قبر سليمان شاه ومسمار جحا التركي
انتشرت في تركيا مطالع العام الجاري أنباء مؤكدة عن اجتماع سري ضم ممثلين عن وزارة الخارجية التركية والدفاع والمخابرات اتفق خلاله على إرسال عملاء سريين للتحرش بالحرس التركي في حرم قبر سليمان شاه في صحراء الشمال السوري، وبالتالي إقناع الرأي العام التركي بأن أرضه الخاضعة للسيادة التركية تعرضت للاعتداء، وبأنه لا بد من حمايتها باعتبار أن أغلبية الأتراك لا تريد الانخراط في الحرب السورية، ولا يمكن أن تغير رأيها إلا إذا وقع مسّ بالسيادة الوطنية.
إلا أن هذه الخطة انكشفت بعد تسريب فيديو حولها على شبكة ال "يو تيوب" ما يعني أن طرفاً في السلطة التركية لا يريد الانخراط المباشر في الحرب السورية وأنه سرب الخطة لهذه الغاية .
معلوم أن سليمان شاه كان زعيماً لإحدى أهم القبائل التركية التي نزحت من آسيا الوسطى إلى سوريا والعراق وإيران، وهو جد عثمان الأول مؤسس ما سيعرف في القرن التاسع عشر باسم الإمبراطورية العثمانية، ومات سليمان شاه غرقاً في نهر الفرات ودفن بالقرب من مكان غرقه في العام 1236م، وظل مكان دفنه بلا أهمية ملحوظة حتى العام 1925 حين أصر مصطفى كمال أتاتورك تحت ضغط شعبي على مطالبة السلطات الفرنسية التي انتدبت على سوريا بعد انهيار الإمبرطورية العثمانية بمنح الأتراك السيادة على القبر واعتباره أرضاً تركية، فكان له ما أراد، ومازال المكان أرضاً تركية ويحتاج الدخول إليه إلى جواز سفر وتأشيرة تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى الداخلين إلى أنقرة .
ومعلوم أيضاً أن السلطات التركية فرضت حراسة مشددة على القبر منذ إندلاع الحرب في سوريا، وتحديداً منذ العام 2012 حيث تم ارسال جنود من النخبة وزاد عددهم حتى صار ضعف العدد السابق والمحصور ب 11 جندياً . واللافت أن السلطات التركية جددت الحراسة على القبر هذا العام في ظل تنظيم "داعش" . وتنتشر ظنون أنها تفاهمت مع مسؤولي "داعش" بالقول: "ما دمتم دولة عليكم احترام القانون وبالتالي عدم الاعتداء على الارض والسيادة التركية في قبر سليمان شاه" الذي يتمتع بمكانة رمزية عالية في ضمير الشعب التركي، الأمر الذي أدى إلى مرور تبديل الحرس كما كان الحال في سنوات ما قبل الحرب السورية كالشعرة في العجين .
يتيح ما سبق لفت الانتباه إلى أن قبر سليمان شاه سيكون من الآن فصاعداً مثل مسمار جحا، وأحد أهم مداخل الانخراط التركي المباشر في الحرب السورية إذا ما وجد أردوغان مصلحة له في التدخل العسكري في هذه الحرب، لذا رأيناه يكرر تحذيره من أن قبر سليمان شاه خط أحمر وسبب لدخول تركيا في الحرب، وقد بات هذا التهديد مرتبطاً بموافقة البرلمان التركي على التدخل عسكرياً في سوريا اذا ما اقتضت الضرورة مثل هذا التدخل .
لكن، رغم اللهجة "الحربجية" التركية الطارئة حول سليمان شاه أو انطلاقاً منه، لا تبدو تركيا مستعجلة لخوض الحرب ضد "داعش" بدليل أن الضغوط الأطلسية على حكومة أردوغان لم تفض حتى الآن إلى اشتراك تركي في الدفاع عن مدينة "عين العرب" الكردية المهددة بالسقوط بين لحظة وأخرى في قبضة "داعش"، ويبدو الصراع الدائر حولها ميلودرامياً إلى حد أن الأطلسي ينفذ غارات جوية في محيط المدينة الواقعة على الحدود التركية - السورية في ظل صمت مطبق من أحد أعضائه الذي من المفترض أن يكون المعني الاول في هذه القضية التي تسببت حتى الآن بهجرة نحو 200 ألف مواطن كردي سوري، وقد تتسبب بانهيار اتفاق وقف النار بين حزب العمال الكردستاني وحكومة أردوغان بعد الانذار الذي وجهه زعيم الحزب عبدالله أوجلان من سجنه بأن سقوط "عين العرب" سيطلق رصاصة الرحمة على اتفاق السلام الكردي - التركي .
وحتى تكتمل عناصر هذا المشهد الميلودرامي لا بد من الإشارة إلى "تحرير" رهائن القنصلية التركية الذين كان يحتجزهم "داعش" في الموصل في سياق معركة "عين العرب" ما يوحي بوجود تفاهم ضمني أو رسمي بين الطرفين ينطوي على إطلاق الرهائن وامتناع "داعش" عن التعرض للأراضي التركية وللمواطنين الأتراك مقابل عدم تدخل اردوغان في الشؤون "الداعشية" .
إن صح هذا الافتراض فإنه يتيح للطرفين متابعة استراتيجية إقليمية ترتسم معالمها يوماً بعد يوم، ومفادها بالنسبة إلى الطرف التركي التخلص من المتاعب الكردية داخل الحدود وخارجها، حيث يتكفل "داعش" بتحطيم البيئة الكردية السورية وبخاصة في "عين العرب" عاصمة الكرد السوريين التي كانت تؤوي وتوفر الدعم لحزب العمال الكردستاني، ويتكفل أيضاً بمجابهة النظام السوري إلى أجل غير معروف، ومن جهة العراق يتكفل "داعش" باستنزاف إقليم كردستان الذي أصبح أشبه بالإقليم القاعدة لأكراد المنطقة . والراجح أن يعمل "داعش" على إنهاك الإقليم من خلال حرب استنزاف طويلة تمتص ثروته وثروة العراق النفطية .
هكذا يسهم الأتراك بولادة وحش طائفي في منطقة متجانسة مذهبياً بين سوريا والعراق، ويمكن لهذا الوحش أن يتكفل بمجابهة الحركات المعادية للغرب ول "إسرائيل" وعند الضرورة يمكن السيطرة عليه بأساليب عدة، من بينها حاجته للدعم اللوجستي في تركيا التي يمكنها أيضاً أن تكبح جماحه إذا ما قبضت ثمناً باهظاً من المنطقة والعالم، أو أقله السماح لها بإقامة منطقة عازلة في الأراضي السورية تسمح برعاية حرب مفتعلة بين الأكراد والعرب إلى يوم الدين.
المصدر: الخليج