصد بمؤشرات التنمية تلك البيانات التي تتناول عدد السكان والناتج المحلي الإجمالي ومتوسط العمر المتوقع للمواطن ونسبة الأمية، بغرض رسم صورة للحالة الاقتصادية - الاجتماعية للبلد محل البحث، أي تركيا. وفقاً للأرقام، تتصدر تركيا غير النفطية بوضوح مؤشرات التنمية في دول الشرق الأوسط، حيث يقدر حجم ناتجها المحلي الإجمالي بحوالي 734 مليار دولار، متقدمة في ذلك على السعودية (434 مليار دولار) وإيران (331 مليار دولار) ومصر (218 مليار دولار). المفارقة، وفقاً لهذه الأرقام، أن الناتج المحلي الإجمالي لتركيا يتفوق على مثيله السعودي بوضوح كبير (أكثر من مرة ونصف)، وعلى منافسه الإيراني بوضوح أكبر (نحو مرتين ونصف) وغريمه المصري بجلاء (نحو ثلاث مرات ونصف). ويظهر الفارق في المقدرات الاقتصادية التركية ومنافساتِها الإقليميات بوضوح أكبر عند ملاحظة أن الناتج المحلي الإجمالي لتركيا يضاهي تقريباً الناتج المحلي للسعودية وإيران مجتمعتين، وهما الأكثر تأثيراً الآن في ملفات المشرق العربي والمنطقة. وإذا عطفنا أرقام الناتج المحلي الإجمالي على مؤشرات عدد السكان الأتراك (72,8 مليون) مقارنة بالقوى الإقليمية الأخرى في المنطقة، نجد أنها تحل ثالثة بعد مصر (91 مليون) وإيران (74 مليون) ومتقدمة على السعودية (27 مليون). وتتقدم تركيا على كل منافسيها المذكورين في مؤشرات التنمية البشرية سواء من حيث قلة عدد وفيات الأطفال المواليد أو من حيث تدني نسبة الأمية، ما يجعلها وفقاً للمؤشرات والبيانات الأكثر تقدماً اقتصادياً واجتماعياً مقارنة بالسعودية وإيران ومصر.


الخلاصة
تلقت الأحلام الأردوغانية في القيادة الإقليمية ضربة كبرى مع الانتكاسات المتوالية لحليفتها جماعة «الإخوان المسلمين» في طول المنطقة وعرضها، كما أن انحسار صورة النزاهة عن حزب «العدالة والتنمية» وفقاً لأرقام مؤشرات الفساد الدولية تنال أيضاً من صورة تركيا العامة في المنطقة. ويضاف إلى ذلك أن النزوع المتعاظم لشخصنة «الظاهرة التركية» وتماهيها مع شخص أردوغان، يقلص كثيراً من فرص تركيا تحت قيادة أردوغان في استعادة الهيبة والمكانة التي فقدتها، ويجعلها استنساخاً لتجارب شرق أوسطية عانت من ارتباطها بالشخص وتجربته، وهو ما يتصادم بدوره مع صورة تركيا إبان صعودها الإقليمي بالعامين 2011 و2012 باعتبارها صورة لنموذج ناجح يعتمد على العقلانية والمصالح لا الأشخاص وميولهم الذاتية. ومع ذلك، لا تغيب ملاحظة أن الوزن الاقتصادي لتركيا مقارنة بمنافساتها الإقليميات، يضعها نظرياً وموضوعياً في مقدم القوى ذات القدرة على لعب دور إقليمي في المنطقة. ويعني ذلك أن الاحتفالات المطمئنة في غالبية الدول العربية بانتهاء الأدوار التركية إلى غير رجعة، تنطلق من منطلقات عاطفية وتمنيات أيديولوجية، أكثر من قراءة الأمور والمؤشرات بتجرد موضوعي. وإذ تحلق الأيديولوجيا في عالم ساحر من الأحلام غير المنطقية أو الموضوعية بالضرورة، يفرض الاقتصاد ــ فضلا عن حقائقه ــ منطقه الخاص لفترات تدوم أكثر كثيراً من الأيديولوجيا ومشروعاتها السياسية. تعتمد الأدوار الإقليمية للدول على عوامل كثيرة أهمها الوزن والقدرة الاقتصادية والكتلة السكانية والقدرات العسكرية، وكلها معايير تلعب حتى اللحظة (نهاية 2014) لمصلحة تركيا حتى مع تراجع أدوارها السياسية خلال السنتين الأخيرتين. ويخبرنا تاريخ الأدوار الإقليمية في المنطقة أن الصعود والهبوط لأدوار الدول ومشروعاتها السياسية هو قدر لا مفر منه، في حين تبقى القدرات الاقتصادية أكثر عصياناً على الاختفاء والتبخر.
أفشل رهان أردوغان الخاطئ على جماعة «الإخوان المسلمين»، ومعه النزوع المتزايد لشخصنة «الظاهرة التركية» على قياسه وقيافته، معطوفاً على فساد يستشري عاماً بعد أخر، حضور تركيا السياسي في المنطقة خلال السنتين الأخيرتين؛ ومع ذلك، فمن العبث اعتبار أن «الظاهرة التركية» قد انتهت إلى الأبد؛ ومرد ذلك أن تركيا تمتلك أغلب الشرائط النظرية اللازمة للعب أدوار إقليمية، متفوقة في ذلك على منافساتها الإقليميات الحاضرات بشدة في المشهد السياسي الآن (السعودية وإيران)، وفقاً لأرقام ومؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية. يشبه حال العرب وتركيا في نهاية العام 2014 حالَ من يحتفل بالانتصار في غرفة مهترئة الأثاث ومتداعية الأركان على إيقاع الدبكة وتقاسيم الميجانا والعتابا (العرب) من خلف باب موصد (العزلة الإقليمية لتركيا)، على المقلب الآخر من الباب يتحين عملاق اقتصادي (تركيا) فرصة العودة، فما أن ينفتح الباب ــ لسبب أو لآخر ــ حتى تعود طموحات القيادة الإقليمية التركية من جديد وينتهي معها صخب الاحتفال!

 

المصدر: السفير