في «حاكمية» المشروع الاجتماعي السياسي
الحاجة إلى مشروع ثقافي عربي جديد وشامل حاجة ماسة في هذا المفصل التاريخي، لأنها هي عينها الحاجة إلى مشروع سياسي - اجتماعي جديد لا مهرب منه إن أردنا الخروج من حال التأخر والانحطاط، التي نرزح فيها، وفك قيودها المضروبة على حاضرنا .
وليس من شك عندي في أن اجتراح مثل هذا المشروع الاجتماعي - السياسي ممتنع، حتى لا أقول إنه مستحيل، إن لم يسبقه ويؤسس له مشروع ثقافي . بيان هذه الصلة التلازمية في غير حاجة إلى كبير شرح، إذ الثقافة ليست مضافاً نافلاً يمكن الغناء عنه، وإنما هي من المجتمع بمنزلة المدماك الذي عليه يقوم صرحه، وتستوي أبنيته كافة .
هذه ليست يقينية نظرية تؤسسها معادلات ذهنية افتراضية بين الثقافة، من جهة، والمجتمع والسياسة من جهة ثانية، بل هي مما أقام التاريخ دليلاً على حقيقتها من ظواهره وخبرته وسوابقه، إذ ما كان لأمة من الأمم في التاريخ أن تنتهض، أو أن يعلو لها مقام في السياسة، من دون أن يكون لنهضتها مقدمات ثقافية عليها يقوم مشروعها الاجتماعي - السياسي . أوروبا الحديثة - مثلاً - ما عرفت طريقاً إلى ثورتها السياسية، التي انطلقت موجاتها من فرنسا في عام ،1789 وإلى الوحدة القومية لكياناتها الممزقة إلى أشلاء وأشتات، وإلى بنائها الديمقراطي الحديث، إلا بعد أن حملت على مشروع ثقافي كبير نهض بتأسيسه ونشره الأنواريون والموسوعيون في القرن الثامن عشر، وأصبحت قيمه مع الزمن ثقافة جمعية للأمم الأوروبية بعد أن مكن من أسباب الفشو والهيمنة . لم يكن المشروع الثقافي الأنواري في أوروبا مجرد لحظة من لحظات صعودها الحضاري الجديد، بل كان القاعدة التأسيسية لذلك الصعود، لأن من جوف معطياته الفكرية خرجت المبادئ الكبرى التي أرست أسس النظام الاجتماعي - السياسي الحديث .
ليس المثال الأوروبي عن حاكمية المشروع الثقافي لسيرورة النهضة استثناء من القاعدة، أو حالة موضعية لا تقبل التعميم، وإنما هو تأكيد متجدد لما تقرر في سوابق من التاريخ لدينا منها - في حضارتنا العربية الإسلامية - شواهد عدة، ولما لم يكف التاريخ الحديث، منذ قرنين، عن إقامة الدليل عليه في أمكنة أخرى من العالم خارج أوروبا والمفهوم من هذا أن الأمر هنا، يتعلق بقانون تاريخي لا بحالات اجتماعية متفردة كان لمفعول الثقافة فيها سلطان خاص . إن الثقافة ليست محض مرآة تعكس تحولات المجتمع والسياسة فحسب مثلما يطيب لمقالة مادية ميكانيكية مبتذلة أن تقول - وإنما الثقافة فاعل كبير في مجرى تحولات ذلك المجتمع، وعامل من عواملها الصانعة، حتى لانقول إنها - أحياناً ما تكون - العامل الأظهر من العوامل الصانعة لتلك التحولات، على الأقل إن نحن أخذنا في الحسبان أن السياسة والاجتماع ينتهلان منها مبادئها .
حاجتنا إلى هذا المشروع الثقافي، إذاً، من حاجتنا إلى ذلك المشروع الاجتماعي - السياسي الذي نريده شاملاً وجذرياً بحيث يكون بمستوى تحديات الواقع القائم والقاتم: واقع التأخر والانحطاط والتبعية والاستبداد، الذي ينهش جسم الدولة والمجتمع، ويخرج أمتنا من التاريخ، والحاجة هذه ليست جديدة، أو وليدة لحظتنا الراهنة، بل هي عريقة في القدم: منذ كفت الثقافة عن أن تزود الاجتماع والسياسة بحاجتهما من القيم والرؤى . وقد كان ذلك، على التحقيق، في حملة ما صنع فصولاً من مأساتنا التاريخية التي امتدت في الزمان لفترة سبعمئة عام فاصلة بين القرنين الثاني عشر والتاسع عشر، هي فترة ما اصطلح عليه باسم عصر الانحطاط: هذا الذي بتنا نعيش بعضاً من ظواهره، منذ ما يزيد على الأربعين عاماً، ونعاني وطأة نتائجه في مناحي الحياة كافة .
على أن الحقيقة تقتضينا الاعتراف بأن مركزية المشروع الثقافي في أي مشروع نهضوي - وهي حقيقة مؤكدة لا شوب فيها - لا تترجم نفسها باستمرار، وعلى نحو تلقائي، في صورة استجابة تفاعلية إيجابية من المجتمع والسياسة لذلك المشروع الثقافي، فقد لا يترتب على وجود المشروع الثقافي مشروع اجتماعي - سياسي . وليس معنى هذا أن قاعدة التلازم تنتقض أويصيبها عور، وإنما معناه أن ضعفاً كبيراً يدب إلى القوى الحاملة لذلك المشروع الاجتماعي - السياسي، فتعجز هذه عن استلهام رؤيتها النهضوية من مبادئ ذلك المشروع الثقافي وقيمه، أو اشتقاق نموذجه منها . وحينها لا تعود أسباب الخلل إلى الثقافة، وإنما إلى السياسة والاجتماع . وقد حصل شيء من ذلك في تاريخنا الحديث: كان لدينا - منذ القرن التاسع عشر - مشروع ثقافي تنويري عظيم القيمة، لكن هذا المشروع لم يجد من يترجمه سياسياً ويبني عليه.
المصدر: الخليج